مطبخ الكتابة

منى محمد

في الثامن من يناير تدخل إيزابيل الليندي إلى مكتبها وتجلسُ أمام جهاز الكمبيوتر في منزلها الراقد فوق هضبة تطل على البحر بالقرب من سان فرانسيسكو.. تُخلي المكان من كتبها الأخرى وتُبقي على المعاجم، والمسوّدات الأولى، والمواد التي تحتوي على بحوث العمل الجديد، وتشرع في كتابة رواية.

هذا الطقس الإبداعي لإيزابيل هو تكرار لارتجالها الإبداعي الأول، الذي حدث في مطبخ بيتها حين كانت تعيش منفاها الاختياري في فنزويلا بعيدًا عن بطش الحكم العسكريّ في وطنها تشيلي، عن هذا الارتجال الإبداعي الأول تقول: “تغيّر قدري في الثامن من يناير عام 1981، تلقينا ذلك اليوم مكالمة هاتفية في كراكاس، أخبرتني أن جدّي كان يحتضر. لم أتمكّن من العودة إلى تشيلي لتوديعه، لذلك بدأتُ ذلك المساء في كتابة ما يشبه الرسالة الروحية لذلك العجوز المحبوب، افترضتُ أنّه لن يعيش ليقرأها، إلا أن ذلك لم يوقفني. كتبتُ الجملة الأولى في نشوة: “أتانا باراباس عبر البحر” من كان باباراس؟ ولماذا أتانا عبر البحر؟ لم أكن على وعي بهذه الفكرة الضبابية، ولكنّي استمريتُ وأكملتُ الكتابة كمجنونة حتى الفجر… في الليلة التالية بعد أن تناولتُ العشاء أقفلتُ على نفسي مرةً أخرى في المطبخ لكي أكتب… ومع نهاية العام كنتُ قد كتبتُ على طاولة المطبخ خمسمائة صفحة! لم تكن تشبه الرسالة أبدًا، كانت روايتي الأولى (بيت الأرواح) قد وُلِدَتْ”.

طاولة المطبخ المتواضعة التي كتبت عليها إيزابيل روايتها الأولى، انتقلت معها إلى أمريكا، وضعتها في مكتبها الذي صارت تدخله في الثامن من يناير، لتشرع في كتابة رواية جديدة.

ومن المطبخ أيضا، أنضج الياباني هاروكي موراكامي رواياته الأولى، قبل بدايته كان قد حضر مباراة (بيسبول) صاخبة، في ختام صخبها خطرت في ذهنه ارتجالًا فكرة تقول: “أعتقدُ أنني أستطيع تأليف رواية” فاشترى في طريق عودته رزمًا من الورق، وشرع في كتابة روايته الأولى، يقول: “بعد ذلك اليوم، صرتُ أجلس كلّ ليلة حينما أعود مُتأخرًا من العمل، إلى طاولة المطبخ وأستغرقُ في الكتابة…” فأتمّ روايته الأولى خلال ستة شهور، وفي العام التالي أيضا من على الطاولة نفسها كتب روايته الثانية، وتوصّل إلى نتيجة ظريفة يقول عنها: “بشيء من الحبّ المُختلط بالحرج، أطلقتُ على هذين العملين (روايات طاولة المطبخ)”.

ومن مطبخ ياباني آخر، نضجت طبخة إبداعية أُخرى، هي رواية (بقايا اليوم) لكازو إيشيغورو، وقد استغرق طبخها أربعة أسابيع فقط، أتبعها برواية أخرى كتبها من المكان ذاته.

حول دفء المواقد أيضا حضّرت الروائية غلوستر شير مكونات إبداعها الأوليّة، وأعدّت أطباق إبداعها، تستحضر ذاك الدفء وتقول: “اعتادتْ أمّي عندما كنتُ طفلة وكانت تنزعجُ منّي أن تُغلق عليّ في مخزن الفحم” هذا العزل ربّى في الكاتبة رغبة مستمرة في العزلة، وكما كانت في طفولتها تختلقُ في مخزن الفحم حكايات تسلّيها، استمرتْ بعد ذلك في نسج حكاياتها مع موقد حطب حيث تحترق الأشياء التي لا تُحبّها.

جوروج أورويل كذلك، عاش (مُتشرّدًا بين باريس ولندن) ومكث في المطابخ العمومية وقتًا أكثر من الوقت الذي قضاه في الشوارع وغرف النزل الرخيصة التي كان يستأجرها برهن ثيابه، هذه التجارب القاسية أنضجت جورج كما تُنْضج نيران المطابخ الطعام، يصف تلك المطابخ قائلًا: “لم يكنْ المطبخ يُشبه أي شيءٍ رأيته أو تخيلته، كان قبوًا خانقًا خفيض السقف، جحيمًا تضيئه النيران بضوء أحمر، وضجّته تصمّ الأذان سبابًا وقعقعة وقدور ومقلايات”

ماريو بوزو أيضا، انتابته الحماسة بعد نجاح روايته (العرّاب) فقرّر أن يُنشئ لنفسه مكتبًا جميلاً خلف منزله؛ غرفة كبيرة ومضيئة ذات منضدتين كبيرتين وكل ما يمكن أن يحتاجه الكاتب. المشكلة أنه لم يتمكن من الكتابة هناك وما لبث أن عاد إلى منضدة المطبخ وسط ضجيج أبنائه ليعود أخيرًا إلى الكتابة.

ما سرّ المطبخ عمومًا، ما سرّ طاولة المطبخ على وجه الخصوص؟ هل السرّ يكمنُ في التوازي بين ضرورة الطعام وضرورة التعبير؟ إلحاح الجوع وإلحاح الأفكار؟ الوجود الثابت للمطبخ في كل بيت والوجود الثابت للشغف في قلب المبدع؟ أم أن الأمر يتعلق بوراثة عادة قديمة من أسلافنا البدائيين الذين كانوا يؤنسون بعضهم باختلاق الحكايات وسردها فيما هم مُلتَفون حول المواقد؟

تشتركُ إيزابيل مع موراكامي في مكان الكتابات الأولى (طاولة المطبخ) وفي توقيتها (بعد منتصف الليل) فيحضر في الذهن نصّ شعري لسلمان الجربوع عن لمبة المطبخ المصابة بالأرق، وعلاقاتها بالكتابة المؤرقة ما بعد منتصف الليل:
“عندما يذهب البيت إلى النوم
تحرسه
لمبةُ المطبخ،
الكنبةُ المصابة بالأرق
وحيدةً
في غرفة الجلوس
بعدما كنست الخادمةُ الأحاديثَ اليوميّة
تسلّيها لمبة المطبخ،
الأفكار التي تطنّ حول رأس ربّة البيت
عن السعادة الزوجيّة
تُحرقها
فكرةً
فكرةً
لمبةُ المطبخ،
الأب العائد
متأخّرًا
إلى البيت
تفضحه لمبة المطبخ.
عندما تحترق لمبة المطبخ
تهتزّ ثقة البيت
في نفسه”.

وكما حضر الإبداع على طاولة المطبخ، حضرت المطابخ أيضا في الإبداع، يتباين حضورها بين الألفة والتعب، في نصوص قد لا يجمع بينها شيء سوى انعكاسها على بلاط أرضية المطبخ.

في مجموعة أمينة طلعت (طبيخ الوحدة) يحضر المطبخ بحب: “كان المطبخ بالنسبة لي كشف ومساحة للتطهر، حالة الحب ترتبط حول ما يخرج من المطبخ”.

بالحب ذاته تكتبُ غادة محمد أيضا عن الطبخ:”الطبخ فعل حب؛ تُوظّف أنت فيه اللمس والشم والتذوق والرؤية، وأوظف أنا فيه اشتياقي لك، ولابتسامة من وقع المفاجأة… الطبخ فعل حُبّ.. هذا هو ما عرفته، وهذا هو ما شعرت به حينما كنت أعد لك كيك الشوكولاتة بالأمس أو فطيرة التفاح قبلها. لم أستطع الوقوف في المطبخ دون أن أسمع موسيقى هادئة. حرصتُ على أن أعمل بيدي وأن أمزج المكونات وكأنني أربت على ظهر طفل، برفق بالغ. كثيرًا ما كنت أفكر في رائحة بيتنا، فبعض البيوت -كما تعرف- لها رائحة مقبضة وغير مرحبة، وأنا أرغب في أن يفتح بيتنا ذراعيه لكل من نحبهم ويحبوننا.. أنا لا أرغب في أن تكون رائحة بيتنا برائحة العطور، أو معطرات الجو، سيكون من الأفضل أن يكون البيت برائحة النعناع أو القرفة أو الشوكولاتة الذائبة أو التفاح.. والأهم من هذا أن تكون الرائحة دافئة..”.

إنّه الارتباط الحميم والألفة البالغة التي دفعت اليابانية بنانا يوشيموتو إلى كتابة رواية عنوانها (مطبخ) تبدأ كالتالي: “أحسبُ أنّي أحبُّ المطابخ أكثر من أي مكان في العالم”  تتحدث الرواية عن فتاة تفقد جدتها، الشخص الوحيد الذي كانت تأوي إليه في وحشة العالم، تترك المنزل الذي اتسعت وحشته بعد وفاة الجدّة، وتبكي بمرارة في الباص، تنزل في زقاق معتم قائلة: “لم أبكِ في حياتي كما بكيتُ هناك” لكنّها تتوقف عن البكاء عندما تلمح دُخانًا ينبعث من مطبخ قريب، وتسمع قرقعة الصحون؛ موسيقى الأُلفة واجتماع العائلة، تخطر في بالها فكرة لتحريض الألفة والانتماء في غمرة شعورها بالوحدة والفقد: “حين أكونُ مُرهقَة تمامًا أفكّر بشيءٍ من الابتهاج أنّني عندما تحينُ ساعتي أودّ أن ألفظ أنفاسي الأخيرة في مطبخي… المطبخ هو المكان المثالي لمثل هذا الأمر” وكأنها ستموت في حضن البيت، فالمطبخ، ملتقى العائلة الأبديّ.

من بنجلادش ترتكبُ بطلةُ قصةٍ قصيرة لبورابي داسو فعلًا مُغايرًا؛ فعل رفض، في قصّة عنوانها (رضا لن تطبخ اليوم) تُقرّر امرأة بكل بساطة أن لا تطبخ، لكن تداعيات الأمر ليست بسيطة على الإطلاق، في بلد مثل بنجلادش المرأة هي محور الأُسرة، عامود الخيمة الثابت في مكانه والذي لا يتنبه لجهوده المضنية أحد، ورغم كونها محورًا فهي أكثر من يعاني التهميش. قرار بسيط (أن لا تطبخ) مجرد رفض للفعل اليومي والاعتيادي الذي لا يمجّده أحد رغم انتفاعهم الدائم منه. تقرّر رضا أن لا تطبخ، فيغضب زوجها، يصرخ ابنها، تؤنبها أم زوجها، ورضا لا تبالي. تجلس وهي تحدّق في ماء البركة، وحتى السمك يأتي نحوها قطعانًا، فيتجمّع عند قدمَي رضا التي تقول: “رُح بعيداً، اتركني. لم أجلب لكَ اليومَ طعاماً”.

وبعيدًا عن عوالم حضور المطبخ في الأدب، قريبًا من عوالم النساء في الفضاء العام. على سبيل تحقير المرأة وتهميش رأيها وطردها من المجال العام، يختم البعض نقاشاتهم معها بعبارة (على المطبخ) فتحضر إيزابيل الليندي التي تقول: “لا تنتهي الحركة النسوية بخلاص ملايين من النساء، ستستمر حتى لو من أجل امرأة واحدة…” إيزابيل التي دخلت المجال العام في ليلة الثامن من يناير حين دخلت إلى مطبخها لتكتب من هناك روايتها الأولى.

عدد المشاهدات : 1984

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.