“فرج” .. حمامة تزممارت

“فرج” .. حمامة تزممارت

مدير التحرير

سيظل يوم 2 آب 1991 يوماً مشهوداً في تاريخ تزممارت الأليم، يوماً مشرقاً مميزاً في بحر تلك الظلمات العمياء الرتيبة التي قطعناها كما تقطع غواصة تائهة أحشاء يم عميق متجمد.

لقد كانت الأحداث البارزة قبل هذا اليوم -باستثناء قضية الملازم الطويل- كلها حزينة مفجعة تدور حول موت هذا الصديق أو احتضار ذلك. ولكن هذا اليوم حمل لنا في طياته أخيراً حدثاً سعيداً.. إنه مجيء “فرج” أو حمامة تزممارت.
فقبل شهور قليلة من هذا الحدث، قدم سرب من حمام الجبال إلى السجن على حين غرة، ولما راقه هدوء المكان وخلوته، سكن في السقف الذي يغطي زنازين أتعس خلق الله إطلاقاً. وهكذا باض وفرخ إلى أن أصبح شعباً يعج فوقنا بالحركة والحياة. تضاربت آراؤنا حول مجيء هذا الحمام عندنا. فالمتشائمون منا وما كان أكثرهم، رأوا فيه طالع شؤم علينا مؤكدين بأن الحمام لا يسكن إلا في القبور المهجورة والأماكن الخربة، وادعوا إضافة إلى ذلك أنه سيجر علينا جيشاً من الأفاعي الجائعة التي ستسعى حتماً إلى التقوت من فراخه اللذيذة الطرية.
أما بعضٌ آخر، فقد هلل واستبشر ورآى فيه رسول سلام جاء يبشرنا بفرج وشيك، فقال مدافعاً عن رأيه:
الحمام هو ذلك الطائر المسالم الوديع الذي حمل البشرى إلى سيدنا نوح بغصن زيتون في منقاره الجميل؟
ظل النقاش حول الحمام يضرب أطنابه إلى أن كان صباح نادانا فيه رفيق فقال:
– أما لاحظتم شيئاً غريباً في حركة الحمام هذا الصباح؟
فرد عليه آخر:
– فعلاً منذ طلوع الفجر وهم يصفقون بأجنحتهم بكيفية غريبة جداً.
فعلق رفيق آخر على ذلك قائلاً:
– أعتقد أن فرخ حمام قد خرج من عشه فحاول أبواه رده إليه، فهذه أول مرة أرى فيها حمامة تطل عليّ من ثقب السقف وكأنها تبحث عن شيء معين. لما كنت في السجن المدني في القنيطرة، عشت قصة حب رائعة مع قط صغير كنت قد ربيته تربية فاضلة، فكنت كلما خرجت للقاء أسرتي في ردهة السجن حملته فوق كتفي، فاشتهرت بذلك بلقب “أبو القطيط”. لكني رغم ذلك كنت أحلم وأنا في زنزانتي بتربية فرخ حمام. وقد وعدني به سجين من الحق العام فكنت على وشك تسلمه منه، لكننا اختطفنا ونقلنا إلى تزممارت أياماً قليلة قبل ذلك.

وبينما نحن نتحادث ذلك الصباح في تزممارت عن حركة الحمام الغريبة، إذا بنا نسمع وقع شيء يسقط من السقف ويرتطم بأرضية الدهليز الوسخة، محدثاً صوتاً أخرس ذكرنا بسقوط الأفاعي التي شرفتنا مراراً بزيارات مفاجئة كانت تطارد فيها بعض الفئران الهاربة.
سارع الأصدقاء الذين كانوا يقوون على الوقوف إلى نويفذة الباب يستطلعون الخبر. واستطعت بدوري أن أفتح نويفذة بابي فإذا بي ألمح أمامي في ظلام الدهليز الباهت بقعة صغيرة بيضاء. فقلت لأصدقائي أطمئنهم:
– لا تجزعوا! إنه لا شك شيء من الجير الذي أتى به الحراس بالأمس لوضعه في مرحاض الزنزانة رقم 7 الخاوية. ولما تعبت من الوقوف وهممت بالرجوع إلى الدكة لالتقاط أنفاسي، سمعت أحد جيراني يصرخ ملء رئتيه وقد كان مشتهراً بيننا بخوفٍ مرضي من الأفاعي:
– احذروا! إن البقعة البيضاء تتحرك وتزحف نحو الزنزانة رقم 10.
فعلق أحدنا ساخراً: “على حسب علمي الواسع، لا توجد عندنا في المغرب أفاعي بيضاء”.
في هذه الساعة بالذات، انفتح باب العنبر، ودخل الحارس بمفرده. فشرع يفتح الأبواب من دون أن يغلقها مظهراً لنا بذلك تعاطفه معنا. فما إن تجاوزني وأولاني ظهره مستعداً لفتح الزنزانة 9، حتى تقدم إلى حيث كانت البقعة البيضاء، فإذا بي أمام فرخ حمام صغير مكوم على نفسه. فأخذته من دون أن يفطن بي الحارس، ثم رجعت إلى زنزانتي بالسرعة التي سمحت لي بها مفاصلي المتورمة..
– فرخ حمام.. إنه فرخ حمام..

سرى الخبر همساً من زنزانة إلى أخرى كما تسري النار في الهشيم. ربما كان الطائر الصغير في أسبوعه الأول، لأن جسمه كان عارياً إلا من رويشات قليلة نبتت في ذنبه وأطراف جناحيه، بينما كسي جزء من عنقه وظهره بزغب ناعم أشقر. وكم كان واهناً ضعيفاً هشاً وهو يرتعش في يدي كورقة في مهب الريح ويصرخ بذعره الصامت بدقات قلبه الصغير التي كانت تخبط بقوة وسرعة على كفي وكأنها كانت تستجدي العطف والرحمة..

آه كم كان حاله أشبه بحالنا لما رمينا لأول مرة في هذه المغارات المظلمة. دلى المسكين رأسه على صدره كمحكوم بالإعدام سلم رأسه للمقصلة، وثنى رجله اليمنى المنتفخة على إثر السقطة من السقف العالي فبدا لي كئيباً مستسلماً متوجعاً وكأنه في حال من يشكو إلى الله همه وبلواه. مررت بسبابتي اليمنى برفق على ظهره ورأسه فقلت له وهو متربع في راحة كفي الأيسر:
– لا تقلق يا عزيزي الصغير.. أقسم لك بالله أنني سأفعل من أجل إنقاذك المستحيل.
ثم توجهت إلى أصدقائي بعد أن خرج الحارس وقلت لهم بلهجة من يلقي خبراً يهم مصير أمة بأسرها:
– إخواني الأعزاء.. إنه لشرف عظيم أن أخبركم بأنه منذ اليوم لم نعد أربعة وعشرين سجيناً في هذا العنبر وإنما خمسة وعشرون.. لقد انضاف إلينا هذه المرة رفيق جديد بعد أن كنا قد تعودنا على فقدان رفيق في كل مرة.. لقد رمى القدر إلينا بفرخ حمام ليشاركنا مصيرنا المؤلم. سأسميه “فرج” تيمناً بفرج قريب إن شاء الله.

احتد النقاش وتضاربت الآراء حول مصير الوافد الجديد.. فقال أحدنا:
– ينبغي أن ترجعه إلى أمه.
فرد عليه آخر:
– وكيف السبيل إلى ذلك؟ من الأحسن أن تسلمه للحراس ليعيدوه إلى عشه:
فعارض ثالث بحدة قائلاً:
هل جننت؟ إنهم سيشوونه حتماً أو سيطبخونه بالبصل والزبيب في طاجين شهي لذيذ.
فقال آخر متأثراً وهو يوظف في كلامه آية من القرآن:
– يا عباد الله، ردوا الفرخ إلى أمه كي تقر عينها به ولا تحزن. ألا ترون أن المسكينة تحاول الدخول إلى الدهليز من خلال الشباك لتسترجعه؟
يعلق رفيق آخر بلهجة من يريد حسم هذا النقاش العقيم:
– لا وسيلة لإرجاعه إلى أمه بدون مساعدة الحراس. لهذا فأنا أقترح عليكم أن تسلموه لي كي آكله نيئاً.. فمنذ أمد لم تسقط في بطوننا مضغة لحم أيها الرفاق! آه للحم أفراخ الحمام..

استلقيت على ظهري والزنزانة بل الدنيا كلها لا تسعني من فرط السعادة. وبدون إبطاء، شرعت أفكر في الكيفية التي سأنقذ بها هذا الطائر التعس. كنت أدرك أنها مسألة شبه مستحيلة نظراً إلى اشتداد الظلمة وقلّة القوت وضيق المكان وتلوث الهواء. فالتجأت إلى الله وتضرعت إليه في تأثر وخشوع وكأن الأمر يتعلق بمصير روح بشرية:
– اللهم إني إسألك عونك وسندك في إنقاذ هذا البائس المسكين.. اللهم اجعل في فرجه فرجا وخلاصنا من هذه القبور الضيقة.
سكبت شيئاً من الماء في صحني وقدمته لفرج، فمد رأسه إليه بسرعة وأخذ يرتشف منه بنهم كبير. لا شك في أن جوف المسكين كان قد جف من شدة الخوف والهلع. ولكن عندما فتت شيئاً من الخبز وقدمته إليه لم يأخذ منه شيئاً لأن منقاره كان لازال بعد رخوناً ليّناً. فكان عليّ إذاً أن أتدبر أمر إطعامه إلى أن يشتد عوده. استلقيت على ظهري، ونشرت خرقة على صدري فوضعت فوقها “فرج”، قم بدأت أداعبه بلمس خفيف على ظهره ورأسه وتحت منقاره لأبث في نفسه الشعور بالأمن والطمأنينة. بيد أنه كان كلما سمع نداء أمه اليائس الآتي من فوق السقف، صفق بجناحيه وأجابها بزقزة عالية كنت أعلم أنها طلب استغاثة ونجدة. منذ ذلك اليوم المشهود، انقلبت حياتي رأساً على عقب، فغيرت كل برامجي الخاوية ليصبح همي الوحيد مركزاً على طائري العزيز. وقد كانت أصعب مهمة بالنسبة إليّ هي طريقة إطعامه. فكنت أفرك بيدي قطعة من الخبز بعد تبليلها بقطرات من الماء، ثم أجعل منها كويات صغيرة على شكل حبات الزرع وأدعها إلى إن تيبس فآخذ بسبابة شمالي وإبهامه رأس الطائر من الوراء فأفتح منقاره برقة وألقمه الحبات بيمناي. وكان كلما ابتلع منها ثلاثاً أو أربع، صفق بجناحيه وزقزق بصوت عال مطالباً بالمزيد، فكان أصدقائي يردون عليه من الزنزانات المجاورين قائلين له بدعابة:
– شهية طيبة يا فرج.
ومن أجل إغناء قوته، كنت آخذ من طعامي حبات من الفول واللوبياء والعدس فأغسلها جيداً وأجففها ثم أناولها إياه. وأقتسمت معه في كل صباح نصيبي من الشاي فأصبح به شديد الولع. وهكذا برمجت له ثلاث وجبات غذائية في اليوم. ولما لاحظت ازدياد جشعه زدته رابعة ثم خامسة. وقد كان الأصدقاء يرتعشون خوفاً من فكرة هلاكه، فكانوا يتنافسون في التضحية من أجله ويرسلون إليه كل ما كانوا يعتقدون أنه كان مغذياً من طعامهم البئيس. ودخل الملازم امبارك الطويل إلى المعمعة، فأرسل له علبة من “الكرتون” كي تكون له وكراً، ثم أخذ يرسل إليه كلما سنحت له فرصة شيئاً من البصل والبطاطس المقلية. فكنت كلما هممت بإطعامها إياه، أغمضت عيني واستنشقت ملء رئتي لأشحن خياشمي برائحة ذلك الطعام الشهي الذي كان يخيل لي آنذاك أنه عبق فاتح من مائدة أصحاب اليمين في الجنة. كان فمي يتحلب من شدة الحرمان، ولكني لم أبخس قطّ طائري حقه، فكنت أكتفي بالرائحة والرائحة فقط.. وبعد كل وجبة غذائية كان يأخذها طائري، كنت أعود فأستلقي على ظهري ثم أضعه فوق صدري وأبدأ بمداعبته ناقراً بإصبعي على ظهره ورأسه ومنقاره، فكان يرد لي الصاع صاعين بنقرات لطيفة على ذقني وجوزة عنقي الناتئة. وعندما كنت أحس أن النوم قد بدأ يداعب أجفانه، كنت أضعه في عشه الذي هيأته له من بقايا طربوش مبطن قديم، فكان يرخي منقاره على صدره المنفوخ فينام قرير العين.
وفي الصباح، لما كنت أشرع في المشي على الخط المنحرف لأرضية الزنزانة كنت أضعه فوق كتفي وأغني له أجمل ما كنت أحفظه من الأغاني القديمة.
وعند دخول الحراس إلى العنبر، كنت أخبئه تحت علبة الكرتون وأزيد عليها خرقته البالية. وكان ذلك أكره ما كان يكرهه إذ كان يعرب عن قلقه بنقر “الكرتونة” نقراً عنيفاً. ومن حسن الحظ أن لم يكن يزقزق، ولو فعل لكان أمره حتماً مقضياً.

وهكذا مرت الأيام سراعاً، فاشتد عوده وشب، فإذا بزغبه ينقلب إلى ريش رمادي ناعم، وإذا بالبقعة البيضاء على ظهره قد تدورت وارتسمت بشكل جميل رائع، وإذا بمنقاره الرخو يغدو قوياً صلباً، وبرجله المريضة قد برئت تماماً وبدت وكأنها مخضبة بالحناء. فأصبح يأكل طعامه وحده ويبحث عن الماء كلما عطش، ويتسكع مزهواً بنفسه على أرضية الزنزازنة قافزاً منها إلى الدكة ومن الدكة إلى الأرض. وكم كان تأثري عظيماً ذات صباح حين صفق بجناحيه فطار وحط على كتفي وهو يهز رأسه ويميل به مطلاً عليّ بعين واحدة ولسان حاله يقول:
– ما رأيك يا أبتاه؟

أحسست ساعتها فعلاً بتأثر الأب حين يرى ابنه البكر قد بدأ يمشي على رجليه بعد حبو عمّر طويلاً. وشاركني الأصدقاء هذا الحدث، فتعالت أصواتهم مهللة مهنئة. ومن هنا بدأنا نشعر بالخطر، إذ كيف لمن له جناحان أن يقنع بالضيق والحرج وهو الذي خلق ليطير ويسبح في فضاء الله الواسع العظيم؟
وهكذا عقدنا اجتماعاً طارئاً على غرار ما تفعله حكومات الدول الديمقراطية عندما تضعها الأحداث أمام أمر خطير. فتدارسنا قضية فرج، وخرجنا بعد سلسلة من المشاوارات الطويلة بقرار يقضي بإخراجه من نويفذة الباب لكي نعطيه فضاء أوسع يتدرب فيه على الطيران. وقد كنا ندرك أن ذلك قد يشكل عليه خطراً محققاً. ولكننا اضطررنا إلى ذلك اضطراراً في غياب حل أفضل.

وذات صباح، وقف فيه أمام النويفذة كل من كان يقوى بعد على الوقوف من الأصدقاء، وهم يترقبون بشوق كبير وتأثر عميق عملية إطلاق الحمامة في الدهليز. أخرجت فرج بهدوء ثم أطلقته ببساطة في الهواء. حط أمام باب زنزانتي وقد ظهر عليه نوع من الفزع والاندهاش، فنظر لحظة يمنة ويسرة مستكشفاً سعة المكان، ثم طار فجأة وحلق في الدهليز تحت تصفيق حار وهتاف جذلان لسجناء وقفوا يتابعون تحليقه بأعين منبهرة وأفواه مفتوحة وكأنهم أطفال سحروا أمام لعبة خارقة عجيبة.. وكأنما انعكس هذا الانفعال الشديد على فرج، فظل يذرع الدهليز بطيرانه جيئة وذهاباً منتشياً بفرحته العارمة. وبعد لحظة حط قرب الزنزانة رقم 29، فناداه ساكنها، القبطان حشاد، ثم مد له من خلال نويفذة بابه يده. وبدون تردد، طار وحط على يده، فناديته بكل ما أوتيت من جهد وكأني أعيش حلماً وردياً رائعاً:
“كتكت.. كو.. تكت كو.. تكت”.
التفت برأسه الصغير جهتي، وكتلميذ نجيب فهم مراد معلمه، طار طيرة واحدة وحط كوردة على يدي. لقد كان ذلك أكثر مما كنا نتوقعه، كان نجاحاً باهراً فاق كل التوقعات المتفائلة. واحترازاً من قدوم الحراس على حين غفلة، أدخلت “فرج” إلى الزنزانة ساعة قبل الوقت الذي اعتادوا أن يقدموا فيه وما إن كادوا يخرجون بعد الغذا حتى تسارع الأصدقاء إلى الأبواب وهم يصرخون بانفعال شديد:
– ماذا تنتظر؟ هيا. أطلق فرج!
وكما فعل في المرة الأولى، شرع فرج يغدو ويروح طائراً مصفقاً بجناحيه، ثم اختار يداً من بين الأيادي الكثيرة الممدودة إليه فحط عليها وصاحبها يصيح ويقهقه ضاحكاً من فرط سعادته. ولاشك أن غريزة هذا الطائر الذكي قد أفهمته أن هذه الأشباح الظلامية الغريبة المطلة عليه بأسمالها البالية القذرة، وهياكلها العظمية المشعرة تحبه كثيراً وتتوق لتقبيله. فطفق يقفز من كف إلى أخرى محملقاً باستغراب في وجوهها المستغربة.

ومنذ ذلك اليوم، أصبح “فرج” في تزممارت بهجة عمرنا ومبعث سعادتنا، فأحببناه وأحبنا، وتحملنا بسببه قدوم الموت بمعنويات أفضل. واكتتبنا من أجله فجمعنا قدراً من المال اشترينا له به بواسطة الحارس الذي صارحناه بقضيته كمية من الزرع الخالص، فملأ حوصلته بها فازداد قوة ونشاطاً وعافية. وفي الوقت الذي بدأت أفكر فيه بحيلة أطلق بها سرحه، سقط المسكين مريضاً. انتفخ منقاره وأنفه فلم يعد قادراً على الأكل. ماذا حصل؟ هل ارتطم في طيرانه بالجدار الأحرش أم أعطاه أحدنا عن حسن نيّة شيئاً فأكله فأضر به؟

أحزن مرضه كل الأصدقاء بدون استثناء، فبدأوا يتلاومون ويتعاتبون محملين بعضهم بعضاً نتيجة ما جرى. فقد أصبح فرج ملكاً عمومياً لنا، بل قطعة نفيسة منا. كان كل واحد منا يحرص عليها حرص نفسه. وقد بادر بعض منا مسبقاً بالتشديد على عدم إطلاق سراحه زاعماً أنه ليس أولاً وآخراً سوى طائر كسائر الطيور، وأن الله أرسله إلينا ليخفف عنا شدة المعاناة، فقدره إذاً هو أن يبقى معنا.

رجعت إلى إطعامه على النحو الذي كنت أغذيه به لما كان فرخاً صغيراً. ورغم أني أشربته حبة من الأسبيرين وأخرى من فيتامين “س” كان الطويل قد أرسلهما له، فقد ازدادت صحته مع الأيام تدهوراً. فارتأيت أن أعجل بإطلاق سراحه قبل أن يموت كما نموت نحن في الصمت والظلام. وقلت لنفسي متفائلاً:
“سيتدبر أمره بمفرده، وسيشفى لاشك من مرضه حين يعانق جمال الطبيعة ويحلق في فضاء الله الفسيح..”.
ثم رأيتني وأنا أتيه في أحلام مستحيلة: “ماذا لو ربطت في إحدى رجليه رسالة استغاثة فبلغها إلى أمي كما بلغ الهدهد خطاب سليمان إلى بلقيس؟” أضغاث أحلام.
في اليوم التالي سنحت الفرصة بواسطة رفيقي عبدالكريم الشاوي الذي أمر الحارس “بابا حمد” أن يساعده بعد أن قدم ذلك الصباح إلى العنبر بمفرده. فثّبت له بابي فغامر وتسلق فوقها في غفلة من الحارس، فأخذ فرج وأخرجه من شباب الدهليز وألقى به فوق سطحه. لما أنجزنا العملية بنجاح ورجعت إلى زنزانتي، شعرت وكأنني ممزق بين إحساسين متناقضين: فرحة عارمة لإنجاز وعد وإطلاق سراح سجين مريض، وحزن دفين لفقدان ابن بار وصديق عزيز. لما انصرف الحارس ومرّ وقت طويل على خروجه، نفذ صبر الأصدقاء فطالبوني بإخراج فرج إلى الدهليز كالعادة. لكني اعتصمت بالصمت، فتكفل الشاوي بنشر الخبر الذي نزل على السجناء نزول الصاعقة.. فران لمدة طويلة صمت ثقيل كالرصاص، فإذا برفيق يفقد الزمام وينفجر صارخاً:
– ليس من حقك أن تفعل ما فعلت.. كان عليك أن تستشيرنا على الأقل. لقد كسرت قلبي فلن أغفر لك هذا أبداً.

مرّ علينا ذلك اليوم كئيباً صامتاً حزيناً، واستبد بنا الشعور نفسه الذي كان يعصر مهجنا كلما حل عنا صديق عزيز، فرجع عنبرنا بدون حمامتنا كما كان قبراً بارداً بلا حماس ولا فرحة ولا أمل ولا روح. وفي الصباح التالي، وبينما أنا منشغل بجمع غطائي الممزق، إذا بالملازم الطويل ينادي عليّ بصوت جذلان مستغرب متعجب:
– لم يرحل فرج.. يبدو لي أنه قضى ليلته فوق سقف الزنزانة رقم 1. انظر جيداً إنه يبحث عن زنزانتك.
ألقيت نظرة من خلال نويفذتي إلى حافة سقف الزنزانة المقابلة فدق قلبي وأنا أراه يواجهني ويطل برأسه الصغير جهتي.. فلما رآني صفق بجناحيه وحاول التسلل إلى الدهليز عبر الشبّاك لكن بدون جدوى. لقد كان البليد عوض أن يقدم رأسه ويضم جناحيه للتسلل من خلال مربع من مربعات الشبك، يفعل العكس فتمنعاه جناحاه المبسطوتان من الدخول. ولما قدم الحراس، انقبضت قلوبنا لعلمنا أنه ينبغي أن تحدث معجزة هذه المرة كي لا يفطن بوجوده أحد.
وفعلاً حدثت المعجزة حين أمر حارس متعب رفيقنا الشاوي بتفريق الخبز علينا. وهكذا لما وصل إلى مستوى الزنزانة 10، دفعت باب زنزانتي إلى أن أوقفه الجدار، ثم ثبّته له بيدي ورجلي فتسلقه كما فعل في المرة الأولى بعد أن اغتنم لحظة سهو من الحارس، فدس يده من خلال الشباب وأخذ “فرج” ثم مده لي.. مرت تلك العملية بدون أدنى صعوبة تذكر. والفضل كله يرجع إلى الشاوي الذي غامر بحياته لينقذ تلك الحمامة البئيسة. فلو قدر له وزلت إحدى رجليه فسقط من فوق الباب وهو على ذلك الهزال الشديد، لكان أمره حتماً مقضياً. لما انصرف الحارس، أخذت طائري وأشبعته لمساً وتقبيلاً ثم أطعمته وسقيته وأخرجته بعد ذلك إلى الدهليز للقاء أصدقائه المتشوقين الذين خصصوا له استقبالاً حماسياً حاراً.

وبعد مرور أيام قليلة، عاودت الكرة فأطلقت سراحه من جديد بواسطة مكنسة قديمة وضعته فوقها وسربته بها من خلال الشباك في لحظة كان فيها باب زنزانتي نصف مشرع وقت تفريق الطعام. ومرة أخرى، جاءت الاحتجاجات عنيفة من بعض الأصدقاء، فقال لي أحدهم معاتباً:
– لماذا تعاند وتصر على طرده وهو الذي اختار عن طواعية أن يشاركنا هذا المصير؟
فقلت مدافعاً عن حرية طائري:
– إن عظّة الجوع هي التي أرجعته.. كونوا منطقيين، هل يوجد في هذا الكون مخلوق واحد يؤثر السجن على الانعتاق؟
في ذلك اليوم، سمعنا حركة غير عادية للحمام فوق سطح الدهليز: تصفيق أجنحة، وهديل مزمجر، وارتطامات هنا وهناك، ثم ريش أبيض تطاير ودخل علينا بعضه من الكوات الموجودة في سقف الزنازين. لقد رفض شعب الحمام الساكن فوق السطح حمامة أجنبية فيها رائحة الآدميين نزلت بجوارهم، فهاجموها وطردوها شر طردة. أي حظ عاثر خبأته لك الأيام يا فرج؟ لقد رفضك أبناء ريشك كما رفضنا نحن أبناء جلدتنا. ناديت طائري أؤازره وأرفع من معنوياته وقد هالني أن تكون تلك العدوانية حتى في الحمام، فقلت كمن يخاطب إنساناً فوق السطح:
– اثبت يا صغيري اثبت.. دافع عن نفسك بكل ما أوتيت من قوة واعلم أن كفاحك من أجل حريتك وكرامتك لن يكون سهلاً هيناً.. الصمود يا عزيزي الصمود.

مر يوم وليلة دون أن أرى لفرج أثراً. فتصدى لي أحد الأصدقاء غاضباً وقال معاتباً:
– قد تكون حمامتنا ماتت من الجوع والعطش، أو لربما قتلها الحمام الساكن فوقنا، وفي كلتا الحالتين، فأنت المسؤول الأول عن مصيرها المؤلم الحزين..
وفي الصباح التالي، وعلى حين غرة، ظهر فرج على حافة السطح قبالة باب زنزانتي كما فعل في المرة الأولى. فشرع يحاول يائساً أن يرجع إلى الزنزانة. فانتظرنا حتى قدم الحراس. ومرة أخرى خاطر عبدالكريم الشاوي فأرجعه إلى داخل الدهليز ثم سلمه لي.
كانت حمامتي المسكينة مريشة مجروحة جائعة عطشانة متعبة. فقد بذلت جهداً كبيراً للتأقلم مع أبناء جنسها ولكنهم رفضوها ثم طردوها بمناقرهم الغاضبة..
ومن يدري؟ فقد يكون والداها اللذان تألما لفقدانها هما أول من ساهم في ذلك الهجوم الغاشم.

أسبوع بعد ذلك، كانت المحاولة الثالثة الناجحة لإطلاق سراح فرج. مرت أربعة أيام سراعاً فطال عليّ الأمد ولم يظهر هذه المرة لحمامتي أثر. فتمنينا من الأعماق أن تكون قد تصالحت مع أهلها ووجدت سبيلها أخيراً إلى حياة طبيعية سعيدة. كنا ونحن في أحلام اليقظة، نجد نشوة كبيرة حين كنا نغمض أعيننا ونتخيل أنفسنا حماماً يطير كما يطير فرج.. آه.. ما أجمل التحليق في فضاء الله النقي الواسع الشاسع تحت نور الشمس الذهبية الدافئة وفوق بساط أخضر من غابات مترامية الأطراف. ما أروع ذلك العالم الخالي من الحواجز والحدود والأسوار والشبابيك والأقفال والجلادين والضغائن والأحقاد. أي سعادة سيشعر بها فرج حين سيكتشف هذا الفضاء اللانهائي الذي يمتد أمامه شفافاً شاسعاً فسيحاً مفرطاً في الروعة والجمال؟ لاشك في أنه سيدرك ساعتها كم كان تعساً بائساً مغبوناً شقياً في ضيق تلك الزنزانة الباردة المظلمة التي كانت إلى حين قريب هي كل عالمه ودنياه. تلك الزنزانة الحزينة التي ترك فيها روحاً شقية كم كان بدوها لو ملكت مثل جناحين بهما تطير.

وفي مساء اليوم الرابع، سمعنا محمد العفياوي يصيح وهو الذي عودنا ألا يتكلم إلا في المناسبات النادرة جداً:
– أيها الأخوة، لقد عاد فرج.
تسارعنا إلى نويفذة الباب وأنفاسنا متلاحقة لمشاهدة العائد الأحمق. فقلت له وأنا أراه أمامي يغدو ويروح فوق شباك الدهليز محاولاً التسلل إلى الدهليز:
– ماذا تريد؟ أيها الأخرق العنيد؟ هل جننت إلى الحد الذي أصبحت فيه تفضل العيش في الضيق والعتمة مع هؤلاء الأشباح على حياة الحرية والانطلاق؟
طال الوقت وباءت محاولاته كلها بالفشل الذريع، فشرع الأصدقاء يتحدثون إليه مشجعين ومقترحين عليه الحلول وكأنه بشر مثلنا يدرك ويعي ويفكر:
– تشجع يا عزيزنا الصغير.. لا تبدأ كعادتك بإدخال رجليك في المربع. أدخل رأسك أولاً واضمم جناحيك إليك وسينتهي الأمر بسرعة.
وكأنما الشقي انتهى بفهم نصائح أصحابه، فأدخل رأسه بين القضبان، وبكيفية انتحارية ألقى بنفسه في خواء الدهليز، فحط بسلام على عتبة الزنزانة رقم 10 تحت تهليل وهتاف كل السجناء المتأثرين. لقد كان المسكين متعباً محطماً ففشل مرات عديدة قبل أن يحط على يدي الممدودة إليه من خلال نويفذة الباب، تأثر بعضنا تأثراً بليغاً لذلك فسمعت أحدهم وهو يجهش خفية بالبكاء. وهكذا رجع فرج إلينا مرة أخرى، فتابعنا معه مسيرة الحياة في ذلك الجحيم ونحن في غمرة من سعادة أنسانا فيها أنفسنا وما كنا عليه من شظف العيش وشقاوة الحال. فإذا به يتمرد ذات يوم تمرداً خطيراً في الدهليز حين أبى أن يدخل إلى زنزانتي ساعة قبل قدوم الحراس، وقد كان يقضي كعادته سويعات في مداعبة السجناء والطيران الجذلان. لم يعد فرج يطيق تلك اللحظة التي كانت أخبئه فيها تحت علبة “الكرتون” ساعة وجود الحراس في العنبر. وقد حاولت معه بكل الوسائل من دون جدوى. وسلمته ذات مرة إلى أحد جيراني لأفهمه أن مصلحته تقتضي تخبيئه في ساعة معينة وأن الأمر سيان في هذه الزنزانة أو تلك. أفلحت بشق الأنفس تلك المرة أن أسترجعه. لكني قررت على الفور أن أطلق سراحه في أقرب فرصة ممكنة سيما وأنه كان قد استرجع عافيته وأصبح ينفخ صدره مزهواً بفحولته مفتخراً بجماله. وقد كان أخوف ما نخاف عليه هو سذاجته الكبيرة وثقته المطلقة بالبشر. فماذا سيحصل لو عامل الناس كما كان يعاملنا وحط ببراءته المعهودة على كتف أول عابر سبيل؟

وفعلاً، سنحت الفرصة ذات صباح، فلمست بحنو وحنان ريشه الجميل وقبلته قبلات حارة ملتاعة ردها لي بنقرات على ذقني وجوزة عنقي ثم وضعته فوق المكنسة القديمة وسللته من بين قضبان الشباك خارج الدهليز، وقلت له بحزن من يودع ابناً مهاجراً إلى المجهول:
– حظ سعيد يا صغيري العزيز.. وداعاً يا فرج.

في الآيام التالية عشنا ترقباً فظيعاً ونحن نتوقع رجوعه من حين إلى آخر. لكن بعد مرور أسبوع تيقنا أنه رحل عن معتقل الموت إلى الأبد. وتلاحقت مسيرة الأيام الحزينة برتابة دقات الساعة، فمر شهر من الزمن، وذات يوم لن أنساه من عمري أبداً، سمعت صديقي عبدالله أعكاو، يصرخ مبتهجاً وكأنما أُخبر بإطلاق سراحه:
– لقد عاد فرج.. أتسمعونني أيها الأخوة؟ والله لقد عاد فرج.

عاد طائري العزيز كما عد في المرات السابقة.. ولكنه لم يكن وحيداً هذه المرة: حط كعادته على حافة السقف قبالة الزنزانة رقم 10، ونظر إليّ طويلاً ليثير انتباهي إلى حمامة جميلة هيفاء برأس صغير وريش رمادي لماع وقفت بجنبه ولسان حاله يقول:
– هذه حبيبتي فباركها لي وباركني لها يا أبتاه.

كبر فرج وامتلأ وكسب ثقة وزاد بهاء. لم يحاول أن يدخل كما كان يملي عليه ذلك حمقه القديم، بل وقف وقد انتفخ صدره فرحة وسعادة وخيلاء وهو ينظر إليّ طويلاً ثم يحرك رأسه يمنة ويسرة فيعود لينظر إلي. ولما اشتد صخب الأصدقاء وهم في غمرة فرحتهم ينادون من كل جهة عليه، خافت خطيبته فطارت، وبقي هو معنا هنيهة قبل أن يطير ليلتحق بها. فقلت له وأنا أودعه:
– بارك الله قرانك يا عزيزي.

بنى فرج عشه مع رفيقته الجميلة قبالة الزنزانة رقم 10. فباضا وفرخا ثلاث مرّات. ورغم الذهول العظيم والتأثر العميق اللذين أحسست بهما يوم الأحد 15 أيلول/سبتمبر 1991 وأنا أغادر الزنزانة التي قضيت فيها ما يزيد على ثمانية عشر سنة، لم أملك نفسي وأنا أرفع رأسي إلى السقف وأغمغم بصوت مختنق:
– وداعاً يا صغيري العزيز.. وشكراً.
لا شك أن الحراس الذين كانوا بجنبي وقتئذٍ اعتقدوا أنني جننت.
____________________
* مقتطف من رواية “تزممارت .. الزنزانة رقم 10″، لأحمد المرزوقي. المركز العربي الثقافي.

عدد المشاهدات : 953

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.