فاتورة الكتابة

فاتورة الكتابة

عبدالعزيز البرتاوي

أجلس الآن وحيدًا ومزدحمًا. وحيدًا من كل ما يخص المستقبل. مزدحمًا بكل أحمال الماضي، وتبعات اللحظة الحاضرة. محاصرًا بالفراغ. فراغ خانق. “لا شيء”، ثقيل. أثقل من أي شيء آخر. أفتح منافذ إلكترونية سابقة، من عشر سنين ربما، لم أدخل إليها. أرى كيف كنت موزعًا بينها، متناثرًا، كالهشيم. رسائل وداع. طلبات انضمام لمجموعات. عناوين نصوص لم تكتب. مسودات لأغاني قديمة، أسمع واحدة منها الآن، وأدمع.

تتجول في خاطري دومًا، الفكرة التي تتحدث عن حسابات الموتى الإلكترونية. رسائلهم التي لم يجبها أحد، ولن يرد عليها أحد. أرقامهم السرية، المتأكدة سريتها الآن أكثر. طلبات البيع والشراء. البريد الآلي الذي لم يكف عن مراسلة جثة، بآخر أخبار التصييف في جبال الألب. وأنسى أننا الأحياء، نبدو أحيانًا، لأشخاص، وحسابات، في وقت ما، كما لو كنا موتى. وحيدين وضائعين.

تبدو لي الكتابة الآن، كريهة. لا تطاق. لم أتخذ موقفًا عدائيًا منها قبل. ولن أتخذه فيما بعد. لكني أشعر معها شعور الضيف بملل أهل البيت من وجوده. لقد طال بك الأمد، تأكل وتشرب وتنام، وتصنع صنيع الدابة، ثم لا جدوى. الكتابة ستغادر. هذا ما أحسّ به كل صباح، عند الهمّ بكتابة جملة. الكتابة لا تنتظر. الكتابة التي تكتب نفسها بنفسها، انفعالًا وجنونا وتدفّقًا، لن تظل مركونة بانتظار المزاج المترف، أن يجيء، ليستعرض كتابة جملتين، وخطّ ثلاثة أسطر. الكتابة الحقيقية، ستغادر، ومعها كل زخم كنت تتأمله من ثلاثة أحرف فأكثر.

أمامي على باب الثلاجة، فاتورة كهرباء للشهر الماضي. وعلى الطاولة فاتورة الشهر الحالي. ستقطع الكهرباء في الشهر القادم، إن لم أسدد. وعلى قلبي فواتير كثيرة، لم أسددها منذ سنين. إني لا أعرف أين يمكن سداد بعضها. لكني أعرف شيئًا آخر، أعرف أن الكتابة أحد هذه المدفوعات السدادية، التي كنت أحسب سهوًا أنه يمكن أن يتم سداد جزء منها بالقراءة. القراءة العابرة للصحف والمجلات ومنشورات الطيران ومنيوهات المطاعم وألواح الطرقات وقصص “غزلان” ورسائل الايميل المجهولة وأخبار تويتر وتغريدات من أتابع هناك. أكتشف الآن أن ذلك يضاعف من القيمة، ولا يسددها. أكتشف أن الكتابة باهظة الثمن، وأن كل ما يمرّ بك، ولا تلتفت إليه كتابة، سيدخل ثمنه ضمن فاتورة السداد.

الكتابة الانفعالية. تتحرك أصابعك لأمرين: الضغط على أزرار حروف لوحة الكتابة، والارتجاف، ليخرج المعنى.

الكتابة الـ تحبّ سيدها المعذّب بهمّها. لا الكتابة التي تنتظر من جلالة فراغك التفاتة في مقهى مترف، أو على طاولة محشوة بكل توافه العالم. الكتابة التي تحتّ داخلك، تُنقص وزنك، تُجيعك، تُنهضك من منامك، تُوقفك عن عدوِك، وتشعل لهاثك، جوعًا إلى ورقة أو صفحة جهاز أو حتى حائط. الكتابة التي لا تسوّق نفسها لأحد غيرك. لا تتجمل في مواسم بيع الكتب، ولا تستعرض على أرصفة القراءة، في عواصم العالم، بحثًا عمّا بقي من نقود في جيوب العابرين. الكتابة التي تقتحم. تكسر. تؤلم وتأمل أن تكون الفعل، لا الوصف.

لقد ثرثرت كثيرًا، وفي كل مكان. توجد مساحة خاصة محجوزة باسم هرائي الشخصي، في كل برنامج محادثة في هذا العالم. نحن في الطاقة الانتاجية سواء. هذا ما توصلت إليه. أنا وأنت والسيوطي، صاحب الأربعمائة كتاب، وتوماس مان برواياته المئتين. كلنا ننتج. تعال لندقق في الأمر، ستجد أن هراءك الشخصي، عبثك الدائم بالكلمات والصور واللقطات والجمل والأحاديث، في برنامج واحد، يساوي موسوعة اللغة اللاتينية، التي وصفها سيميك، بكون عرضها قدمين، ووزن كتابها خمسة عشر رطلا. ذاك ينتج للتاريخ، وأنت تنتج لتكبر كرة المزبلة الغاصة باللهاث التافه في هذا العالم.

فيما لو بدأت الكتابة حقيقة، عمّ أكتب؟ معتقلي بلادي. لقد صار عيبًا، أن كلّ ما هممت بخطّ كلمتين آخر العام أو أوله، أن أتذكر من يصبح التذكر في حقهم عيبًا، والنسيان حراما. لقد صارت الكتابة أقصر سلمًا من الوصول لشواهقهم. والاستعراض البطولي بالكتابة عمّن لا يجد حيزًا في زنزانته من عشر سنين ليمدّد قدميه، من شخص يتمدد نائمًا على سرير فاره من عشر ساعات، إفكًا وزورا. ولقد صاروا كثيرًا، ولربما الحديث عن من بقي خارج الزنزانة في وطني، أسهل طريقًا وآمن طريقة.

عن الوجع في بلادي أحكي؟ ليس بذي بال. صار موضة. تحاوله السمينة التي تكدّس متابعيها، كما شحوم خصرها، ويبتغيه النحيف، الذي لا يوازي نحفه، هزال عقله. وكل من التمس شهرة في بلدي، أطال لحية وسبّ حليقها. أو حلق شاربًا، وهاجم مُعفيه. والسياسي الأحمق، وأؤكد على كلمة أحمق، بكونها ليست مفردة تكميلية في سيناريو فيلم كوميدي، ينتهي بطله بالانتحار، ليحقق مفاجأة الفلم كاملة، بل أحمق بكل ما تعنيه معايير الكلمة تاريخيًا، يتسيد الصورة، متمّددًا على عرض الصحيفة والصحفة والصفحة. يكتب عنه الكاتب المأجور، ويخطب عنه إمام المسجد الضال، ويغني كلماته المطرب النشاز، وتطبع الصحيفة الرخيصة –بريالين- صورته على صدرها، ولا تنس أحيانًا أن تدقق في الأمر: الإعلان الموازي لصورة سموّه في الصحيفة: عن حذاء إيطالي، مريح وأنيق. على الأقل، الصحيفة تنوّع للمدعوس في نوعيّة الأحذية.

لا آمل الآن أي شيء. أنا عاجز. أعترف بهذا. لا آمل شيئًا لمحاسبة ما يقع. لتسديد فاتورة ما يصير. لا آمل، بل أخجل. أخجل من ضحكة جيل آتٍ، يفكر كيف كنّا بهذا الرخص. كتلة لحم سمينة، من سلالة الأسرة الحاكمة، تهدر كما تشاء، أين شاءت، وتتزعم الرياضة والشعر والثقافة والبطولة والفروسية والمجد والدين والبطولة، ولو تمّ وزنه حقيقة، في غير بلادي الرخيصة مقاييس أوزانها، لما جاء أسمن من أي عِجل آخر، مصيره الملحمة التي في آخر الطريق، أو قد لا يؤكل لحمه للنتن. لكن، إنْ تعبد الهند أبقارها تقديسًا وحبًا، فإننا نعبد أبقارنا هوانًا ورعبًا.

تنتشر الحروب الآن بجوار بلادي. تدفع بلادي أغلب أثمانها، من فائض أموالنا، وأكتب عنها من مسافة 6000 ميل. من مطبخ معزول، في الدور الثاني لشقة كابية. الطفل الذي يسكن مع والدته في الطابق الأسفل يبكي. يواصل بكاءه. يحتج على هذا العالم. مطر خفيف على النافذة، وحزن كذلك على القلب. الفاتورة التي على الثلاجة لم تسدد. الفاتورة التي على الطاولة أيضًا. أنتظر الثالثة. وأحاول بدلا ذلك تسديد  بعض فاتورة الكتابة.

عدد المشاهدات : 2200

 

Tags: , , , ,

 

شارك مع أصدقائك

One Comment