على ضفاف كازنتزاكي

على ضفاف كازنتزاكي

عبدالعزيز البرتاوي

ذاك الحنين الذي ينخر جذر القلب، سوسة العمر الشقية، لا تكلّ أو تملّ. تمضي مواضي الماضي جلّها: الشوارع القديمة والمقاهي الحزينة والليالي المعتمة وهو ثابت، كالأسى والتجلّد والدموع.

دموعك تبحث عن سبب، لتُسكت تساؤلك حول انسكابها. مضى زمن كنت تبحث ولو قسرًا عن دموع يمكن استنزافها لأيّ سبب. وجاءك الآن زمن الهطول. تلك هي دموعك التي لا يراها الآخرون، تهطل داخلك، أغزر وأغدق وأكثر حزنًا، ممتلئًا بها، طوفانًا يمشي على قدمين. ولو كنت موسمًا، لكنت الخريف، ولو كانت لك أوراق، لكانت الدموع.

كل شيء يغدو يا حلوتي، مرًّا، لكأنما الأيام تزداد عنادًا، أنْ ما من مأساة مضت، إلا والتي تخلفها أكثر هولًا وأشد وطأة وأقوم عودا.

أغانيكِ التي تسمعيني للرقص، صار الحزن مشتركًا في كل ألحانها، وأنا لست شؤم ليالي أفراحك، ولا سرادق عزاء محفل أيامك، أكتب لك من جزيرة سماوية جنوب اليونان، لست في زنزانة -لم يحن بعد- ولا ضمن رتل عسكري يدافع عن حد خطّه سكران إنجليزي قبل مئة عام. لكنها مآسينا وهي تبدو لي على الشاشة، وفِي حديث أبي، وانكسار عيني عمي العروبي، وهو يفتل طرف شاربه وبتنهيدة يقول: لعنة الله على هالزمن.

عمي السبعيني الذي لفرطِ تهندمه؛ لم أر في وجهه شعرة بيضاء واحدة، بيّض الحزن الجاثم الآن قلبه. قال لي مرة: منذ شُنق صدام، وأنا أتحسس رقبتي كل صباح قبل الحلاقة. وأقول له: وخلف كل صدام يموت، صدام جديد، واحتلال جديد، ووطن يرفل في قيود من حديد.

تفكر، ماذا لو عاد العقاد، لتعقّد. أهذا مكان مصر في العالمين؟ ولألّف في حاكمي هذا الزمان، سلسلة الغباوات التي لا تنفد. الرافعي، لترافع عن إسرائيل، ذلك أن يهود بني قومه يأخذون دينهم من تحت رايات التلمود ووحي البندقية. طه حسين، لأبصر، وقدم أطروحة حول جاهلية كل شيء. سيّد قطب، سيُصبِح عضو الحزب الحاكم ويدبج معالم في الضياع، وفِي ظلال التوراة. جبران، ليكتبنّ الشيطان، ويصبح كسران الذي يعشق نقاصة.

أشرب الآن يا حبيبتي، قهوةً مثلجة. ولقد تغيرتُ. ذاك الفتى الذي تعرفين، يهندم مانيوهات المقاهي، كي تجيء على مزاجه قهوتها، صار يقبّل أول كوب يجيء. هاتها مثلجةً، علّ جحيم الجوى يرتاح قليلًا.

من هنا مرّ النبيل كازنتزاكي، على صخرة هنا خطّ صفحة، وعلى أخرى تأمل زوربا راقصًا. أماثله الآن، حينما مرّ من بحرنا، حيث جدة عن يساره، ومن وراءها مكة المقدسة، وكتب يقول: “نحن لا نزال على البحر الأحمر. عبرنا مكة التي تقع على يسارنا. وعلى اليمين الحبشة، جبال رائعة وردية، لا يمكن ولوجها، كم أحبها. أحس بأن جدودي ولدوا هنا، رجال صحراء. عندما أرى الرمال اللامتناهية يخفق قلبي، وكأنه يرى وطنه شديد القدم. يا إلهي. يا لي من مختلِف عن اليونانيين الذين ولد أجدادهم وسط الخضرة والمياه. إن روحي مثل روح المسلم عندما يصلي. عندها تتجه روحه نحو الشرق. آه، في هذا الضباب في هذا الجو الرطب والثلوج التي يخرج منها الجبل الأزرق والبحر وخرقة حمراء على شجرة نخيل، الرمال الحارة، الفلاح وعلى رأسه جرة، حافي القدمين. روحي تحترق مثل دمشق عند الظهيرة، رقصة سوداء تقود أصابعي العشر فتجري بينما أشاهد أفكارهم الصغيرة الدامية وأنا جالس بارتياح في مسارحهم، عطر الميناء الشرقي الذي تفوح منه رائحة البرتقال والبطيخ الفاسد، ذوي الأقدام الحافية والموحلة. لقد وجدت نفسي، أنا ذو الأصول العربية، على جزيرة كريت الأفريقية. حمدا لله، رحلتنا إلى الشرق أثمرت ودمنا لا يزال يعيش ويحكم”.

نيكوس الذي يشبه اسمه اسم الآف الأشخاص هنا: عامل الفندق والمطعم والسائق والدليل السياحي، كلهم نيكوس، ووحده منفردًا، جاب العالم كتابةً ورحلة، وخطّ اسمه في سجل لم تتشرف نوبل أن تناله، منفردًا كنخلة عربية مغروسة في أعماق جزر الإغريق يكتب بوقار: “في يوم ما عندما دخلت الجزيرة العربية على ظهر جمل، والتقيت بالرمال الممتدة إلى ما لا نهاية. تملّكني سكر غريب، وصرخ قلبي مثل الباشق العائد لعشه بعد ملايين السنين. أنا مسرور وعيناي مستمتعتان بالمنظر الذي تمنيته منذ سنوات. الجزيرة العربية، البحر الأحمر من جانب والخليج العربي من جانب آخر، وفي الوسط الجبال القاسية والبعيدة، البيضاء والمدخنة. يقفز قلبي طربًا عند رؤية نخلة، وكأنه يدخل وطنه وقريته البدوية. كل شيء مغطى بالغبار، والجوهر الوحيد والقيّم، هو شجرة النخيل”.

أيها اليوناني العظيم، زوربا، هل تراك تسمعني؟ ما عادت اليونان هي اليونان، بلادك يا سيدي، تشحذ الآن على أعتاب أوروبا، يملؤ شوارعها العاطلون والشحاذون والمحتجون، لا الشعراء ولا الفلاسفة ولا الرياضيون. أثينا ما عادت أثينا، والإغريق العظام، غرقى في سوق النهب الرأسمالي اللعين.

زوربا، أيها الأصيل كصخرة في جزيرة كريت، أيها “المنشق” أبدًا، ونحن أيضًا جئنا، آلافًا تلوَ الالاف، هاربين ولاجئين وغرقى مشردين، يا سيدي، ألقينا باقي أسمالنا، رايات استسلام بيضاء على أعتاب جزرك البهية، من لم تأخذه الحرب، أخذه البحر، ومن نجا، حطّ على باب بلادك، تسومه الحياة سوء المهانة، يمضي عمره في خيمة، ويختصر أحلامه في رغيف.

نحن الذين كنا ندخل أوروبا بسيوفنا فاتحين، صرنا نهرع إليها بتأشيراتنا لاجئين، ولم يشردنا الأعداء يا سيدي. لم يفعل الأعداء شيئًا هذه المرة. صرنا نحن الأعداء، أولئك الذي أمضينا حياتنا نهتف لهم: بالروح بالدم، أخذوا الأمر جدًا، وأخذوا الروح والدم.

نغيّر يا سيدي كتاب الدين، كما يريد الشيخ، وكتاب التاريخ، كما تريد الحكومة، وكتاب الوطنية، كما يريد الملك، وكتاب الجغرافيا، كما يريد أي سافل. صرنا دولًا كثيرة، بعواصم وقواصم لا منجي منها سوى القبر. هل تعرف السودان؟ صار اثنين، بذيل واحد مقطوع، وبلا خرطوم. هل تعرف العراق؟ مكسور العين والخاطر. ولبنان الهوى، هوى، حتى ما عاد له من قاع.

وأنا لست حزينًا يا حبيبتي. الغجرية التي تنثر شعرها الآن، تملؤ الجزيرة وردًا وفراشات، أنا يا حبيبتي أخشى ما ستجيء به النشرة القادمة، أن نلعن في صلاة العشاء فيتنام، أو أن نقنت في الفجر لواشنطن، لأن دين الحاكمين قال ذلك. صرنا عبيدًا، تخجل منا العبودية. ومفردة كالحرية، تثير أحدهم في بلادي -بلادي هه- كما لو كانت كُفْرًا.

جِيء الآن برجل ميت، محمولا في تابوت ليدفن في هذه الجزيرة. جاء رجل لا أعرف من يكون له وجاءت امرأة، وقف الرجل منحنيًا على التابوت، وسقطت المرأة تبكي. قدر الرجال لربما هذا الحزن الصامت الناهش، وقدر النساء أن يعشن الحياة كما يُردن. قال لي شخص بجانبي وهو يشير إلى التابوت: هذه هي الحياة. استمتع قبل أن يأتي مثل هذا، ومضى.

قد أكتب إليك لاحقًا رسالة، وكالعادة أحدثك فيها عن بقايا شظايا اليمن التعيس، لن يتغير شيء، سوى أعداد القتلى. وعن البلادة التي تتكلس في وجداننا كل يوم، كانت اسرائيل في بلادنا قاتلًا ملعونًا وحيدًا، صرنا آلاف القتلة، وصارت كل بلداننا غزة.

قد تسألين: ماذا عن الذي يجري اليوم في الخليج، من ضجيج ونشيج، وأنا أربأ بحزنك الجليل، أن ينحطّ، ليكون لمثل هذا السفال نصيب منه، لدينا من مآسينا الكبار، ما يذهب عنّا رجس مآسي الصغار. أزيحي هذه الغلالة عن نمش كتفي الفانيلا، وانثري هذا الشلّال الأسود، فلا نزل بأرض لستِ فيها الـ قطرُ.

 

عدد المشاهدات : 1452

 
 

شارك مع أصدقائك

2 Comments