الجِراحُ، أعشاشُ ورد

الجِراحُ، أعشاشُ ورد

عبدالعزيز البرتاوي

الوردة والصديق والنجمة، يجب أن تضع فيهم وردةً وصديقًا ونجمة، وإلا لن تحصل منهم على شيء. هكذا يجب أن نصنع معانينا كما يقول حكيم الأرجنتين الكبير: أنطونيو بورخيا.

من جادّة في منطقة لان كوان فونغ، وسط غرب هونج كونج، منحدرًا على سفح الذكريات، ومعميًّا عن استشراف الآتي بغلالة من حنين رقيق كما ضباب، احتسيت فنجان قهوة، لم يكن فنجان قهوة فحسب.

كانت الابتسامة الحزينة لفتاة يمنيّة لا تعرفني ولا أعرفني أنا أيضًا، لكني أعرفها كما تقول غزلان منذ ألف عام تقريبًا، تشبه مرارة الحلاوة للخمر التي عذبت حتى صارت فوق التحريم، قهوة خالصة سائغة للراشفين. تشرب قهوتها، برفقة الحرب، وتحصي خسائرها. تدفع نقدًا، ثمن قهوتينا، وأدفع دمعًا، ثمن هذا الخزي الذي يجلّلني كلّما قال غريب: هل هو صحيح أنكم تقصفون الجذر الذي نبتت منه شجرتكم؟

في المقهى الآتي بحضن طريق صغيرة تنحدر من جبل كبير كما دمعة، ارتشفنا سويًا، ما لم يكن فنجان قهوة. كان مرصدًا رقميًا لمجازر ترتكب دومًا عن طريق الخطأ، وكأنّ في الحرب صِحّة. كان ارتشافًا، له من القهوة العبق، ومن الدم الدبق.

السابعة مساءً، بتوقيت شرق العالم. الجادة الرئيسة في هونج كونج: كاولون. المركز الإسلامي، منتصبًا بمنائره، كسبابة محكوم بالإعدام، يشهرها في وجه شرطيّ يحكّ كرشه بكآبة، مملولًا من مشاهد السخف التي يعتاد من ثلاثين عامًا -هي كل عمره الوظيفي، وجزء من عمر بلادي-. تنتصب المنائر بشموخ النخل الذي يجاورها، وعلى وقع أذان آسيوي رقيق، يقول لك غريبٌ ما: هل تريد بعضًا من الماريغوانا أو الحشيش أو الهيروين، أو الفتيات. الفتيات نوع من المخدّرات.

أكبُرُ عامًا، وابتسم. هل حقًا نحن نكبر؟ هل يضحك الشفير الداكن المُعدّ لنا سلفًا تحت مسمى قبر، وهو يعاين حفلات أعياد الميلاد التي نقيمها فرحين، بينما هو يزيح بعض حصوات قد تعكر رُقادنا الآتي، والممتدّ طويلا هذه المرة، دون منبه ولا موقظ من حبيب قريب أو هاتف مجيب.

وأتنهّد. التنهيدة، وحدة قياس الروح. هذا هو درس الفيزياء الحياتية، في حصة كيمياء الحزن. كل صباح، أشمّر أكمام روحي، لأحضن الآتي، وأعانق الماضي، ولتقول لي الحياة بخفّة مهرّج: إن مقدار أتعب أتعابها: تنهيدة.

قال لي يمنيّ عابر مرّة: تعجبك الحرب؟ تعجبك صور الأطفال الجوعى؟ الآثار المشروخة كما قلب أرملة؟ الشوارع المقفرة كما معدة يتيم؟ هل تقوم بوضع مقولات منافية للحرب بما يكفي لتعلن أخلاقيّاتك على مواقع التباعد الاجتماعيّ؟ هل تعيد تغريد صور أطفالنا المحاصرين بالجوع والقتل عبر جهاز نقّال من مصنوعات البلد الذي صنع صاروخ قتلهم؟ هل تنام بطمأنينة وأنت تعرف أن لا فرق بين أقصى وأقسى احتلال أجنبيّ يغزو دولة، وبينما تفعله بلادك في بلادي؟

وتردد الصدى المرّ لكلمته الأخيرة: بلادي. يا سيدي، من قبل أن تبدأ الحرب القذرة هذه، وأنا لم يعد لي بلاد. لأنه يا سيّدي، لا يرى الموتى -الأحياء الحقّون في حياة الزيف- في تقسيم البلدان جوازات وحدود ومعابر وخرائط وأناشيد ونياشين ودروس في الجغرافيا والتاريخ، بل يرون بكل وضوح من قبور تتشابه في العتمة، أن ليست هذه الزرائب سوى أوكار لبيع السلاح وتبادل الهتافات العدائية، للمضيّ بحماسة صوب موت يرسمه الرهط المفسدون في المدينة، دفاعًا عن حدود قرّرها أعجميّ إثر سَكرة.

حدثتني غزلان مرة فقالت: “صديقتي لديها جدّةُ أم. كبيرة جدًا كالجبل. إنها ليست جدّةَ صديقتي. إنها جدّةُ أمها. هل تعرف؟ عمرها ربما ألف عام”. قالت غزلان. ثم ماذا يا غزلان، أيتها الفتاة التي تتبرعم الآن، كوردة لا تعرف الضجر؟ ثم ماذا بعد ألف عام؟ ثم ماذا حين ترحل الجدة الكبيرة كما جبل، ويبقى الجبل، شامتًا، بكل هذا الرحيل الذي لا يني يرحل أبدًا.

“أووه، إننا لسنا سوى حفنة من تراب”، هكذا أقول للصحراء الكبيرة هنا، كي لا تشعر بالحرج المتكرر إزاء اعتذاراتها عن كل حفلة غبار هوجاء، تحيق بالمدينة. إننا ابنا عمّ يا سيدتي المدينة. من تراب جئنا، وإليه سنعود، برغم كل ملطفات حفلات عيد الميلاد هذه، وبرغم ضحكة غزلان المطريّة، والتي تلفّ أعناق رواد المقهى مرغمين، يستكشفون مصدر نبعها الدافق.

في الجادة الرئيسة للجزيرة الوسطى لهونج كونج، ضاع صديقي. كان يعاني نوبة سُكر سابقة. التقاه هنديّ، وأعطاه هاتفه النقال. هاتفني على رقمي الدوليّ. حين رددت أعطاني صديقي عنوانه الجديد، وحين سألته رقم من هذا؟ قال لي رقم بائع الماريغوانا أمام باب الجامع الكبير. هل منحته مبلغًا مقابل مهاتفة دولية؟ كلا. لقد رفض قائلًا: إنني يا سيدي مسلم، أقدم خدماتي الخيّرة بالمجان. حين تريد شرورًا سآخذ مقابل ذلك.

عامًا جديدًا يا سيدي، وابتسم. إنني أمضي جادًّا في جادّة الموت. واثقًا كما ينبغي لأحمق. يطالعني ديستوفسكي، أو أيًا يكن السافل الذي قال مرة: “لا تكبر، إنه فخّ”. لكني أمضي. ومعي يمضي ما لا يمضي: الحنين والذكريات.

عامًا جديدًا يا سيدي، لي، وللحرب. الحرب التي تُقطّر الدمَ من يدي، كل ما صافحت يمنيًا جميلا، سمّرته الشمس والمنافي التي اجتذبت لبلاده شاعر باريس الأكبر: رامبو، ليلقى حتفه على شواطئ عدن، ملطّخًا بالقهوة وأثيوبيا وآيات القرآن التي رأى فيها عناقًا للروح، لم تهبه إياه كل فنون باريس وملاهيها.

عامًا جديدًا يا سيدي، والحرب هي الحرب. أكاذيبٌ تكبر كما العمر، وضمير يتصاغر كالأجل. عامٌ جديد، لا تدري لمن توجه صلواتك فيه، أو من أجله: ليبيا، راح سفاحها الأصيل، وجاءها السفاحون بالعملة والزيف. سوريا، من كانت تذوّب البوظة في فمك تحت قباب الحمدانية والأموي، صارت تذوّب قلبك تحت وقع النشرة والرصاص. مصر، صانعة ضحكك الأبهج، أي غصّة تكفي الآن لتشرح مآسيها؟ والعراق الذي كان الجواهري يخشى كسر عينه، يتربع العلوج الشرقيون والغربيون في مآقيه كالقذى والعوار. ولبنان، لبنان فيروز الذي يأتي كأغنية، صار السلام فيه، أمنية. والخليج هو الخليج، ملامحه المدهونة بالزفت والزيت ودعاوى التقشّف على بنيه والعطاء للآخرينَ، تحاول إباءً أن تخفي النشيج.

أصدقائي، أيها البعيدون كالأمل، والقريبون كالسراب، “أصدقائي، مَنْ تبقّى منكمُ يكفي لكي أحيا سَنَهْ. سنةً أُخرى فقط. سنةً تكفي لكي أعشق عشرين امرأةْ، وثلاثين مدينة. سنةٌ واحدةً تكفي لكي أُعطيَ للفكرة جسمَ السوسنة. ولكي تسكن أرضٌ ما، فتاةً ما، كُلِّ الأمكنهْ. سَنَةً وَاحدةً تكفي لكي أحيا حياتي كُلّها، دُفعةً واحدةً، أو قُبْلَةً واحدةً، أو طلقة واحدة، تقضي على أسئلتي، وعلى لُغز اختلاط الأزمنة. أصدقائي، لا تموتوا مثلما كنتم تموتونَ، رجاءً، لا تموتوا، انتظروني سنةً أُخرى، سنهْ. سنةً أُخرى فقط، رُبَّما أُنْهي حديثاً قد بَدَأ، ورحيلاً قد بدأْ”. ولن ينتهي.

وأنتِ؟ أنتِ أيتها التي قالت: خذ، وقال العالم: فلتعطِ. أيتها التي قالت: لتكن ضحكةً، وقال العالم: كن دموعًا. أيتها التي تُشكّل ميعاد صباحي بشروقها، وعتمة ليلي بأفولها، أيتها التي تجري كما نهرٍ، وقلبي مصبّ. تعبر كغيمةٍ، ولهفتي برقٌ ورعد. أيتها التي تجيء بخفّة وردة، وتغيب بثقل جبل. أيتها التي تغنّيها فيروز في كل صباحات بيروت، وتمسح أم كلثوم بمنديلها غبار كعبيها. أنتِ التي تقفين بضفة، ويقف العالم بأخرى. ماذا يمكن للكتابة إن تكتب عنك؟ بالمناسبة: هل تقرأ عيناكِ الآن هذا السطر؟ أي مجد يمكن أن تحوز الكتابة إذًا، فوق هذا؟

عدد المشاهدات : 2180

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment