أنا والقراءة

أنا والقراءة

مدير التحرير

من الأشياء التي تعوضني عن كوني مصابا بالأرق، مقيمًا في بيت يحاصره الجليد، وتملؤه الكتب، أن يكون بوسعي طول الوقت أن أعثر على شيء أقرؤه، وألهِّي به نفسي عن أي مزاج أكون عليه. وحينما يسوء الوضع بحق، أجول في البيت وفي يدي كشاف كأنني شبح والد هاملت، لأتناول كتبًا من المكتبة، وأفتحها كيفما اتفق، أو أقلّب في صفحاتها إلى أن أعثر على ما يثير اهتمامي، فبعدما أنتهي من قراءته، أعود إلى السرير سعيدًا، أو أتحسس الطريق إلى كتاب آخر.

أقرأ فقرة أو اثنتين، وفي أقصى الحالات صفحة، لأنني إن زدت عن ذلك، أكون معرضاً لخطر البقاء ساهرًا شطرًا كبيرًا من الليل. فكل ما أحتاج إليه -بحسب المعجم المطبخي- هو نتفة على طرف السكين، تخلّف في الفم طعمًا مستقرًا. وقد يتساءل قارئ: وهل ذقت الشعر يا أخ؟ والشعر باعث على النعاس، لا يدانيه شيء آخر في ذلك. فبفضله نام ملايين البشر عبر القرون نوم الأطفال. ولكن كوني شاعرًا، وواحدًا من الأعزاء على قلب ربة الشعر، فإنني للأسف محصَّن من تعاويذها المخدِّرة.

لدي بدلاً من ذلك يوميات هوغو بول، المخرج المسرحي الطليعي، وواحد من مؤسسي الدادا (مع كل من تريستان تسارا ومارسل جانكو) الذي افتتح في الخامس من فبراير (شباط) سنة 1916 “كباريه فولتير” في زيورخ ليشتهر بسرعة البرق. كان الكباريه يقع في حي سيء السمعة مليء بالحانات، والاستعراضات المتنوعة، والفنادق الرخيصة، في مدينة تبدو في ظاهرها شديدة النظافة خالية من العيوب يقيم فيها كثير من الفنانين والكتّاب والصحفيين والمثقفين المغتربين الهاربين من التجنيد في بلادهم، علاوة على كثير من أغنياء الحرب والجواسيس. كان لينين يستأجر غرفة في حارة ضيقة على مقربة من حيث كان جويس يعمل على عوليس. لم يكن الكباريه يتسع إلا لخمسين شخصا وخشبة ضيقة يعتليها أشخاص يرتدون الأقنعة والثياب الملونة المصنوعة من الورق المقوى وطلاء الملصقات، بصحبة طبول، وأغطية حلل، وطاسات قلي، فيمثلون قصصاً مرحة ويلقون قصائد بلغة من اختراعهم تبدو على النحو التالي:
غادجي بيري بيمبا
غلاندريدي لاولي لونّي كادوري
غادجاما بيم بيري غلاسّالا
غلاندريدي غلاسّالا توفّم لزيمبرابيم
بلاسّا غلاسّاسا لزيمبرابيم.

فإما أن الجمهور كان يتجه إلى الباب أو ينقلب على الأرض من شدة الضحك. كانت مجزرة الحرب العالمية الأولى خلفية وهدفاً لهذه السخرية من الحضارة الأوربية التي سمحت بوقوعها. يكتب بول في يومياته قائلاً: “إننا كنا نقيم حفلة وقداساً في نفس الوقت”. لن يكون التاريخ، بوصفه قوة مأساوية، شاذاً بأية حال في أي من مسارح برودواي اليوم، هكذا قلت لنفسي وقد عدت إلى السرير متخيلاً مسرات ذلك.

في ليلة أخرى، قلت لنفسي إنني بحاجة إلى النظر في “سلوان الفلسفة” لبوثيوس Boethius’ The Consolation of Philosophy الذي كتبه الباحث ورجل الدولة المرموق وهو ينتظر تنفيذ حكم الإعدام سنة 524 في بافيا بناء على تهم ملفقة. يحكي الكتاب قصة رجل، يعاني بلا جريرة، ويبكي مصيره، وفيه حوارات مطولة مع الفلسفة، التي تتجلى له سيدة رفيعة المقام تقول له إن بالإمكان مصادفة الحكمة والسعادة حتى في الشدائد، فهي التي تحررنا من ارتباطنا بالعابر، والدنيوي، أو شيء من هذا القبيل. ولكنني لسوء الحظ لم أتمكن من العثور على الكتاب، فكان لا بد أن أعزي نفسي بديفيد هيوم، فيلسوف القرن الثامن عشر الأسكتلندي الشهير والبدين الذي قال في حقه معاصروه المحبون إنه أحدث صدوعا في كل مقعد جلس عليه. متصفحا كتابه “في الطبيعة والفهم البشريين” صادفت هذه الأمثولة:

“لو جاءنا رحالة راجع من بلد بعيد بحكاية عن بشر مختلفين كل الاختلاف عن كل ما عهدناه، فهم رجال نبذوا الجشع والطموح والانتقام، ولا يعرفون سعادة إلا في الصداقة والكرم والمحبة، فهل نستشعر من هذه الملابسات زيف حكايته ويثبت لدينا كذبه بمثل اليقين الذي كنا لنجده إن هو ملأ حكايته بقصص عن التنانين وأنصاف البشر أنصاف الخيول والمعجزات والأعاجيب؟”.

همممم، قلت لنفسي بعدما قرأت هذا، إنه يذكرني بعض الشيء بالتقارير الواردة من الاتحاد السوفييتي في عهد ستالين وقد كتبها بعض المثقفين الفرنسيين، أو أحد ساستنا المؤمنين بالتفرد الأمريكي. غير أن ذلك يفتقر إلى فعالية المسكِّنات. بل إنه كفيل بإثارتي إلى التفكير في السبل العديدة التي يمكن من خلالها إعادة الاشتغال على أمثولة هيوم لجعلها أنسب للظروف الراهنة، فأسهر لأسبوع.

ومن حسن الحظ أنني أعثر على أحد كتب باري حنا بجواره. “وأَضْيَعُ الأيام يوم لم يضحك المرء فيه” كما قال مرة شامفورت فيلسوف القرن الثامن عشر الفرنسي العظيم والظريف. وفي علاج الحزن يغلب الضحك الفلسفة، وقصص وروايات كاتب الميسيسيبي الراحل هي الأقدر على إبهاج الرجل وإن كان مقضيا عليه بالموت.

وإليكم، لكي تأخذوا فكرة، بداية قصة “كذابي الماء” من مجموعة عنوانها “مناطيد”:

“أمضي، حينما تضربني الدنيا، ويتكالب عليّ العالم، إلى خليج فارت على نهر يازو، مصطحبا زجاجات البيرة إلى طرف الجسر الذي لا يزال يأتيه الكذابون الكبار، فيتغامزون ويثرثرون. كل مرة يكون الجمع مختلفا، إما بسبب الموت أو الإصابة بالإمساك أو غير ذلك مما يترتب عليه أن يلزم بعضهم بيوتهم في انتظار يوم يصح فيه التقاؤهم للكذب من جديد، وهم متكئون على سور الجسر بمعاطفهم الممتلئة جيوبها بالبسكويت. وغالبا ما يكون هناك ابن الرجل الذي سُمِّي باسمه الخليج، وهو ينطق اسمه فارتاي، بتشديد فرنسي كبير على المقطع الأخير، ولولا ذلك لأضحكك تاريخه أو لتجاهلته لتركز على الاسم كما هو مكتوب على لافتة.

كان على المحترم المسكين أن يحكي عن آيات نبله لنصف أمريكا شبه الجاهلة، قبل أن يتمكن من المضي في حوار لائق مع أي أحد. ولكن مستر فارت الابن في المقابل كان هو الآخر كذابا عظيما، يتكلم عن أشباح يراها حول البحيرة، ويحكي حكايات مكشوفة عن أحجام السمك الذي كانت تصطاده الأشباح من الخليج في تلك السنوات الغابرة ….”.

ولأني قرأت القصة من قبل، وأعرف ما هو آتٍ فيها، فقراءتي حتى ذلك القدر كانت كل ما يلزمني لتحقيق هدفي، وهو أن أغمض، وأذهب إلى النوم وقد ارتسمت الابتسامة على وجهي.

* نُشرت هذه المقالة، في صحيفة نيويورك تايمز، في مدونتها الخاصة “ريفيو أوف بوكس”، للشاعر والمترجم والكاتب الأمريكي من أصل صربي: تشارلز سيميك. ترجمها للعربية: أحمد شافعي.

عدد المشاهدات : 746

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.