من يتذكر كولن ولسون؟

من يتذكر كولن ولسون؟

مدير التحرير

ﻗﺒﻞ خمسين ﻋﺎﻣًﺎ، ﻛﺎن كولن ولسون ﺣﺪيث المنتديات الأدبية في معظم بلدان العالم. كانت إشاراته وحركاته وأحاديثه تأخذ حيزًا مهما في معظم صحف العالم. بالأمس وبالمصادفة أخبرني أحد الأصدقاء أنه قرأ خبرًا قصيرًا في صحيفة الغارديان، عن وفاة صاحب كتاب “اللامنتمي”. وأضاف الصديق: مسكين كولن ولسن توفي في وقت تتجه فيه أنظار العالم ووكالات الأنباء والفضائيات صوب جنوب أفريقيا، لتنقل تقارير وأخبار رحيل نلسون مانديلا.

ﺣتى الستينات والسبعينات، ﻛﺎن يبدو أن كولن ولسون ﺳﻮف يظل مرجعية أدبية وفلسفية وﺗﺘﺤﻮل آﺛﺎره إﻟﻰ أدب كلاسيكي.

لكن يبدو أن نبوءة سارتر من أن “ﻛﻠﻤﺎت اﻟﻨﺜﺮ أدوات يزول مفعولها ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻻيعود لها ﻏﺮض”، أصابت كولن ولسون الذي لم يعد أحد يعرفه ولا تلقى كتاباته ورواياته أي رواج.

حين أصدر كولن ولسون كتابة الأول والأشهر “اللامنتمي” عام 1956، كان في الرابعة والعشرين، وهو الكتاب الذي جلب له المال والشهرة العريضة، وتُرجم إلى مختلف لغات العالم. في ذلك الوقت أبدى عدد من النقاد الإنكليز ازدراءهم واستخفافهم بـ (الجهد) الذي بذله المؤلف واعتبروا جهده مجرد سياحة في سير ونتاجات قادة الفكر الأوروبي ودراسته مصادر وينابيع الفلسفات، ومحاولته إيجاد روابط بين سير هؤلاء المفكرين وما قدموه من نتاج. لكن القراء ضربوا بالحائط بكل صرخات النقاد ليضعوا الكتاب لسنوات على عرش الكتب الأكثر شهرة ومبيعا، وليتحول صاحبه إلى واحد من أبرز نجوم المجتمع البريطاني.

كان الكتاب قد كتب في إحدى قاعات المطالعة بالمتحف البريطاني، عندما كان ينام على فراش متنقل في شارع هامبستيد هيث. كان ابناً لعامل في أحد المصانع الصغيرة، وكان قد ترك دراسته في السادسة عشرة، ونجح في التهرب من الخدمة العسكرية بحيلة صغيرة. مارس في شبابه مهناً غريبة ليتفرغ لقراءة كل ما كان ينشر في ذلك الوقت، ويواصل تسجيل ملاحظاته في سجل كبير استدان ثمنه من أحد الأصدقاء.

يحدثنا كولن ولسن في كتابه “رحلة نحو البداية”، الذي ترجمه الناقد المصري الراحل سامي خشبة عن قصة كتابه الشهير هذا قائلا : “قبل أن أنشر كتابى “اللامنتمى”، فكرت وقلت لنفسى ينبغي لهذا ان يعيد الأمور إلى نصابها ويعيدها إلى الحياة. ثم فجأة أصبحت في التلفزيون تحت الأضواء المركّزة، ألقى التشجيع لكي أتشاجر. أو في افتتاح معرض للفن، مع أحد اللوردات، ألقى التشجيع لكى أناديه باسمه المجرد. في حفلة يشير إليّ الضيوف باعتبارى مثل الأعجوبة الطبيعية، أو يهاجمنى ناقد، فما علاقة كل هذا بكتاب ”اللامنتمى”؟. لقد كان شيئا لا يصدق، وكان أكثر غباءً وجنونا من كل ما كان بوسعى أن أتخيله، ولم يكن على علاقة مطلقا بأي شيء أهتم به. كان استعراضا ساخرا فكاهيا للنجاح.

في ذلك الصباح من يوم الأحد، حينما ظهرت أول عروض الكتاب، فكرت بينى وبين نفسى قائلا، إننى كسبت وفزت وأحرزت هدفي. ثم حينما مرت أسابيع الدعاية، تبينت كل ما فعلته عدا ذلك، تبينت أننى لم أحرز هدفي. وأن المعركة قد انتقلت فحسب إلى جهة أخرى، وبدأت أكتشف حقيقة ما قاله سارتر من أن الجحيم هم الآخرون، وفي اليوم التالي ظهرت صحيفة ”ديلى إكسبرس” بعنوان يقول: (كولن ولسن يعترف بأنه مخادع) ونقل عني أنني قلت: (إن اللامنتمى قد كتب بناء على قصد زائف تماما)”.

من هو اللامنتمي؟

يُعرّف كولن ولسن اللامنتمي بقوله إنه الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ، والذي يشعر بأن الاضطراب والفوضوية هما أعمق تجذرا من النظام الذي يؤمن به قومه. لقد رأى الماضي أشخاصا مثل هذا، توفرت لديهم مثل هذه الرؤى المفزعة.

لقد قدم لنا ولسن بأخذه هذا المجهود على عاتقه كتابا عظيم الأهمية بالنسبة إلينا. إذا كنا نريد حقا أن نجد حلولا لمشاكل عصرنا.

يضرب لنا ولسن مثلا على اللامنتمي النموذجي في الأدب الحديث، فيدلنا إلى بطل قصة باربوس “الجحيم”، الذي يلجأ إلى غرفته في الفندق ليغلق بابها، ويعيش ليراقب الآخرين من ثقب في الحائط. إنه كما يقول باربوس: “يرى أكثر و أعمق مما يجب”، و هو لا يرى إلا الفوضى. و تعطينا كراسة “ويلز” الأخيرة: “العقل في منتهى حدود الاحتمال”، نذيرا بمثل هذا الاستيقاظ، فهنا نجد رجلا عاش حياته كلها منتميا، وفجأة يرى الهوة أمامه؛ فيصرخ مدّعيا أننا لم نكن ذاهبين إلى أي مكان.

ويتتبع و لسن طبيعة اللامنتمي خلال رواية كامو “الغريب”، وأعمال أرنست همنغواي الأولى، ويقر ولسن بأن الجو الذي يتميز به عالم اللامنتمي المعاصر، جوّ كريه جدًا. إن هؤلاء الأشخاص لا يرفضون الحياة فحسب وإنما يعاديها الكثير منهم. إن عالمهم المجرد من القيم هو عالم أشخاص بالغين، والفرق بين عالم البالغين و عالم الأطفال، هو أحد الفروق الرئيسية بين عالم القرن العشرين وعالم القرن التاسع عشر.

ويتبع ولسن اللامنتمي الرومانسي في “آلام فرتر” لغوته. وفي اللصوص لشيللر. وكثيرين غيرهم، مثل هولدرلن ورامبو ومالارميه ورلكه وبروست. على أن مشكلة اللامنتمي، هي في جوهرها مشكلة حية. ولهذا فإن ولسن يعود من الأدب إلى الحياة نفسها، فيعتبر فان كوخ، ولورنس، ونجنسكي لا منتمين. إنه يختارهم باعتبارهم ثلاثة نماذج للامنتمي، يتميز كل واحد منهم بمميزات خاصة ينافس بها الآخرين في انتمائيته. ميزات في العقلية والشعور والجسد. ألا نجد أن الطريق التي شقها كل واحد من هؤلاء لم تكن مثمرة في حد ذاتها؟

ذلك أن الأمر انتهى بفان كوخ، ونجنسكي إلى الجنون. في حين لم يكن انتحار لورنس العقلي ليقل عن جنون نجنسكي. وينتهي ولسن إلى أن أهم ما يشغل بال اللامنتمي، هو عدم رغبته في أن يكون لا منتميا. إلا أنه لا يستطيع أن يتخلى عن كونه لا منتميا، لأنه لا يريد أن يكون بورجوازيا عاديا، فليس ذلك بالحل الصحيح. إن مشكلته هي كيف ينطلق إلى الأمام. إلا أن لورنس ونجنسكي وفان كوخ، إنما عادوا إلى الخلف، فاندحروا جميعا.

وهكذا فان اللامنتمي ليس مجنونا، إنه فقط أكثر حساسية من أولئك الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول.

يريد اللامنتمي أن يكون حرًا، وهو يرى أن صحيح العقل ليس حرًا، ولقد وجد نيتشه الذي يتناوله ولسن بالبحث أيضا، حلا في إخباره العالم بأن جميع الناس يجب أن يكونوا لامنتمين. أما لامنتمو تولستوي فقد هربوا من أنفسهم بتمسكهم بإنكار الذات، باعتبار أنه جوهر المسيحية. وينتهي هذا الفصل بدوستويفسكي الذي يخصص له ولسن معظم ما تبقى من الكتاب، محللا أعماله تحليلا دقيقا، ذلك لأن أعمال هذا الكاتب تمهد الطريق لتطورات جديدة.

اللامنتمي .. أصله عراقي

تُرجم كتاب “اللامنتمي” إلى العربية عام 1957، من قبل المترجم العراقي زكي أنيس حسن، حتى انه (نحت) تعبير “اللامنتمي” بعد أن وجد أنه أنسب وأفضل تسمية عربية للعنوان الإنكليزي الأصلي للكتاب. ومنه أخذ الكتّاب والنقاد العرب يتداولون هذه التسمية، وظلت حتى الآن هي المعتمدة في الدراسات الأدبية. وقد انشغلتُ كما انشغل غيري بمعرفة أهواء وميول هذا المترجم، فعرفت أنه قاص عراقي ينتمي إلى جيل الخمسينات، ترجم العديد من الكتب، أبرزها “السقطة” و”أسطورة سيزيف” لألبير كامو، و”مغامرات الأفكار” لهوايتد، و”الإنسان الصرصار” لدستوفيسكي، و”العودة إلى ميتوشالح” لبرنادشو، و”قصة لوحات كهوف الصحراء” لهنري لوت، وغيرها من الكتب والدراسات القيمة، كما نشر العديد من القصص القصيرة في مجلة أهل النفط، ومن بعدها في مجلة العاملون في النفط، وكلتا المجلتين كان يشرف عليهما الروائي والمترجم القدير جبرا إبراهيم جبرا، العراقي النشأة والتكوين والهوى، الذي جمعتني معه جلسات من الود، سواء في المكتبة التي كنت أعمل فيها، أو في الطابق الخامس من دائرة السينما والمسرح، حيث اشتركنا معا في لجان خاصة بالمسرح، وكان أول سؤال سألته لجبرا: أين اختفى أنيس زكي حسن؟ ابتسم جبرا ابتسامته المعهودة ليخرج بعدها صوته خفيضا كعادته حين يتكلم:

– وما الذي ذكّرك به وهو من جيل سبقك بعقود؟

– لأنه توقف عن الترجمة !

نظر إليّ جبرا دون أن يتكلم، ولاحظت في عينيه ظلال حنين إلى ماض جميل.

– يبدو إنني أثرت شجونك يا أستاذ؟

– بالعكس، ذكرتني بصديق كان ولايزال من أعز أصحابي. لكنه عنيد. هل تدري أنه توقف عن الترجمة، لإحساسه ان ما ينشر في الغرب من أفكار لا يستحق التوقف عنده. ليس هذا فقط، بل هو رفض عروضاً من دار الآداب لترجمة أعمال أخرى لكولن ولسن، لقناعته أنها لا ترتقي إلى مستوى الكتب التي ترجمها للمؤلف نفسه، وهي “اللامنتمي”، “سقوط الحضارة”، “المعقول واللامعقول في الأدب الحديث”. ولكون كولن ولسن تحول إلى كاتب استهلاكي، يكتب الرواية البوليسية، وكتب الشعوذة على حد تعبير أنيس. ويضيف جبرا: إن أنيس أخبره أن كتاب اللامنتمي هو أهم ما كتبه كولن ولسن، والكتب التي جاءت بعده هي شروح لكتاب اللامنتمي.

ولكي يُرضي جبرا فضولي، فقد أخبرني أن أنيس زكي حسن خريج دار المعلمين العالية، يجيد الإنكليزية، وعمل مديرا لدائرة الصحف الأجنبية في وزارة الخارجية العراقية، ثم حصل على وظيفة في الأمم المتحدة.

ونسيت أنيس زكي حسن، إلى أن وقع في يدي كتاب “وداعا أيها الملل”، لأنيس منصور وهو مجموعة مقالات كان قد نشرها في صحيفة الأهرام، ولأن منصور من المهتمين بالفلسفة، فهو قد درسها على يد عبد الرحمن بدوي في الخمسينات، وعشق الفلسفة الوجودية تيمناً بأستاذه، فأصدر وهو شاب كتاباً باسم “الوجودية”، يعدّ من أوائل الكتب العربية التي تناولت هذه الفلسفة، فقد خصص كتاب وداعا أيها الملل للحديث عن فلسفات العبث واللامعقول والتمرد. وفي الفصل المسمى “المنتمي واللامنتمي”، وجدت أنيس منصور مثلي يبحث عن شخص اسمه أنيس زكي حسن، لكنه على العكس مني حظي بمقابلة الرجل وتحدث معه:

“ظهر فجأة وبلا مقدمات كتاب عنوانه “الغريب”، وقد ترجمه إلى العربية أنيس زكي حسن، وهو من أدباء العراق بعنوان “اللامنتمي”، وعندما قابلته في بغداد في أوائل السبعينات، عرفت منه أنه تعب كثيراً حتى وصل إلى هذه الكلمة، وهي لاشك كلمة موفقة، وهي تدل إلى حد بعيد على المعنى الذي يريده كولن ولسن، من أن الإنسان اللامنتمي، هو الذي لا يرتبط بأحد، ولا يلتزم بشيء، وهو يحس أنه وحده، وأن وحدته هي السجن الذي اختاره لنفسه”.

ووجدت في كتاب أنيس منصور، أجوبة لبعض تساؤلاتي حول أنيس زكي، وترجمته لكتاب اللامنتمي، لكن السؤال المهم أين اختفى أنيس زكي حسن. لم أجد له إجابة، إلى أن طالعت مقالة كتبها أنيس منصور في جريدة الشرق الأوسط عام 2008، تحت عنوان “ولكن أين أنيس زكي حسن”، يقول فيه:

“لم أنسَ أديبا عراقيا اسمه أنيس زكي حسن ترجم كتاب “اللامنتمي”، وأنه صاحب هذه الكلمة البديعة، وأدهشني كيف عثر عليها، وحاولت ان أعرف أين هو، ولم أجد جوابا، وإنما كلهم يقولون لا نعرف أين اختفى، وكتبت في الأيام الماضية عنه، وفجأة قرأت على الإنترنيت رسالة منه يشكرني إنني مازلت أذكره، وأنه يعيش في أحد أحياء بباريس، وإننا سوف نتواصل مادام حياً إن شاء الله”.

وفي سيرته الصادرة حديثًا بعنوان “الحلم من أجل هدف ما”، يقول ولسون أنه وضع مئة كتاب حتى الآن. لكنني أعتقد أن كولن ولسون سوف يدخل التاريخ والذاكرة الأدبية تحت عنوان واحد، هو “اللامنتمي”. الكتب الأخرى كانت تكراراً أو استفاضة لفكرة واحدة، وثقافة واحدة، برغم سعتها الهائلة. والحكم والهدف كانا واحداً لديه: أن يكتب.

في آخر حوار أجري مع كولن ولسون، بمناسبة مرور 50 عاما على صدور كتابه اللامنتمي، قال لمحررة النيويورك تايمز “آمل العيش إلى أن اكمل 93 عامًا، السنّ التي رحل فيها كاتبي المفضل جورج برنارد شو”.

وحين تسأله كيف سيكون نعيه؟ يقول “لا يهمني ذلك فعلاً. لقد قلت في نهاية كتابي (رحلة إلى البداية): إنني أنظر إلى نفسي باعتباري الأكثر أهمية بين كتّاب القرن العشرين، وسأكون أحمقَ إن لم أدرك هذا، وجبانًا إن لم أقله”.

____________________________
* نشرت هذه المادة، في جريدة المدى، بتاريخ 11 ديسمبر 2013، بعد رحيل كولن ولسون بستة أيام. للكاتب العراقي: علي بن حسين.

عدد المشاهدات : 1917

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.