تمضي الأيام ويتذكّر

تمضي الأيام ويتذكّر

مدير التحرير

ذات يوم، وبينما شعور العزلة يغمره، سيتذكر الفتى، من بين ما سيتذكر، أماً جليلة عاشت وحيدة. سيكتشف، بعينين تتعرّفان إلى طبائع غريبة، أن هذه الأم كانت تضحك عندما تريد البكاء، تتظاهر بالفرح حين يداهمها الحزن، كي يمضي، هو، بلا ألم.

يمضي ويكبر، ويتذكر: مرّت الأيام والشهور والأعوام، والأم محشورة في ركن المنزل الصغير، تصفعها العزلة ويحاربها مرور الزمن، بينما همّها أن نحيا، أن نمضي قدماً.

نمضي، نحن الأبناء، وتبقى هي، وحيدة، تنتظر عودة زوجها من معاركه اليومية الطاحنة، تلك المعارك التي اعتاد مقارعتها بروح جبّارة، كي يحمي عائلته من غدر رغيف أسمر. تسأله عن يومه وحاله. تأتيه بالطعام. ثم تفتح الباب، تباعاً، للأبناء. تسألهم عن يومهم وأحوالهم. تأتيهم بالطعام.
كيف حالها، هي؟ لا أحد يسألها.

 

تحمل صحناً من هنا، وكوباً من هناك. تغسل القدور. تسمع صوتاً يقول: «أين ثيابي؟!»، وتأنيباً بصوت عال: «أخبرتكِ أنني تأخرت!». تمضي، هي، بين هذا وذاك، تبرر بنبرة مستكينة، توضح بهدوء، وتنتظر الإجابة عن سؤالها المحبب: «هل كان الطعام شهياًً؟».
يكبر، ويتذكر: متى اصطحبها في نزهة، ولو لنصف ساعة؟ متى سألته عن حاجة لنفسها؟ ماذا يحدّثها، سوى أن «الطعام كان شهياً» كي تصفق هي، فرحاً؟ هل هذه حدود حياتها؟ أن ننجح نحن، الأبناء، ونمضي قدماً؟ نحن نحيا لأنفسنا. هي تعدّ الطعام، وتنتظر مرور الأيام. نحن نهلع إذا أصيبت بمرض، لكن هل نفديها بدمنا.. هل نموت كي تحيا؟
كان يعود إلى المنزل مصاباً بنوبات غضب بلهاء، وعندما تسأله عن حاله، لا يجيبها. يومئ إليها، بنظرة تواطؤ، أن تخلد إلى النوم وتتركه وحيداً. وما إن تختفي من جواره، وينظر إلى الكنبة وقد خلت، حتى يكتشف قبحه، ويختنق.
تمضي الأيام، ويتذكر: كم من ألم داست عليه كي تحمينا؟ كم من حياة تخلّت عنها كي تعطينا؟ كم من دموع ذرفتها وهي وحيدة؟ كم من لوم مجحف ظالم تحمّلته كي تبقينا؟ كم من حنان منحتنا ولم نسقها؟
يكبر. يقف حيناً ويتعثر حيناً. يتذكر: هذه الأرض التي فيها وُلد وضحك ونما وبكى، هي التي لأجلها يقف ولأجلها يحيا، لأجلها يحلم. هي التي تراقبنا نتحارب ونخاف بعضنا بعضاً. تنظر إلينا وتبكينا، تعطينا ولا تأخذ منّا إلا النكران والنسيان، تحتضن آلامنا وتتحملها.
يكتشف أن الأم الجليلة هي التي علّمته حبّ الأرض، الأوطان، لأنها شبيهتها: منسيّة. أخبرته أن هذه الأرض تستحق النهوض بعد التعثر، علّمته أن يحملها إلى أعلى المراتب ويتحملها. أخبرته: الحب يعني أن تكون محبوباً.
يكبر. وبينما شعور العزلة يغمره، يكتشف: الأم الجليلة لا تسأل عمّن يحبها كي تمنحه حبها. هي، مثل هذه الأرض، ننساها، نلومها، لكنها تحبنا. تعطينا ما نريد، ولا تأخذ. تبكي حين يداهمها الحزن، وحيدة.
ذات يوم، مصادفة، يعرف: الأم غدرتها قبل شهور ضربات صحية مؤلمة، لكنها طمرتها في بئر عميقة، دفنت سرّها كي نمضي، بلا ألم.
سنمضي، ونتذكركِ دوماً: نحن هنا. سنحيا لأجلكِ، ولأجل هذه الأرض، شبيهتك العارفة المتحملة، الجليلة.
اعذري قبحنا، اغفري الأنا التي تلاحقنا، فأنتِ مثل أشجار النخيل: يرمونها بالأحجار، لكنها ترمي أجمل التمر.

 

___________________________________
* نُشرت هذه المادة بجريدة السفير. لـ: جعفر العطّار.

عدد المشاهدات : 1078

 
 

شارك مع أصدقائك

2 Comments