الإنسان بالنهاية .. قضية

الإنسان بالنهاية .. قضية

عبدالعزيز البرتاوي

قمت للتوّ من سرير وثير، متمددًا إثر إفطار شهيّ. في العصر، كانت أحياء عليشة، القاطنة في أغنى عاصمة عربية، تزخر بالبترول والفساد، تمرّ عليّ بيتًا، بيتًا. قرّرنا هذا العام، أنا العاجز أدناه، ورفقة الأبرار، الذين بهم تتجمّل حياتي، أن نأبه لهم أيضًا، في هذا الـ رمضان ورمضه. لا زالت سنيّهم نفس السنين، عجافًا برغم كل أكاذيب “دامك بخير”. لا زال في غرفة نومي وحدها من الأثاث، ما هو أثرى من عشرة بيوت هنالك. وما زالت أيديهم ممدودة لكلّ عابر، وما زال الجوع هو الجوع، يا أيها العالم الطمّاع، الكاذب والمريع.

بعد الإفطار، أتأمل ما يكتبه رجال بلادي –رجال تشمل كل امرأة كتبت لوليد-، عن اعتقال وليد أبو الخير. مرة واحدة التقيت وليد. رفقة سمير خميس، بمعرض الكتاب. كنت أشكّ قبلها بوليد. لم أحبّ وليد من قبل. كان يبعث الريبة، بكل ما يملك من نشاط وجرأة. ثم التقيته بمعرض الكتاب، قبل عامين. كنا نلبس زي البلد الرسمي، آخذين أبهتنا كاملة في هذا الحفل الاستعراضي الكبير. جاء وليد، قلنا له نحن الذين نعرفه، ولا يعرفنا: عن إذنك وليد، ممكن تجي معانا شوي. كانت لهجة “مباحثية” بدرجة أولى. لكن وليد، بجرأته المعتادة منه سلفًا، منحنا بسمة، وجاء. أوّل ما انزوينا به، طوقت رأسه من الخلف، ومنحته قبلة على الجبين. فعل سمير مثلها. وليد المرتبك لفعلنا، الخجِل منه، قال بحبّ طاغ: لماذا كل هذا. قلنا له: وليد، منذ الآن أنت بطلنا، فلتبقَ كذلك، ولا تحسبنّك برغم الصمت وحدك. ومضينا إثرها، لا يعرفنا وليد، ونعرفه منذ الآن أكثر.

بالمناسبة: لا يعنيني أمر الخلافة. ولا تخلّفها. التخلّف بكل معانيه. والأحمق الذي بعث رسالة يستفسر مني في أمر سياسي، ليس لديّ له سوى الشتيمة. أنا فارغ حقًا، ولكن ليس إلى درجة أن أتابع رئاسة لبنان، أو انحطاط عباس، أو خطبة الأعجمي الذي زعم نفسه خليفة. أنا متشرد على ضفاف الصحف العالمية، لكن لا يستوقفني “منح” 11 ملعبًا، لأبناء بلادي، بينما لا زلنا نتسول مكرمة ملكية، لنتعالج من حصبة، وننجو من سرطان. أنا مكرّس للضياع، لكني أربأ بعمري أن أنفق منه ثانية لأقرأ حرفًا مما يخطه محمد آل الشيخ السياسيّ، أو أخته الشيخة من إلحاد.

ممتنعًا عن الكتابة. متمنّعة عليّ. لا أطلبها، وبداهةً: لا تطلبني. لكنه يحين بك من الضيق أحايين، تستبدّ برأيك، وشرسًا سلسًا تفض بكارة الكلمة. الكلمة التي هي آخر ما يبقى. الكلمة التي تجيء نعشًا، وتجيء عرشًا. الكلمة التي تقولك، ولا تقول غيرك. الكلمة التي هي صرخة، والكلمة التي هي تنهيدة، والكلمة التي هي عواء.

الكتابة التي تحزنني، وأنا أطالع رحيل “فؤاد عجمي”، بمحنه كلها –كتابه الأول الذي ينصح عادل الطريفي بقراءته: المحنة العربية”. هذا البائس الكبير، من تروج له الشرق الأوسط، وتنعاه قناة العربية، بوصفه مفكّرًا لامعًا، ورجل رؤية كبير. رحل عن عمى. بائسًا، لا يذكر. من مارس جلد الذات، حدّ الانسلاخ. وانطلق إلى الآخر، شاتمًا “هؤلاء العرب”، ومرددا بين الفينة والأخرى: “نحن الأمريكان”، “إننا كأميريكيين”. أيها المرتزق، مهما طالت بك الآماد، وامتلأت جيوبك بالدولارات، وتدهّن جلدك بالزيت والبترول، إن مصيرك الخزي، ثم النسيان. ضغطة زر في أي محرك بحث، عن “فؤاد عجمي”، وسترى أن لا أحد ينعاه، سوى موقع إيلاف، وباقي تآلفات الهزيمة الفكرية. وطيور الارتزاق على أشباهها تقع.

وماذا أيضًا؟

أوبة لوليد. وليد الذي لم أكن أحبّ. لربما من حسنة هذي الأوطان يا وليد، أن لا يخرج فيها، لامعًا شامخًا، برغم لهاث البعض، إلا الرجال الرجال. من تلمّعهم شتائم السوقة، وتصقلهم مرارات الأيام، وتحتّ الزيف عنهم، سنيّ سجون الطغاة. من لا يأبهون لتعداد متابعيهم، أكثر من عدّ سنيّ سجونهم. من يرون الإصلاح فريضة، لا موضة. من لا يركبون الأمواج، للتريض والظهور، بل للمغامرة والإنقاذ. من لا يسرحون شعورهم، كل يوم بزيت، كل حين بطريقة. من أطالوا لحاهم في الماضي، وقصّروا ضمائرهم في الحاضر. من تبتسم لهم الصفحة الأولى، وتستقبلهم صالة الدرجة الأولى. الكذبة، حاملوا بطائق البنك الإتمانية، زائغوا العيون، نحو ساق المذيعة، عليهم اللعنة أينما حلّوا، يلعنكم التاريخ، ونحن نتقزّز حين نراكم.

وأنا أعرف أن عليشة، لا يهمّها هذا الأمر، ولا تفكّر فيه. وأنا أعرف أن غليل، والكرنتينة، وقويزة، قويزة التي قال لي مهندس كهرباء سابق: إن أول حيّ يقطع عنه الكهرباء، في فترة الذروة، حين الاضطرار: قويزة. قويزة الحزينة التي تلملم أشياء غرقاها منذ أعوام رحلت، ولا زال فاسدوها باقون. لماذا قويزة أولا في قطع الكهرباء، لأن صيدلية قويزة الكبرى، التابعة لأمير أيضًا، تبيع أعلى معدل أدوية للضغط والسكري والكلسترول والربو والمهدئات. لأنه حي البسطاء، المهمشين، من لا يؤبه لهم، ولا في بيانات حافز.

وأنا أعرف آخرًا، أن خروجي هذا، لم يكن لأمر، سوى للكتابة. وأن تخرج للكتابة، يعني جهادًا حتى ترجع. وأن كوب القهوة آنذاك، رفيق جهاد، وأن المقهى خندق. وأن كل هذا الترف، لا تأبه له عليشة، وأنه لن يقرأك أحد هناك.

عدد المشاهدات : 2291

 

Tags: , , , , , , ,

 

شارك مع أصدقائك

4 Comments

  1. Pingback: الإنسان بالنهاية .. قضية | مدونة وليد أبوالخير