عيون إلزا وجائزتها

عيون إلزا وجائزتها

مدير التحرير

تبدو النساء سعيدات لأن «نوبل»، 2020. اعترفت بتفوق المرأة. منحتهنّ الآلهة السويدية الغامضة جوائز الفيزياء والكيمياء والآداب. إن الخريف هو موسم الرمان والجوائز. وفي فرنسا ينتظرون موعد «غونكور»، أعرق جائزة للرواية. فإذا ساير شراعها رياح «نوبل» يمكن أن تفوز امرأة. رياح عالمية تحركها مراوح «الأمم المتحدة»، شعارها: تمكين النساء.
خلال 113 عاماً من عمر «غونكور» لم تفز بها سوى 12 امرأة، بينهن مغربية تكتب بالفرنسية، هي ليلى سليماني. وبسبب تفاوت كفتي الميزان، أو بفضلها، يحتفل الوسط الأدبي بمرور ثلاثة أرباع القرن على فوز “إلزا تريوليه” بالجائزة. ولم تكن إلزا كاغان فرنسية، بل روائية روسية تكتب بلغة موليير. واللغات لها أسماء يتعارف عليها الناطقون بها. الفرنسية لغة موليير. الإنجليزية لغة شكسبير. الإسبانية لغة سيربانتس. الروسية لغة بوشكين، والعربية لغة الضاد.
في روسيا، أحبت إلزا الشاعر ماياكوفسكي. كان حبّها الأول، لكنه تزوج شقيقتها ليلي. أما هي فقد تزوجت ضابطًا فرنسيًا يدعى أندريه تريوليه، كان ملحقًا في موسكو. وبعد الثورة الروسية انتقلت معه إلى باريس، ولم تكن سعيدة في زواجها. ظلت تحنّ لوطنها الأم. تطلّقت بعد ثلاث سنوات، وواصلت حمل لقب طليقها، حتى بعد لقائها بالرجل الذي جعل اسمها أنشودة للعاشقين. استعار الشاعر الفرنسي أراغون لقب قيس بن الملوح وكتب لها ديوان «مجنون إلزا». و«عيون إلزا». وقد أخطأ المترجمون، لأن الصحيح «عينا إلزا». لكن ليس في الفرنسية سوى مفرد وجمع. أما المثنى فمن لطائف لغتنا.
كلما مررت بمقهى «الكوبول» في حي مونبارناس تذكرت أن لقاءهما الأول وقع هنا، في خريفٍ مثل هذا، قبل 92 خريفًا. لم يفترقا بعد ذلك اللقاء. عاشا متلازمين حتى رحيلها في عام 1970. واشترى طاحونةً قديمةً في قرية سان آرنو، جنوب باريس، أهداها لها لتكون عشهما الريفي. واستقدم أراغون عمّالاً لكي يرصفوا جدران المطبخ بالقيشاني الأزرق الشبيه بعيني حبيبته «اللتين تعكسان كل الشموس». والطاحونة التي بناها رهبان في القرن الثالث عشر لتوفير الخبز لأهالي باريس، تحولت إلى متحف مفتوح للزيارات. تتجول فيه فترى الأزرق يحتل الجدران. كأن عينيها مقيمتان في المكان. وترتقي الدرج فتسمع أزيز الخشب. تقول لك الدليلة إن بيكاسو ارتقاه قبلك. كان يتردد على المنزل لزيارة صديقه الشاعر. ترك في غرفة النوم صحنًا خزفيًا يحمل توقيعه.
كان أراغون يحتضن إلزا حين أصابتها نوبة قلبية. أوقفَ الزمن في تقويم الحائط على يوم رحيلها. السادس عشر من يونيو (حزيران) 1970. ودفنها في الحديقة البكر للطاحونة. كانت تحب موسيقى باخ فطلب من صديق عازف أن يعزف على الفيولونسيل عند قبرها. ولما حانت ساعة الشاعر، في عام 1982، أوصى بأن يدفن معها، وأن يكتبوا على الشاهدة عبارة مستلة من مقدمة أحد كتبها: «عندما سنستلقي جنبًا إلى جنب في النهاية، فإن آصرة كتبنا ستجمعنا في السراء والضراء». وفيما بعد، زرع المشرفون على المتحف جهازًا إلكترونيًا تحت الأشجار يبث أنغام باخ ليل نهار. يتريض الزوار في الحديقة فيسمعون الموسيقى ذاتها، تختلط بخرير المياه في النهر الذي يخترق الطاحونة.
لا تعرف الأجيال التالية أن إلزا تريوليه حازت «غونكور». الكل يتذكرها بصفتها ملهمة أراغون. أما حديث الجوائز فليس سوى ذريعة لحديث الحب. إن الرومانسية مفيدة لتقوية المناعة في زمن «كورونا».

___________________
* نُشر هذا المقال، للأديبة العراقية: إنعام كجه جي، في جريدة الشرق الأوسط، بتاريخ: الأحد – 23 صفر 1442هـ – 11 أكتوبر 2020مـ. رقم العدد: [15293].


عدد المشاهدات : 244

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.