لقد عهرنا

لقد عهرنا

عبدالعزيز البرتاوي

 

الثالثة والنصف منتصف الليل. أيّ دسائس تحاك الآن في أقبية وزارات الداخليّة بحجّة الأمن. كم دمعة تذرفها أمّ تسوي غطاءها الآن، متذكّرة ملامح وجه الغائب في زنزانة من عشرة أعوام. عشر دمعات تكفي، تقول: لكل سنة دمعتها. والباقي لما سيزيد. هل تراكم وهبتموه زنزانة، بمدفئة ولحاف، يكفي لتسوية مسائل الحزن والبرد والحنين. الثالثة والنصف منتصف الليل، تسترجع كتاب التاريخ المدرسيّ، أكاذيب وطنٍ، تشوّه وجه جغرافيته سجون كالبثور، وتتقاطع نقاط تفتيشه، كعلامات سياط على ظهر مجلود. شتاء يحلّ على الجميع، الأشخاص والأشجار، الطيور والأرصفة، الليل البهيم وحزن العجوز. وضميرك أيضًا. ضميرك المتخم قهوة وأطعمةً وأفلامًا وكتبًا وموسيقى ورفاقًا ودودين، والمعوز مبالاة وحسًّا، بكلّ هذا البرد والبرود إزاء الجحيم المرتسم صباحًا رماديًا في أكاذيب صفحة/صفعة الجريدة.

 

أنت تعرف، أن الذي يهرم منك الآن، حسّك. ذاك الارتعاش اللعين، إزاء كلّ حدثٍ، لم يكونوا آبهين به، وكنت تنتفض. الحرب الضروس، لمنع هبوط دمعة إثر نشرة. لقد دجّنوك، هكذا تقول الضحكة “الهابطة” آن نشرة. أنت تعرف أنه لم يعد يعنيك عدد القتلى “القريبين” إثر نشرة، أكثر مما يهمّك عدد إصابات المرمى، أهدافًا في مباراة “أجنبية”. أنت تعرف أنّه يلزمك كفن طويل، لتجفيف كلّ الروح المسالة موتًا، على طريق العمر. التخشّب، الذي هو نعش نفسه. الجمود الذي هو شتاء العمر، لا شتاء الفصل ولا الموسم. أنت تعرف أنّك ميّت وإن سرت وصرت. أنت تعرف أنه لا يعزّي فيك أحد، وأنّك لا تستحقّ عزاء أحد، وأنّك ضمن قطيع موتى صاخب. نعم، الموتى يصخبون في وطني، بينما أحياء النشرات المعدودين قتلى، ينامون بهدوء الشواهد والقبور. أنت تعرف، أنّك لا تعرف: أنّك تكبر وتصغر. أنّهم الصاعدون، أنت تعرف، وأنّنا الهابطون، في كلّ شيء.

 

هم أيضًا، لا يأبهون. من قال أن أحياء العالم الآخر، يلتفتون لموتى العالم العابر. لن يروك. حشرة تصارع بحارًا من مآسي هواك. نقّل فؤادك أنّى شئت. قبّل جدرانًا، لا تمتّ لزانزينهم بصلة. اعبث. تنسّم نسيمًا لا يحمل عبق كافور أجسادهم. مَرّ وجهكَ وسيمًا. سرّح لمّتك. عدّل ياقتك. وأمط أذاك عن وجه العالم. قبلك، من عبروا، خطوا أول ضفة للجسر، وما استتمّوا للثانية. إما هويًا في الوحل، وإما كثرة التفات وحماقة. أنت تعرف أنه بقدر عرفانك الوِجهة التي تريد، بقدر ما تفتح ذراعيها لاحتضان باغيها، وأنّ البغي التلهّي عن بلادة مصائرهم، بلذاذة حاضرك. أنت تعرف، أنّ كل صفحة تفتحها، تستحيل كلماتها شتائمَ لوعيك، إن لم يكن فيه ما يؤجّج رغبتك في الصراخ. في الاستنكار. في الصفع. خدّك أولًا، ثمّ من يليك من النائمين. الأقرب فالأقرب. الأجرب فالأجرب.

 

عدّ القابعين في الزنازين أرقامًا. عدّ القتلى في النشرة أرقامًا. عدّ الجوعى في القفار أرقامًا. عدّ نفسك ميتًا، إن اكتفيتَ بالعدّ، لكن دونما رقم. أنت لا تمثّل رقمًا. أنت لست بشيء، أو على شيء. أنت هباءة، لا تصلح ولا لدور حقير، يُستنكف تسجيل اسم ممثله، في آخر تسلسل صانعي فيلم أحمق ومجهول. أنت تعرف أنّه بمرّ السنين، تحلو لك مرارات الحياة. تستسيغ الوسن والأسن. تجرع الغصص بلهفة رضيعٍ لثدي. وتقهقه بحماقة وجه خشبيّ، لكل المواقف التي خنقتك فيها الدموع فيما سلف من غابر الأيام والضمير. مقلّمة هي أشجار روحك. بل مجزوزة. لا ظلّ لها ولا ثمر. موسمها الأبديّ: لهيب اللهاث إلى لا شيء. تجمع أشباهك، لكن تفقد أصليّك. ذاتك التي كلما جمّعت أقرانًا تعتقد اشتباهك بشبههم، كلما فتّت ما استلأم منها. ثرثر، أو ثر. الأمر سيّان. نقود تسلّيك، وقرب يلهيّك، ثمّ تكتشف إقفارك. لست الأول، ممن نكصوا، بعدما استوعروا الطريق، قلّة أنيسها، وفرط وحشتها. ببطء استرخت قبضاتهم، عن جمر العمر، ليصافحوا الخيبات آخرًا. اذهب. العمر محطّة، عنوانها الضياع.

 

أنت تعرف، أنّك لا تعرف. وأنت تعرف: أن الثلج، كل الثلج أبيض. عدا ذاك الـ يجمّد أطراف الصبية، في مخايم اللجوء. ذاك الثلج، أنت تعرف أن لا أكثر سوادًا منه، إلا قلبكَ، حين لا يبالي.

عدد المشاهدات : 1116

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.