أهلنا الذين كانوا رهائن أرزاقهم

أهلنا الذين كانوا رهائن أرزاقهم

مدير التحرير

أن تكون موظفا صغيراً في سوريا، في أواسط التسعينات براتب متواضع (هو دخلك الوحيد حينها)، وأولاد يستعدون للدخول إلى الجامعة، وأنت على أبواب تقاعدك الوظيفي، لهي معضلة كبرى تستدعي منك التفكير ليلاً ونهاراً بكيفية تدبر أمورك المعيشية. طبعاً، لا تتعب نفسك في البحث في نظريات آدم سميث، أو كينز لحل مشكلتك. فهذه لن تنفع في حالة مثل سوريا، اقتصادها مبني على عمود فقري مترهل ومتهالك إسمه القطاع العام، يعاني من جملة ما يعانيه من بطالة مقنعة وفساد ومحسوبيات وأعيان، يحددون ما يصح وما لايصح، انما عليك البحث في الشوارع الخلفية، الشوارع التي تنفتح على أبواب التحايل والالتفاف على ثغرات القانون.

 

سنة حلوة يا جميل
وصل أبي لعمر الستين في السنة التي سأتقدم بها إلى امتحان البكالوريا، وقضّت مضجعه فكرة التقاعد، خصوصاً أن راتبه، المتواضع اصلاً، سينقص خمسة وعشرين في المئة من جراء هذا التقاعد، فلجأ إلى فكرة في القانون تقول أن مواليد 31 ديسمبر يعاملون معاملة مواليد السنة التي تليها، فرفع دعوى قضائية على دائرة الأحوال الشخصية، ليثبت أنه من مواليد آخر أيام السنة، رغم أن جيل أبي ورفاقه يعرفون عمرهم بأنهم من مواليد سنة الجوع أو سنة السبع ثلجات أو سنة «الروحة عالعراق»، إلاّ أن الأمر نجح وحكم له القاضي بتعديل ميلاده وكسب سنة عمل إضافية..
من حسن الحظ أن القاضي لم يطلب صورة عيد ميلاد أبي أو طالبه بإحضار الهدايا التي تلقاها في عيد الميلاد ذاك.

 

فلاش باك سريع عن مسكنة
لزيادة راتبه، قرر والدي الإنتقال إلى احد فروع شركته، خارج مدينتنا العمالية، في منطقة اسمها مسكنة تقع على طريق حلب وتبعد 60 كم عن منزلنا، وتتطلب دواماً طويلاً يبدأ في السادسة صباحاً وينتهي في الخامسة مساءً. وهذا جهد يصعب على رجل قارب الستين ان يتحمله كل يوم. لكنه تحمل هذا العناء لخمس سنوات كاملة، يستيقظ فيها عند الخامسة صباحاً، ويركب مع بقية العمال باصات «السكانيا» المخططة والمرسيدس الإيرانية ذات اللون السكّري (بالمناسبة كانت باصات جيدة ولم تكن بوابة لتغلغل إيراني أو غيره).
اذا استيقظت في السادسة صباحا في الشتاء، ورأيت من نافذتك رجالاً يقفون على الرصيف مرتجفين من البرد، ويحملون زواداتهم وينتظرون الباص، فهؤلاء هم عمال مسكنة الذين اتكأ استاذ الجغرافيا على وضعهم ليرسم لوحة سوريالية في إحدى الحصص، وهو يشرح لنا فروق التوقيت بين البلدان وقال: اذا كانت الساعة الآن الثالثة فجرا هنا فستكون السادسة صباحاً في الهند، وسيكون عمال مسكنة هناك يستعدون الان لركوب الباصات.

 

انشقاق وذكريات ورفاق قدامى
القانون أبو ثغرة إياه، يسمح للعامل بتمديد خدمته لخمس سنوات اضافية لكن بشرط، كل سنة على حدة، والحصول على موافقة رئاسة مجلس الوزراء في كل مرة. وهذا يتطلب واسطة قوية لتحصل على هذا الاستثناء العزيز في ذلك الوقت. نصح أحد الرفاق والدي بأن يقصد وزيراً جديداً في الحكومة، وزيرا من الشيوعيين القدامى، ينتمي لأحد جناحي الحزب الشيوعي السوري وما زال يحمل للرفاق مودة خاصة (هل يفترض برفاق اليسار أن ينسوا العشرة وأيام الكفاح، خصوصاً أن أبي ترك الشيوعية في منتصف الستينات قبل ان ينقسم الحزب على نفسه بين خالد بكداش ويوسف فيصل وآخرين.
ولم تكن تخلو تشكيلة وزارية سورية من وزير شيوعي، مرة من جناح بكداش وأخرى من جناح يوسف فيصل. وهذا طبعاً بسبب أنهم جزء أساسي ومهم وفعال في الجبهة الوطنية التقدمية. وهكذا كان، ذهب والدي اليه محملا بذكرياته مع دانييل نعمة (القيادي في الحزب) والياس مرقص (المفكر المعروف) وإيمانه بقضيته الخاصة ولم يخيب وزيرنا الودود ظن رفاقه التاريخيين، وأنجز المهمة وحصل أبي على استثنائه وسنة إضافية من الراتب المكتمل غير المنقوص.
بعد سنتين توفي الوزير وعادت الكوابيس لتقض مضجع أبي مجدداً.

 

أوهايو .. الولاية المفتاح
صار البحث عن شخصية وازنة تضمن لأبي مبتغاه هاجس يومي مضن، إلى أن اهتدى بعد انتخابات مجلس الشعب عام 1998 إلى نائب برلماني عتيق، ذي نفوذ وحظوة لدى اهل الحل والعقد. شيخ عشيرة، يقال أنه يخدم كل من يقصده، ولا يتوانى عن مساعدة أهله وأبناء عشيرته، خصوصاً انه حاصل على لقب أقدم نائب برلماني عربي ويرأس أولى جلسات البرلمان بشكل دائم، كونه الأكبر سناً بين النواب، ولا يترك كرسي رئاسة المجلس إلا في نهاية الجلسة الأولى، بعد أن يكون الاعضاء قد انتخبوا عبد القادر قدورة رئيساً تاريخياً وأبدياً للمجلس. قصده أبي في فندقه الصغير في دمشق ولم يعد إلا وحلمه السنوي بيده، أخبرني أبي يومها قيلا عن قال أنه في إحدى الدورات الانتخابية لم يحصل نائبنا العتيق الطيب على أصوات كافية للنجاح، فاتصلت لجنة إحصاء الأصوات بمكتب الرئيس، وأخبروهم بالنتيجة وأتى الأمر فوراً أن الرئيس يصوت شخصياً له وكان الحسم والنجاح.

 

الراعي الدؤوب
انتهت سنوات التمديد الخمس من غير رجعة (حمدلله أننا لم نمتلك مجلس نواب لبناني في الشركة، يعترض على التمديد عالرايحة والجاية) ودخل أخي الجامعة ليزداد العبء وتضيق الحيلة والعبارة ولم يبق أمام أبي إلا أن يبرم عقداً جديداً مؤقتاً مع الشركة. وهذا شبه مستحيل، فما حاجة الشركة لمتقاعد عمره 65 سنة في ظل الحديث المتنامي عن البطالة المقنعة وإعطاء دور وفرص عمل للشباب. فما كان منه إلا أن طلب مقابلة مديره العام، الذي كان للصدفة في جولة خارجية في أحد مواقع العمل، والتقاه أبي هناك بعد ان اعترض طريقه (أبي من معجبي المسلسلات التاريخية لكن ليس لدرجة اعتراض طريق الخليفة) وشرح له وضعه القانوني وظرفه الاقتصادي.

أبدى المدير تعاطفه مع الحكاية لكنه رفض متحججا بعدم توفر حاجة أو شاغر أو مكان لموظف جديد. استجمع أبي قواه وخاطبه بجملة واحدة “لن أترك العمل قبل أن يتخرج الأولاد من الجامعة. أشتر لي عشر غنمات لأرعاها هنا”.
يبدو أن المدير كان من الهشاشة وضعف القلب والإنسانية بما يكفي ليوافق فوراً على طلب أبي (بعد هذه الجملة الصاعقة) مع مصافحة حارة، ودعوة لشرب القهوة في المكتب، وتمنيات قلبية بالتوفيق والنجاح لنا نحن الاولاد.

 

ما يشبه الاعتذار
بالمناسبة يا أبي، لم أخبرك سابقاً بأني كنت أصرف جزءاً كبيراً من تعبك هذا على شراء الكتب وارتياد دور السينما والعبث والسهر، أو كما يقول المجرمون في برنامج «الشرطة في خدمة الشعب»: «على الملذات الشخصية».
ولسنا بنادمين.

 

__________________
* عساف العساف. جريدة المستقبل اللبنانية.

عدد المشاهدات : 600

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.