ماضي الأيام الآتية*

ماضي الأيام الآتية*

عبدالعزيز البرتاوي

حين أجلس وحيدًا، وهو أمر نادر، لأن طيفك يخاصرني (بالحاء المهملة)، لأقيّم الماضي من حياتي، بانتظار هوائل الآتي بالطبع، كحيوان ناطق، تهمه حياته، كحذاء مُشترى للتو -إذ أننا غالبًا ما نهمل تلك التي غبّرتها الخطوات لاحقًا- أجدني خواء. لا شيء. ومقارنة بالسنيّ المواضي، لا يعني أني كنت فردًا من الملائكة، وها أنذا مسخت رجيما، وهو أمر وارد، إذا ما أخذنا ملامح الصور القديمة، وحُزم البراءة المصطنعة فيها.

هناك أمور لم تكن كما كانت من قبل. على سبيل المثال: لم أطلق عصفورًا واحدًا، وفي ظلّ عالم من الفخاخ والشِباك، أن لا تطلق عصفورًا واحدًا، يعني شراكتكَ في الشرَك. السلاحف السمان لم يتغير وزنهن كثيرا عن العام الماضي، وواحدة، تلك التي كانت تشاركني القراءة كل ليل، ماتت. لم أدع مرة واستجاب لي الله، وأنزل مطرًا. لم أبتسم للعجائز الثرثارات في الشارع، وكنت أفعل من قبل، وقلن عنّي مرة: إنني طويل لسان، ووقح. لم أهاتف أصدقائي القديمين، ماجد الذي مات، فأعزيه، وأقسم له أني لم أكن أعلم بموعد وفاته. كنت أعلم موعد زفافه، ولم أحضر، لانشغالات عدّة لا داعي لذكرها. هدى، لأخبرها أن خطيبها قبيح، رغم أنه أجمل منها. سعد، لأقول له ما مفاده: أن أكبر كذبات الحياة: اسمه. الباقين، لم أقرر أن أهاتفهم أصلًا. إنني لا أحتفظ بأرقامهم. لست السيدة العجوز، مسؤولة شؤون الحيّ ونمائم العائلة، ثم من أخبركم أني كبينة هاتف، أو مركز استعلامات. لم أشرب كولا من غير ثلج، وكنت أفعل -وقال صديقي السوداني تعقيبًا على هذا: إن حبّ الخمر يسري في عروق العرب، ولا علمَ لي بدخل هذا في ذاك-. أصبحت مترفا، لا بد من ثلج مع أي مشروب -كي نطفأ الصحراء فينا-. لم أتوقف بسيارتي، ليقطع المسنّون الطريق، وكانت غزلان تقسرني على ذلك. لم أرسل رسالة لـ”ريسا”، كي تكمل تساؤلاتها عن الإسلام. وعبدالرحمن قال لي إنها تهوّدت. وأضحك، هل تدخل ديانةً، أنت أحد معتنقيها. لم أطالع صحفًا بكثرة، مطالعة الصحف، تضلّلنا. تجعل منا وهميين، إشاعيين، وطنيين زائفين. الوطنيون الحقيقيون، يطالعون الصحف عبر الأزقة. المجاري الطافحة. الأرصفة المتكسرة. الأشجار الجرداء، في ظلّ خريف دائم. الزنازن السوداء، المتنورة بشيب من شابوا فيها. ومالك شاباز، يقول إن مطالعتها تجعلنا نميل للقاهر على حساب المقهورين. لم أقرأ كتاب: حصن المسلم. وأصلًا: لم يعد للمسلمين حصون، تهاوت مع سور بغداد الساقط. لم أعد أطالع الجزيرة، إيمان عياد تتغيب كثيرًا، وهذا لا يعجبني. أكره تسيّب الموظفين. لم أفكر بشراء سيارة جديدة، قدماي تعبتا من الركض خلف لا شيء. لم أبحث عن وظيفة. الفارغون، أو العاطلون من يبحثون عن وظيفة، وأنا مشغول بي، وبك. لم أحضر كثيرا، ولم أغب. لم اشتر ملابس بُنيَة فاتحة جديدة. لون أصلنا: التراب. لم آكل أندومي مرة واحدة. لم أجدّ، ولم أجدْ. لم أزرع، ولذلك تفرجت على الذين يحصدون. الذين يزرعونَ، يحصدونَ، لكنهم يُحرمون متعة الفرجة. لم أكذب، وعليه، فلم أعد أميزه عن الصدق. لم أتصدّق على متسولين يعبرون شوارع هذه المدينة كما قمل. دعاية وزارة الشؤون الاجتماعية تصورهم لصوصًا ونصّابين، وأنا لم أنته من لصوص الحكومة، لأتصدق على لصوص الشارع. لم أشاهد فاندام، كاذب، وابن ساقطة، رغم كونه جاء لميدان التحرير، إثر ثورة يناير، وحيّا المتظاهرين. إن ابن جارنا يجيد القتال أكثر منه. ألأنه أمريكي، من أصل أوروبي. لم أغازل أبدًا، خوفا من أن يقلن لي: “يا قليل الحيا .. ماعندك أهل”. وأقول: بلى، عندي أهل وعائلة ولوعة واشتياق. لم أسافر كثيرا، وإن فعلت، فقريبًا. لم أتهيأ للحياة الآخرة، لأنني لم أستوعب أنني في الحياة الدنيا. لم أتزوج، ولذلك أُحب. المتزوجون والأموات: لا يحبّون. لم أشتر دفترًا، وجه وجه. لأنه تكفيني كل هذه الوجوه السائرة على أقدامها بألف خطوة ووجه. لم أدع لفلسطين. لأن الشيخ قال: حرام، ضياع وقت، وما أزال الدعاء بغيرِ إذن وليّ الأمر احتلالًا، ولا طوّل في الاستعمار، قِصر الأدعية. لم أبكِ على بغداد، لأني قاسٍ كما حائط، والملك لم يأذن بعد. لم تلفتني ثورات الربيع، برغم حلول ثلاث شتاءات حتى الآن. مسؤول الأمن العقائديّ قال إني آثم لو فكرت في كونه ربيعًا حتى. لم أذهب لعيادة الصدرية. خفت أن تصرخ الطبيبة: لقد سرَقت قلبك. لم أخطط لحياتي المتبقية، لأني لم أفعله في حياتي الراحلة، والعدل جيد. لم أطل في الهاتف كعادتي. أخاف أن تتصل، وتخونني خدمة: انتظار. لم أصعد جبلًا واحدًا. أخاف أن أفقد شيئا من الجاذبية. أشياء كثيرة، لم أعد أصنعها، أو أتذكرها على الأقل، مجرد تذكر.

على كلّ وبعضٍ، ربما لو كان لي أن أكون أنسي الحاج هذا العام، لأبدلت ديواني من “لن”*، إلى “لم”. “والرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع”*، إلى “الرسول بقيده الطويل، حتى الزنازين”. و”ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة”*، إلى “ماذا صنع بك النفط، ماذا فعلت بك الشوكة”. و”كلمات كلمات كلمات”*، إلى “حسرات حسرات حسرات”، كما يقترح سمير عطالله بالطبع.
_________________________
* جميع ما أُلحق بنجمة، عناوين لدواوين الشاعر الراحل للتوّ: أنسي الحاج. بما فيها العنوان.

عدد المشاهدات : 1966

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.