يحدث أنْ تُنكرنا المرآيا

يحدث أنْ تُنكرنا المرآيا

عبدالعزيز البرتاوي

مخرج:
“إن الأشخاص الذين لا يقومون بشيء في حياتهم سوى الوقوع في الحُب، هم وحدهم الجادون بشأنه، باعتباره واجبًا مقدسًا، أكثر من هؤلاء الذين يضحُّون بالحبّ، وبقلوبهم، من أجل فكرةٍ طارئة”.

 

يحدث بعد أمدٍ أن أتذكّر نسياناتي. يحدث بعد أمدٍ آخرَ، أن أنسى هذه الذكرى.

يحدث دائمًا، ما يجعل روحي لاهثةً، راكضةً، منطلقةً في سهول الذكرى، وآجام القلب، أيّ فرائس الأيام تصيد، وعلى أي طرائد الليالي تقع؟

يحدث أن أفتح قلبي مديدًا، على مصراعي اللحظة، ودفّتي الحين، يدخل من شاء، ويخرج من شاء. يحدث أن يغلق قلبي بابه، فجأةً، فإذا بأحدهم يطرق: أريد الخروج من كل هذا السواد.

يحدث أن أقيل بفيء شجرة. يحدث أن أكسر غصنًا منها، يحدث أن أسنّ حجرًا، وأصنع فأسًا، أجذّ به هامة الشجرة كلها، فتصبح الشمس عليها، ولا فيءَ لها، ولا من مقيل. يحدث أني لست الإنسان البدائيّ الأول، ولست البشريّ الأنانيّ الأخير.

يحدث بعد أمد، أن تُثقل الليالي كاهلك، أي فضائل تترى، وهبك إياها الغرباء؟ وأي رذائل أخرى، شنّعك بها الأقرباء؟ يحدث أن تتحسس مع ابن العبدِ وقْعها؛ أشدُّ مضاضةً، من وقع الحسام المهند، المرفوع لليالي الرقص والعرضة، بين يدي رئيس أعجمي؛ سُنّ هذا السيف لذبح جدّه.

يحدث أن تصقل الليالي وجوه الذين أدنيتَ بساحِ القلب، فوجه كأنّه البدر في كالح الليالي، لمّاعُ أعطياتٍ مورقات كاللاليء، ووجه كأنه المرّ في مالح الفيافي، يزيد العطِش صدىً، ويُقفر من أيامك ما قد اخضرّ.

يحدث أن تُمضي العمر، لتقول لأحدهم: شكرًا، ولا تطيق. يحدث أن تقطع الزمان، لتبصق على أحدهم، ولا يكفي. يحدث أن لا يحدث شيء، ويحدث أن تحدث أشياء كثيرة حدّ الذهول.

يحدث أن تقرأ كتابًا فيأتيك وجه بين السطور، وفوق الحروف، وخلال الجمل، وطيّات الكلام. يحدث أن تسمع لحنًا، فتبصر بين مقاماته صوتًا، نعم، تبصر، لأن القلب يلحظ كما تلحظ العين، ويسمع كالأذن، ويصغي كالعقل، ويتعب كالقدمين وأيدي الفلاحين.

يحدث أن تكون شهادتك الكبرى، بعد كل ما أثخنوك به من معارف ومخاوف ومخارف، أن يقول لك أحدهم: كم هو حلوٌ قلبك هذا، فلا تدعه لمرارات الزمان.

يحدث أن تتخطى العشرين، وتجتاز الثلاثين، وتواشك الأربعين، ميمّمًا صوب رياح خُماسين الخمسين، لكنّ قلبك طفل أبديّ، يغفو ويسهو ويعفو ويحبو ويكبو، ولكنهم لا يعلمون.

يحدث أن تنسى العمر كله إلا ليلة، وتنمحي الأيام كلها إلا يومًا، وتغيب الوجوه كلها إلا ملمحًا خَالِدًا وبسمة. يحدث أن لا تتحكم بحيطان قلبك، لقد علّقوا مكارمهم على ساحهِ فغدى مِلكًا لا تقوى عليه منهم من فِكاك.

يحدث أن تحاصرك الغصص والقصص من كل مكان، وما أنت بباكٍ، وتهمي عليك الدموع المسحّات من كل سفح، وما أنت بسافح ولا صافح، فيقول لك وجه يتبدّى وسط غبش الدموع، وما يشبه المطر ليلًا على إضاءات الطريق: لا تبكِ، فتصبح الدنيا غيمةً، والكون جنة.

يحدث أن يغيب الرفاق، أو يُغيّبون. تغيّبهم مصائب الدهر، وتفرمهم فرمانات الحكومات. يحدث أن تفتقد ضحكاتهم، وأن تتحسس ضلوع صدرك النحيل، وقلبك يجِب تحته، متسائلًا: متى تغيب ضحكتي أيضًا؟

يحدث أن تكبر غزلان، تلغو بعد أن كانت تثغو، وتقلّب بعد أن كانت تقبّل، وتعبس بعد أن كانت تهمس، وتقسّي ملامح الحاجبين المقوسين كرّ الثواني، أنْ لا تواني. يحدث أن تصبح الحياة وحشًا، و”غزلان” طريدة.

يحدث أن يقول لك قلبك: أيها الغريب، لقد تعبنا. يحدث أن تقول لقلبك: أيها الغريب، كيف لنا أن نرتاح؟ يحدث أن تلتقي قلبك في مطار ناءٍ يحمله غريب في حقيبة، ويذهب بعيدًا، ولا من رحلة للحاق، ولا مقعد للبقاء.

يحدث أن يصبح كلامك شتمًا، وأيامك همًّا، ولياليك غمًّا. يحدث أن تصبح النسائم خمشًا، وتزيدك النداوات عمَشًا. يحدث أن تسوّد أيامك بيضات الشيب الذي برأسك، وتصعّر لك الأيام خدودها، وتؤرق عليك الليالي جدودها.

يحدث أن تُعجبَ بعيبٍ، وأن تتقرّف من حلاوة. يحدث أن تستثقل خفة الكائن الذي يحتمل، ويحدث أن تستخفّ ثقالة الكائن الذي لا يحتمل. يحدث أن تحبّ بغيضك، ويحدث أن تبغض حبيبك. يحدث أن يصبح البسّام سيّد العبوس، والمكفهرّ أستاذ الانشراح. يحدث أن تبدّل الليالي لياليها، وأن تعلن النهارات تواريها.

يحدث أن تخبيء وجوهنا الأقنعة. يحدث أن لا نعود إلى معرفة وجوهنا. يحدث أن نختلف مع الآخرين، ونتفق مع قلوبنا، ويحدث أن نتفق مع الآخرين، ونبيت مهمومين، في خلاف مع تلك التي كانت قلوبنا، فأخذوها. يحدث أن تُنكرنا المرايا، نمسح عنها الغبار، ونزيل عنها الشظايا، وننسى وجوهنا.

يحدث أن يكون أحدهم شجرةً، في صحراء العمر. كل الفيافي قيظٌ، ووجهه يمام، كل الدروب هجيرٌ، وضحكته غمام. يحدث أن يكون نبع أيامنا، صوتٌ، ونهر ليالينا، همسٌ، وبوصلة حياتنا، تلويحة.

يحدث أن نقرأنا في كتابات الآخرين، ونسمعنا في حكايات العابرين، ونشاهد أحداث أيامنا في ثنايا لقطات أفلامهم. يحدث أن نشمتَ، وأن نصمتَ، ويحدث أن نكون العبرة –بكسر العين حدّ الدمعةِ، لا بفتحها حيث هي الدمعة حقًا-.

يحدث أن لا يحدث شيء، ويحدث أن يحدث كل شيء. يحدث أن لا تعرف حوادث الليالي لهولها. يحدث أن يكون كل ما كتبت تشكيًّا من طوام الزمان، بينما كل مآسيهِ اللحظة، أن لا شبكة في هذه الطائرة، فأنجو وأناجي الكلام، علّه يُعلّلني إلى حين.

يحدث أن تُوقفي رقص الجدائل الـ تذهّب أطرافَها الشمس، وتُطلُّ عيناك الحلوتانِ، لتقرآ. يحدث أن يتدلى قرطاك البهيّانِ، آن تطربين لجملة، ويحدث أن ترقص لتمتمة شفتيكِ الكلمات. يحدث أن تخجل كل قطع الحلوى في المقهى، ويتوارى صندوق السكّر، ويخجل النادل، يسكب حليبًا بدل الماء، وتقولينَ بزهوٍ وأنت تختارين كرسيًا يقابل الشمسَ: يحدث أن لا يكون شيء أبهى من هذا، ونقول جميعًا: يحدث أن لا يكون.

عدد المشاهدات : 6428

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment