برنارد لويس .. ثمانون حولًا من التغطرس والتصهين

برنارد لويس .. ثمانون حولًا من التغطرس والتصهين

مدير التحرير

لجأ بعض العرب المدافعين عن برنارد لويس (1916 ــ 2018) إلى تكتيك كسيح، في المنهج كما في الحجة، مفاده أنّ «بطريرك الاستشراق»، كما اعتدتُ وأفضّل تسميته، لم يكن معادياً للإسلام؛ بدليل أنه من «أعظم المتبحرين في تراثنا الإسلامي الكبير»، وأنه كان «يعرفه أكثر مما نعرفه نحن»! وبصرف النظر عمّن تمثّل هذه الـ»نحن»، التعميمية والغائمة والركيكة، فإنّ التبحّر والمعرفة في ميدان ما، ليسا ضمانة لغياب العداء؛ بل يمكن أن يشكّلا في ذاتهما أفضل أدوات صياغة العداء، وربما أكثرها مضاء في ترويج أطروحات المعادي. ثمة فارق، وبون شاسع، بين المعرفة وتسخيرها، وبين الخطاب والمخاطَب، ومادّة التاريخ الفعلي الملموس في غمرة هذا التكوين الجدلي كلّه.
ذلك، أغلب الظنّ، ما يتعامى عنه العربي المدافع عن لويس، أو يتقصد عدم الوقوف عنده، رغم أنّ إجراء كهذا ينبثق من أولى درجات المنطق، والمنهج الأوّلي؛ ورغم أنّ المدافع إياه قد يزعم التتلمذ على أفكار ميشيل فوكو دون سواه، حول تاريخية الخطاب تحديداً! وأن يبدأ مؤرخ شاب مثل لويس حياته الأكاديمية في رفوف الأرشيف الغنيّ للإمبراطورية العثمانية، منذ العام 1950، وكان أوّل غربي يحظى بهذا الامتياز؛ أمر مختلف عن الاطوار اللاحقة التي جعلت المؤرّخ ذاته يقدّم لأمثال جورج بوش الابن ونائبه ديك شيني ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد نصيحة صريحة بغزو العراق، لأنّ العراقيين سيستقبلون الغزاة بالأهازيج والأزهار، ولأنّ هذا هو الدرب إلى الديمقراطية.
أمر مختلف، أيضاً، أن يتبحر لويس في التاريخ الإسلامي، من جهة أولى؛ وأن يوظّف هذا التبحّر في خدمة مشروع استعماري استيطاني عنصري مثل الكيان الصهيوني في فلسطين، من جهة ثانية. الرجل ولد في بريطانيا، ثمّ عاش في الولايات المتحدة واكتسب جنسيتها، وفيها توفي مؤخراً؛ لكنه أوصى أن يُدفن في تل أبيب، وليس في أيّ مكان آخر. كما قام ذات يوم، سنة 1971 (من موقع الأكاديمي المحبّ للسلام، كما قد يقول المدافع العربي الركيك!) بحمل رسالة سرّية من الرئيس المصري أنور السادات إلى رئيسة وزراء دولة الاحتلال غولدا مائير. وهو الذي سوف يساجل بأنّ بيان أسامة بن لادن، الداعي إلى إعلان الجهاد ضد القوّات الأمريكية المتواجدة في الجزيرة العربية، يثبت أنّ دوافع «الإرهاب الإسلامي» إنما ترتد إلى أصول تاريخية وفقهية في قلب الإسلام ذاته. ولم يطل الوقت حتى ربط بين ذلك البيان، ولجوء الخليفة عمر بن الخطاب إلى طرد يهود خيبر ومسيحيي نجران من جزيرة العرب، تنفيذاً لوصيّة النبيّ محمد كما كتب!
ثمة، هنا، امتزاج دائم بين التغطرس الاستشراقي (بمعنى الانطلاق من أنّ معضلة الإسلام لا تُحلّ إلا بخضوعه، أو حتى إخضاعه، إلى القِيَم الغربية، والثقافة اليهودية ـ المسيحية تحديداً)؛ وبين تصَهْيُنٍ يُدرج الصهيونية لا كفلسفة سياسية واستيطانية (وعنصرية، بالضرورة)، بل يلقي على عاتقها مهمة تمدينية على غرار ما زعمت المشاريع الاستعمارية أنه واجبها إزاء الشعوب المستعمَرة.
طرد 850 ألف فلسطيني خلال سنوات قليلة أعقبت تأسيس الكيان الصهيوني قبل وبعد 1948 لم يكن سوى عاقبة لتخلّف الشعب الفلسطيني، وللفشل السياسي الذي عانت منه المنطقة؛ وهذا، أيضاً، كان تفسيره للمشاريع الاستعمارية والإمبريالية، وواحدة من أبرز نقاط النقد المعمق الذي جوبه به لدى عدد من كبار مؤرّخي الغرب المختصين بدراسة الإسلام.
طريف، هنا، أن يتذكر المرء واقعة توضح طبائع استثمار لويس لما يتبحر فيه ويعرفه من تاريخ الإسلام والمسلمين. ففي 8 آب (أغسطس) 2006 نشر مقالة أثارت ضجة عالمية، لأنه تنبأ بأنّ إيران سوف تشنّ هجوماً نووياً على إسرائيل، وربما بعض البلدان الأخرى في الغرب، يوم 22 آب/أغسطس تحديداً. لماذا؟ لأنّ ذلك اليوم يصادف 27 من رجب، سنة 1427 للهجرة، أي يوم الإسراء والمعراج، الذي قد يكون مناسباً أيضاً لعودة الإمام الشيعي الثاني عشر من غيبته، حسب تأويل الرئيس الإيراني يومذاك، محمود أحمدي نجاد. صدّقوا أنّ هذا ما تنبأ به «بطريرك الاستشراق»، ولم تُنشر النبوءة في مطبوعة صفراء أو موقع تنجيم وتخريف، بل في صحيفة «وول ستريت جورنال» دون سواها!
وفي الاحتفاء بالعيد المئة لميلاد لويس، تساءل إيتمار رابينوفتش، رئيس «معهد إسرائيل» وسفير دولة الاحتلال الأسبق لدى أمريكا: «هل يمكن للمرء أن يكون، في آن معاً، صهيونياً ومؤرخاً كبيراً للإسلام؟». إجابته كانت الـ»نعم»، بالطبع، ولسبب كان في نظره طافحاً بالمنطق: «لا أحد، عادة، يسأل ما إذا كان في وسع باحث أمريكي بروتستانتي، يعيش في أمريكا خلال زمن الحرب الباردة، أن يكون مؤرخاً كبيراً لروسيا وخبيراً بالسياسة الخارجية السوفييتية»! هكذا ببساطة، إذن: الصهيونية نظيرة البروتستانتية، والإسلام نظير القضية الفلسطينية، وبالتالي في وسع لويس أن يؤرّخ للملفّين معاً، بلا أيّ حرج أو طعن في المصداقية. «إنه أولاً وأساساً باحث، ومؤرّخ قدّس المعايير المهنية. وهو شديد الاهتمام بالسياسة، وقد أسهم كمثقف عمومي في كثير من النقاشات حول الشرق الأوسط. كما أنه يهودي فخور، وداعم ملتزم للدولة اليهودية»، تابع رابينوفتش.
والحال أنّ لويس رأى، على الدوام في الواقع، أنّ الشرق الأوسط سرمدي جامد ثابت، ولن يتغيّر إلا على نحو أسوأ، على يد الأصوليات والأصوليين؛ «حين تدخل الثورة الإسلامية طورها النابوليوني أو الستاليني فتتمتع، مثل أسلافها اليعاقبة والبلاشفة، بفضيلة وجود طوابير خامسة في كل بلد وجماعة على صلة بخطابها الكوني العام»! وهو لا يعيد استظهار الكليشيهات القديمة، التي كرّرها وأعاد تكرارها، فحسب؛ بل يذهب أبعد حين يردّ البغض العربي والإسلامي للولايات المتحدة إلى عنصر «الحسد» من قوّة عظمى مهيمنة غنيّة متقدّمة، لم تخسر أيّ حرب منذ تأسيسها! نعم، الحسد فقط، وليس سياسات الولايات المتحدة في الانحياز الأقصى لدولة الاحتلال، وغزو الشعوب، ومساندة طغاة العرب وناهبي الثروات ومبدّدي المليارات على عقود الأسلحة الفلكية…
أيضاً، واستطراداً، يساجل لويس بأنه لا فائدة تُرجى من محاولات إصلاح العرب والمسلمين، لأنه ما من أمل في مصالحتهم مع قِيَم الغرب؛ هذه التي يحدث الآن أنها تُفرض على الجميع، بالترغيب أو بالترهيب، بوصفها قِيَم العالم بأسره. ونبوءته الرهيبة للأقدار التي ستواجه المسلمين، والعرب خصوصاً، تسير هكذا: «إذا واصلت شعوب الشرق الأوسط السير على طريقها الراهن، فإنّ صورة الانتحاري الفلسطيني يمكن أن تصبح استعارة تمثّل المنطقة بأسرها، ولن يكون هنالك مفرّ من الانحدار نحو الكراهية والحقد، والغضب وكره الذات، والفقر والقمع». هكذا، دون أيّ تأصيل اجتماعي أو سياسي أو تاريخي أو استعماري لجذور صعود الإسلام الجهادي، الضاربة في تاريخ المنطقة وعقائدها.
تبقى حكاية أخيرة، لا تختصر جوهر ثمانين حولاً من اشتغال لويس على شؤون الإسلام وشجون المسلمين، فقط؛ بل لعلها الكاشف الأوضح على الباطن الذكوري في استشراقه، وأنه لم يخرج كثيراً عن عقلية إدوارد لين، سلفه البريطاني الذي ترجم «ألف ليلة وليلة» وكأنها أولاً كتاب في الفنون الإباحية. سُئل لويس، خلال ندوة مع محرري مجلة «أتلانتيك» الأمريكية، عن انطباعه حين زار الشرق الأوسط للمرة الأولى، فقال: «كنت طافحاً بالعاطفة، مثل عريس شرقي يوشك على رفع الخمار عن عروسه التي لم يقع بصره عليها من قبل». فأيّ «تبحّر» أكثر غطرسة في ملاقاة الشرق، وأشدّ تحقيراً لأهله وثقافته، وأوضح نزوعاً إلى انتهاك الآخر!

 

________________
* المقالة المنشورة في أعقاب رحيل برنارد لويس، للكاتب والمترجم القدير: صبحي حديدي. نُشرت بصحيفة القدس العربي، 25 مايو 2018م.

عدد المشاهدات : 341

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.