قرِّبا مربط الثورة منّي

قرِّبا مربط الثورة منّي

عبدالعزيز البرتاوي

‏في البدأة يجب استحضار التالي؛ ليس حبرًا ما خطّت به كلمات المقال السخف هذا، في ظل الحال الرّخصِ هذا، بل دموعًا، بالطبع، لا توازي شلال الدماء الذي ينزف اللحظة في حلب.
‏كما يجب التنبه إلى أن الحكي الرخيص أدناه، يشبه حكيا سابقًا تم إبدال كلماته اللحظة، من فلسطين والعراق واليمن وأفغانستان، إلى سوريا الآن.
‏كما إنه عزيزي الواجد وقتا لقراءة هراء كهذا، وبانتهاء قراءتك، يجب إعلامك أن المقروء عنهم، لم ينته موتهم، ولربما، لن ينتهي في الآون القريب.
‏بدأت الثورة السورية العظيمة -رغم أنف طريد نوبل، سربوت المحافل الأدبية في أوروبا، أدونيس- دون نية معلومة ولا واضحة. لكن النية المعلومة والواضحة، والمشتركة دون استثناء -حتى من داعمي المعارضة أو أيًّا تكن تسميتهم- هو وأد هذه الثورة الجليلة.
‏لكأنّ قصة الحارث بن عبَّاد، هي ما يشبه هذه الثورة العظيمة، حين اجتنب الحرب بدأة، حتى إذا جاءته منها أسباب ليس منها بدّ، قال قصيدته الشهيرة: قرِّبا مَربط النعامة مني.
‏بدأت الثورة، ولم تنتهِ. لكأنما هي أصلا، إِذْ كانت ثورةً، أن لا تنتهي.
‏نحن الذين اشرأبّت أعناقهم لساحات الأقصى المجيدة، وكذَبة العرب والمجوس ينهون عنها وينأون إلا بالكلام، جاءتنا الآن ساحات الشام، بقصص وغصص، من البلوى واللأواء، مما يقصف الأعناق، ويرزأ الأعتاق.
‏نحن الذين قضينا أصيافًا، في ظل برد بردى الرقراق، وأفياءً، في سجع نزار، وشتائم الماغوط، ورتم العجيلي الرصين، ودروس البوطي، وحميدانية دمشق، وحمّاماتها وحمَاماتها، خاشعين كل ما قالت منائر الأموي: الله أكبر، وجلين أمام الضريح الحيّ لصلاح الدين، جبناء أمام الشاهد السيف لابن الوليد، خذلنا كل ذلك، وتوارينا بسفول، خلف نشرة سخيفة، أو حنجرة إمام، يقنت حسب ما تملي عليه الحكومة.
‏لكأن بغداد أرادت أن ننسى قليلا. لكأن القدس تعبت من أكاذيبنا، لكأن بورما بعيدة، لكأن مقديشو أنست بالقراصنة، لكأن القاهرة غدت مقهورة، تحت أحذية العسكر وبراميل السحت، لكأن المدن التي شهدت العذاب من قبل، تأخذ الآن قيلولتها في يقظة موتك يا حلب الشهباء.
‏قبل خمسة أعوام، كتبت مقالا هزيلا عن الثورة السورية، في “القدس العربي”، وكأي معتوه افترضت الكتابة كفاية، لتوصيف ما يجري وإنهاء ما يحبو ويمشي. لكني الآن أرى من سود الوقائع ما لا يدع لبِيض الصحائف قِيلا ولا مقيلا.
‏تمضي حكايانا بين العالمين حكايا، وفي أجساد السوريين الأحرار، سيوفا مواضيًا ورزايا، تقتل وتشرُّد وتنهب وتسفك وتسحل وتهدم وتكسر وتيتّم وترمّل وتخمش وتخدش، ثم ضع أي فعل يحمل عنفا لتوازي توصيف الذي يقوم على طرف من وطن وهبتنا إياه قهوة سوداء احتساها سافلان يدعيان سايس وبيكو ذات ظهيرة سوداء.
‏في سوريا، ملأنا البرّ قتلى، والبحر نملؤه سفينا لشاردين، وغرقى. حتى إذا ما صبي منّا، أخطأه برميل، ثم بلغ الفطام شريدًا، حولته عواصمنا العربية، شحاذا مكسورًا، يستعطي العابرين، ويهذي بأسماء الذين ما عادوا في الحياة من أتراب وأحباب.
‏تعرّينا سوريا كل يوم. ترينا أعداءنا الحقيقين. ترينا بشاعة هذا العالم الكلامي القذر. ما عدنا ظاهرة صوتية أيها القصيمي. لقد أمسينا ظاهرة ذبحية. في صنعاء نذبح، في الرقة والموصل وحلب وتدمر وحمص وغزة والقاهرة والباب ودمشق وطرابلس. في كل المدن الشوامخ، التي كتب تاريخها ابن جرير والسيوطي وابن كثير وابن عساكر، فصار يمحو تاريخها اليوم بالسياط والبساطير ابن حرام والعساكر.
‏في المنتهى -وقد انتهينا كثيرًا-، هذا محض كلام، بقلم رصاص، ليمحوه الرقيب إن شاء، بينما على أرض الشام، يواصل الموت عزفه وعنفه، بالرصاص والمحو سويّة. رصاص في الصدوغ وفي الصدور، ومحو عن الحياة والنشور.
‏ثم إنّه، قَرِّبا مربط الثورة منّي.

عدد المشاهدات : 850

 
 

شارك مع أصدقائك

2 Comments