“صلاة الجنود”

“صلاة الجنود”

رحمة الراوي

أستمع لمقطع موسيقي جميل منذ بضعة أشهر، اسمه “a soldiers prayer”، ويمنحه هذا العنوان لطفاً وجمالاً لا حدود لهما، إذ ما إن أقرأه حتى أتخيل مشهدًا لجنود يصلّون، بأي طريقة كانت، بكل خشوع ورهبة، وكأن هذه الموسيقى رحلة لعالم سماويّ بعيد.

لكنني تخيّلت اليوم، لو كان عنوان المقطع مكتوبًا بالعربية: “صلاة الجنود”، هل كنت سأستشعر هذه الأمور كلها فيه؟ يبدو هذا مربكًا، ولا يمكنني القول بأنني سأرحل مع مثل هذا العنوان إلى أي مكان، بل سأدخل في دوامة تفكير: أي جنود؟ من أي جهة؟ ولأي طائفة ينتمون؟ كيف يصلّون؟ هل يصلّي الجنود؟ الجندي في كلمة أخرى هو قاتل، وقد أدخل في دوامة أخرى من التفكير: هل يمكن لقاتل أن يصلّي بخشوع؟ هل يعرف القاتل الله ويتوجّه إليه فعلا؟ وكثير من الأسئلة الأخرى التي تمرّ في ذهني ما إن أقرأ عنواناً كهذا أو مشابهاً له. وهكذا سأغلق المقطع بالطبع، وأتخلى عن فكرة الاستماع له، سأنفر منه بمجرد قراءة عنوانه.

تروي أمي كيف كانوا في مدينتهم الصغيرة يتعاملون مع أسماء الأموات، فعلى العكس مما يحدث حاليًا، حيث يرغب الأهل بإعادة تسمية أبنائهم بأسماء شهداء وموتى لإحياء ذكراهم، كانوا هناك عند ضفاف الفرات، يتشاءمون تشاؤمًا مخيفًا لمجرد أن يسمعوا اسم إنسان ميت وعزيز عليهم يتردد في مكان ما، حتى أن امرأة سافرت لمدينة أخرى قريبة، وما إن وصلت حتى سمعت رجلا ينادي شخصًا ما باسم كان يحمله شقيقها المتوفى، فهلعت، وأقسمت ألا تظل في المدينة تلك الليلة، فالاسم ليس وحيدًا أبدًا، بل هو ذكرى، وتاريخ، وحياة كاملة، ما إن تسمعه حتى يعيدك إلى كل ما أردت نسيانه.

إنّ تعاملنا مع ما حولنا بهذا التعقيد سببه أننا نربط كل شيء بسياقه العام والنسق الذي جاء منه، ما إن أذكر اسم فتاة ما كاقتراح لتسمية مولودة جديدة، حتى تنهال أسباب الرفض: ابنة فلان المزعجة تحمل ذات الاسم، سياسيّة طائفيّة لديها هذا الاسم، مغنية رديئة تحمله، وهكذا يفقد الاسم محتواه ومعناه اللطيف وما يوحي به، وينتقل لاسم آخر تمامًا، لا يشبه الأول في شيء، أفكر أحيانا بأن هذا واحد من الأسباب التي تجعل الآباء والأمهات يسمّون أبناءهم بأسماء غريبة، لم يسمّ بها أحد من قبل، فهم يريدون الخروج عن النسق المجتمعي الذي يحيط ببقية الأسماء، وهذا ما يحدث فعلا، تقول الأم بأن ابنتها تحمل اسمًا جديدًا تمامًا، وهذا يعني أن الاسم متحرّر من أي أفكار ووجوه وشخصيات قد يحملك إليها ما إن يطرق مسمعك.

هم يهربون مما يحيط بهم ويثقلهم، من الأسماء التي حين نسمعها بلغة أخرى نستشعر معناها الحقيقي والمراد تمامًا، كما كان يحدث معي حين أسمع اسمًا كرديا، أسماء جميلة ولها معان رقيقة: فيان، ناز، آفين، من المودة والحب والدلال، إنها تمرّ برقّة وهدوء على قلبي، فلماذا إذن لا يحدث هذا مع اسم مودة نفسه؟ أو اسم دلال؟ لأنني أهرب من النسق والسياق الذي يحاصر تلك الأسماء، مودة اسم يحيلني إلى فتاة، أو اسم شركة، أو مشروع، ودلال قد تكون ممثلة سيئة، أو طفلة مملة. وهكذا سيفقد الاسم معناه، ويصبح ذا معنى آخر اكتسبه من تداوله في المجتمع وما يوحي به لكل شخص. وهذا ما يحدث مع أي إنسان مثقل بواقعه وأشياء هذا الواقع.

أردد ومنذ عدة سنوات، وفي كل مكان أنني لن أقرأ رواية عراقية تتحدث عما يجري في العراق أبدًا، لا أحداث حرب إيران ولا حرب الخليج ولا ما بعد 2003، وما زلت أرفض ذلك، لا يمكنني أن أعيش كل هذا، ثم أعود لأقرأه في رواية! يبدو هذا تعذيبًا للنفس، فأنا أريد من الروايات عالمًا آخر، غير عالم الحرب والقتل والجثث المجهولة، لكنني لا أتردد أبدًا في قراءة رواية روسية تحكي عن الحرب العالمية الثانية، أو ألمانية تروي مآسي الألمان واليهود أيام النازية، وأتفاعل معها وأتأثر بها بطريقة كبيرة، وبدأت أتساءل: ما الذي يجعلني أنفر من قراءة رواية عراقية عن الحرب، وأقبل على أخرى روسية عن الحرب أيضاً؟

هو ما تحمله الرواية نفسها، فعالم الرواية الغربية، أيا كانت جنسيتها الآن، لا يشبه عالمي الذي أعيش فيه وأحاصر بمصطلحاته وتسمياته، لا يحيط ثقله بنفسي، دون أن أستطيع الانفكاك عنه، بينما الرواية الغربية عالم آخر تمامًا، حتى وإن كانت عن الحرب، إنها بطريقة ما لا تخصّني، لا الأسماء، لا الكنى، لا الأماكن، ولا وجوه الأعداء، فهل سأشعر بالشعور ذاته حين يمرّ عليّ في رواية عراقية اسم قاتل، حين يكون اسمًا روسيا؟ العراقية ستضغط على ذاكرتي، وألمي الخاص، لن تسمح لي بالتخيّل، ولا الذهاب إلى عالم بعيد عن الواقع، بينما الأخرى، لن تثقلني فيها الأسماء، لن يحيلني الاسم إلى وجه معروف أبغضه شخصيًا، بل هو اسم مجرد من الماضي والوجه والحياة، تصنعه له الرواية، وأتخيله أنا. وهذا يحدث أيضاً حين يمرّ اسم روسي أو ألماني وأنا أقرأ، سأقرأ لحن الاسم، وأبحث عن معناه، وأتفاعل مع قصته الموجودة في الرواية، لكنه لن يكون جزءاً من واقعي الذي يعطي لكل شيء معنى آخر.

أعتقد أن الخروج من نسق اللغة التي نعيش بها، والحياة، والتسميات، هو طريقة هروب جيدة، وواحد من دروب التخيّل الجميلة، لأنه متحرّر من ثقل الواقع الذي نعيشه، بكل ما يحمله من تسميات، ومصطلحات، وأسماء أماكن، وحروب. حربهم الماضية، ليست حربي اليوم، ولذا، فلا تؤرقني.

عدد المشاهدات : 700

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.