خبايا تحت الشمس

خبايا تحت الشمس

وليد الحارثي

الحكايات التي نحكيها تعبر نحو الأرواح، حكايةً حكاية. تُلامسها كما لو كانت سكّرَ كوبِ القهوة المقطرة من بنما. لا طعم للقهوة في حضور مكعّب السكّر.

أحياناً تبدو تلك الحكايات المُخبأة، غبارًا يبحث عن نوافذ مفتوحة ينتشر منها إلى ما لا نهاية، شأنها شأن الأحاديث المنمنمة، التي تتجلى تحت ضوء الشمس.

تمضي الأوقات، ونحن نجهر بالسرائر كإذاعة في ستينيات القرن الماضي، تُبربر في السياسة والاجتماع والشعر وبعض الخطوط الحمراء. نجول المقاهي الجديدة في المدينة، نكتشفها، نكتشف أنواع القهوة فيها، ولا مانع من تقييم نادليها. نكتشف الأشخاص الذي يجلسون فيها لبعض الوقت. يتحدثون، يسرّون إلى بعضهم البعض، نحاول أن نبحث في وجوههم عن بعض الأسرار، ثم نضحك، نقرأ الأخبار ونبكي، ثم نصمت من جديد.

نعود لنتكلم كما لو كنّا عائلة واحدة، إذ يتكوّم خلفنا من يدس وجهه في صحيفة منتهية الصلاحية، وينصت باهتمام. الصمت الذي كان علينا أن نتكلم به، لم نجده الا في ثفالة أكواب القهوة، وبقايا الشاي الأخضر المنهمك في تبيّن كنه حقول النعناع الذي غزَته.

تبدو تلك المستودعات متضخمة بالأسرار، هكذا قال أحدنا. لكنها لم تخضع يوما ما لجردة، أو لكشف مخزون، قال الآخر. لكن الشفاه الحمراء التي عجزت عن تزييف البسمات، والعيون البراقة -الزرقاء خصوصاً- تجهر بالكذب بعد أن دسّت الصدق داخلها.

هل تتذكر تلك الفتاة؟ الـ هاتفتني مؤخراً، أخبرتني بأنها تعمل في مكتب معاليه، بينما صديقتها تلّون الحياة بريشة يتطاير منها السحر. تنتهي حكاية ما، وتُغلق الصناديق حتى إشعار اخر.

هل أحكي لك عما فعلته هذا الصباح؟!  لا، إن رشف فنجان من الإسبريسو خير لك من المساحة التي ستأخذها لسرد قصة. الصباح لفيروز، وللطبيعة التي تتحدث كموسيقى، وللشوارع التي تنكر نفسها من كثرة ما أنهكتها تحويلات قطار المستقبل!

لكنني هنا، أطل على وجه أجمل من علو أجمل أيضاً، أتأمله، أشعر برغبة دفينة في أن أعرف سر العينين الناعستين، لكن المستودع مغلق، وأمين الصندوق ضيَّع مفاتيحه.

ليس السر في نُعاس عينيها، بل في صحو شفتيها، والبوح ليس ما تسمعه في هسهسة يديها، بل ما تدركه في تأمّل مُهجتينا.

المقاهي تتمدد باتجاه الشمال، كما البشر، الأسرار هنا أكثر من الجنوب هناك، وأكثر من كل الجهات، والوجهات أيضاً.

القهوة المرة تنطوي على حكايات أكثر من القهوة الحلوة. السكر هنا مثلاً، لا تجده داخل القهوة، بل أمامها. تمتصه كنحلة وجدت في وردة طائفية أعالي جبال الشفا عسلها الصيفي، كي تذهب صوب غدير البنات، لتلقي السحر على البنات السبع، وسرهنّٓ الحقيقي ما زال حبيس الأسطورة القديمة.

الأسرار تتحرك هنا وهناك. على قارعة الطريق، في المقاهي، أمام المكاتب، وسط البيوت، خلف السيارات، فوق البنايات، وحول كل شيء يتحرك أو لا يتحرك.

ليس سرًّا أن الساعة الثالثة بعد منتصف الليل هي الفرصة المثلى لعامل النظافة كي ينقل أسرار البلد خارج الحدود، مثرثرًا عبر “ايمو”، مع ١٠ من بني وبنات قومه. سره الحقيقي هل سيتناول فطوره في الصباح؟! بينما “ماكدونالدز” يفرّغ خزائنه أمام العشرات من زملائه في وضح الليل. الليل الذي أصبح مُعاشًا في هذا الصيف الكئيب.

هناك تتحول الأحداث الصغيرة، كرسالة بريدية خاصة؛ إلى قصة عابرة للقارات. يا رفيقي، لقد أصبحنا نصدّر الحكايا، بعد أن احتللنا الصدارة في تصدير النفط. لم يعد هناك شيء أكثر فتنة من فتاة جميلة تقود سيارتها الفارهة وسط العاصمة، “هرجة” تلوكها الألسن في عواصم عديدة.

باريس المتصالحة مع نفسها، ومع أهلها، والتي تنام على أصوات الكؤوس الفارغة، تصحو على “نسناس” ساخن من قلب الصحراء العربية، لفتنة باردة، أبطالها مفتونون بعدم التصالح مع أنفسهم، ومع الآخرين، ومع وجدانهم، وسرائرهم، والفلتات التي تمرّ على آذانهم هنّا وهناك.

مفتونون بالنمائم، في زمن هائج، تملؤه الأسرار، وتوشوش الحكايا فيه وسط الخرائب البشرية، كالريح: تُمسي كصوت خافت، وتصبح وقد جلجلت العوالم بالأخبار.

وحيث الضوء والانكشاف تكون الخفايا أكثر. الخفت علامة بارزة هنا.

لا أحد يتكلم أكثر

لا، بل لا أحد يكتم أكثر.

 

عدد المشاهدات : 937

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.