24

24

مها إبراهيم

أكتب عن البنت الصغيرة؛ التي جاءت من مكان بعيد يطلّ على العالم، ولا ينتمي إليه. يمكنك مشاهدة الحياة من على أطرافه، كما لو أنه بحاجة إلى دفعة من رجل شجاع أو ربما أحمق، ليدخل في نطاق شيء ما، أي شيء، ليصبح شيئًا ما.

البنت الصغيرة التي اكتسبت وجه الشتاء في محافظتها، باردة وقاسية ومتقلبة المزاج. البنت التي اعتادت أن توقظ الديك، أن تفسد نومه، وتغضبه، حتى اختلطت الأيام على الديكة في ذلك المكان منذ عشرين عام، وبعد مرور كل ذلك الوقت؛ ما زال صياح الديكة المستمر مربكا ومضحكاً في نفس الوقت، إشارة تدل على تورط بشريّ، يد صغيرة وخبيثة امتدت الى قوانين الصوت.

أكتب عن السيارة ذات اللون الأخضر، عن سائقها الذي لم يكن له وجه، له ظهر يحمل ثوبه الأبيض ورأس عار بلا شماغ أو طاقية، ربما كان السيد الذي لا يملك وجهاً بلا عمل، ربما كان يبحث عن مصدر دخل إضافي قبل السابعة.

عن أربع راكبات صغيرات، ربما كن خمسة، السادسة في المقدمة دائمًا، ابنة السيد بدون وجه ربما؟ عن طابور السابعة، والنشيد الوطني الذي ينتهي دائمًا بصوت أو صوتين ثائرين وطن ططن!

عن المعلمة التي كانت تحمل المسطرة الخشبية كما لو كانت العصا التي أبرحها بها زوجها ضربًا بالأمس، والتي تتلبس غضبه كما يتلبس العبد الضعيف عدوان سيده في أول فرصة سانحة. عن مشوار العودة مشياً، عن حرارة الصيف الذي يأتي دائما غاضبا كمسطرة المعلمة الخشبية.

عن الشجارات والحجارة والأيدي العنيفة، عن بنات العائلات التي تسكن الطرف الآخر من الحيّ، مالهم أصل. ماذا يعني ذلك؟ أمر سيء بالتأكيد. عن القمل الذي ينتقل للفصل بسبب تلك الجماعة المنبوذة التي لا تمتلك أصلاً يقيها حتى هجمات القمل، بسببهن كانت أمهات البقية يعانين من استهلاك مخزون القاز ومسحوق الغسيل “تايد” وغضب آبائنا.

عن البيت المسكون، والمدرسة المسكونة في الحارة البعيدة، عن المجنون الذي يتمشى بثياب ممزقة في الطريق الذي تعود الصغيرات منه، عن الركض خوفًا في كل اتجاه.

عن العم الذي كان يزور الجيران في العطلة الصيفية ويفضل لعب “صيدة” مع الفتيات الصغيرات بدلا من الجلوس في مجلس الرجال وتناول الشاي والقهوة. لا أحد يعرف لماذا كان يفضّل هذه اللعبة حين لا يكون أحد من الكبار بالجوار.

عن الجار الذي يوصل بنات الحيّ بصحبة ابنته ويتوقف في البقالة التي لا يوجد لعائلة البنت الصغيرة صفحة في دفتر التسجيل لديها، عن كذبة “لم أجد ما أريد”. وآلاف الأكاذيب التي ابتدأت منذ ذلك الوقت.

عن الدش، عن أول أغنية؛ صابر الرباعي – خلص نارك، عن الحاجة لتورية سوءة سطح المنزل قبل أن تطالها يد حارس فضيلة غاضب، الصحون الطائرة خرافة لكنها الآن تسكن سطوح المنازل. عن ترقب اعادة الاغنية للمرة الثامنة.

عن صوت والد البنت الصغيرة الناعس الذي يأتي من المسجد البعيد. عن النار التي ستُصبّ في أذنك بسبب لحن بريء، عن السدّ الذي أقامته الأفواه الغاضبة بين الناس وبين الله.

عن الليالي التي يحصل بها الأطفال على ساعة إضافية من السهر لأن بابا “جايب خبز”. عن أول شريط كاسيت بقيمة ١٥ ريال، عن مئات أشرطة الكاسيت بقيمة ١٥ ريال. عن أشرطة الكاسيت الفارغة بانتظار قدوم الاغنية المرتقبة على الراديو، عن زر التسجيل، عن الصيف الطويل الذي لا يملك سوى وجه واحد. عن التخلي عن كل أشرطة الكاسيت دفعة واحدة.

عن أكياس القمامة الحزينة، عن البنت الشيعية التي كانت تقرأ لتركي الحمد، عن الشميسي، عن الحديث الدائم حول مذهب البنت الشيعية، عن الوجه الشيطاني لأشرطة الكاسيت، هذه المرة بخمسة ريال، لتعرف أن الشيعة إخوان المجوس. من هم الشيعة؟ أناس سيئون، أسوأ من العائلات الي مالها أصل.

عن صوت محمد عبده وطلال مداح اللذين جاءا متأخرين بعمر كامل، متأخرين على أن يحملا إشارة لأية جذور في ذاكرة الصوت، عن شوبان، الذي حضر لأول مرة في سوناتا لأشباح القدس، له لون أرجواني ويشبه مريم كثيرًا، حاضر دائمًا كما لو كان الخلفية الموسيقية لحياة بأكملها. عن ذاكرة الصوت التي تقاوم على وهن، من أجل الاحتفاظ بكل هذا والتشبث به لوقت أطول.

عن صوت بابا الذي حملته أول ريح دون أن يتبقى منه شيء. عن الجزء الضامر من الهوية الذي يبتلعه الصوت والغياب دائمًا. عن ذاكرة مصابة بالصمم.

عدد المشاهدات : 647

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment