الشِّعر تحت شرشَف أسود

الشِّعر تحت شرشَف أسود

مدير التحرير

كانت “النهار” الأولى في سوق الطويلة، قسمين: أربع غرف للتحرير والمحاسبة معًا، والقسم الآخر لماكينات صف الأحرف وتركيب الصفحات، والمطبخ. في غرفة صغيرة، مأخوذة من أخرى، كان يجلس أنسي الحاج، يقدّم، كل يوم، ربع صفحة عنوانها “أدب فكر فن”. من هذه النافذة أطلّ الأدباء والشعراء، وذوو التجربة الأولى. ومن خلف المكتب الحديد، حرَّك أنسي الحاج أمواج الحداثة ورفَعَ أعلام التمرّد ونَسَج لنفسه صورة الغريب.

غريب عن السائد. متمرّد على الشائع. كان في “النهار” وخارجها. في الصحافة وبعيداً منها. في لبنان وضده. كان يصل إلى المكتب وكأنه قادم من كوكب لا ينبت فيه سوى الصمت. ناحل، يرخي لحية صغيرة مثل علماء الصين. حتى وسامتُه كانت متفرّدة بملامحها ومقاييسها. وكان فيه صمت وغضب وخلفهما حب وأسى.
وفي قلبه كان حانياً ووديعاً وخائفاً. صمته كان دِرعه وقِناعه. وهو كان مرهفاً وعطوباً. وكان ناحلاً من الداخل أيضاً. يخاف من ضعف الناس ويحنو على ضعفهم ويستوعب أوهامهم ويُسامحهم برضى ومحبة.
لم يبتدئ ولم يتدرّج. جاء إلى الصحافة كأنه نازل إليها من سلسلة جبالها. بدأ في كتابة الأدب وكأنه مولود في مِذود الكلمة، مُلهم بها، ومفتون بسحر حروفها، حرفاً حرفاً. لم تكن لأنسي بدايات وبواكير يندم عليها ويُعيد النظر فيها أو يُعلن تبرّؤه من أبوّتها. هكذا أطلّ على هذه الصناعة: قالباً من ذهب مصقول، ونثراً من ذهب محفور.
في تلك المرحلة كان الانتماء شائعاً، وأحياناً فخرياً. وبقي هو خارج كل انتماء. لكنه كان أيضاً الأكثر شغباً في تقويم الالتواءات. كان يريد بقاء لبنان الذي أفاق عليه في حي “الخندق الغميق”، لكنه رآه ينزلق من بين أصابعه في انهيار متسارع، ويذوب على اعتاب التجار والجُلفاء وفُسّاد الروح، والذين لا يخجلون.
بنى لنفسه وحده حزباً ولم يشأ أن يحمِّل أحداً سواه مسؤولية الانضمام إليه. لكن كثيرين اتَّبعوه من غير أن يدري. كثيرون أحبّوه وهو مُصرّ على عُزلته. وأحبّته النساء ودخلن على صمته وعُزلته حتى أخرجنه عن صمته. وسُرَّ في داخله بدوره الجديد: جرس العشق وصنم الولَه.
رعاني أنسي في مراحل ضعفي وما بعدها. والضعف تتغيّر عوامله لكنه لا يتغيَّر. وفتَحَ لي زاوية “أدب فكر فن” أكتب فيها خواطر المراهقة وأسمّيها شعراً… وبعد سنوات طويلة، عندما صار رئيساً للتحرير وصُرت أكتب مقال الأربعاء، ظلّ يتلقّى النصّ بالمحبة نفسها. وظلّ يحدو ويعطف ويشجّع متظاهراً بالدهشة.
تواضع طويلاً خلْف وحدته. فعندما تُذكرُ حركة “شعر” لا يُذكر دور أنسي في مَداه وحجمه. لا أحد يقول إن “أدب فكر فن” كانت المقدمة إلى “شعر”، وإنه خاض معركة الحداثة قبلها. وعندما صار جزءاً من أخويّتها، كان ركناً من موسِّعي آفاقها وضابطي إيقاعاتها وحافظي لغَّتها. فقلَّة تعرف أن هذا الناحل، المُتواري خلْف صمته، علوّ من أعلياء النحو.
قال في مقابلة مع عبده وازن في “الحياة” إنه لا يزال يسكن في شقة من 90 متراً منذ زواجه. وفيها أودع روحه الجميلة ونُحوله الأخير. في أيام الاحتضار قال لي عقل العويط: “أنا لا أحتمل هذا المشهد. أرسلتُ إليه شقيقتي الراهبة، وتقبّل منها البرشانة”.
عاش حياته يخاف لحظة العبَث الكبير. لحظة العبَث المُطلق والنهائي، يوم يُنادي إنسان على مُعين ولا يسمع سوى صوت نفسه وصدى صفير الريح ووصول الغياب. جاءه معنى العبَث باكراً يوم فَقَد أمّه طفلاً في الخندق الغميق. علَّمه أن الموت – مثل الحياة – قسوة لا رحمة. وظلّ الخوف مقيماً في نفسه. فلما فقد زوجته، لم يكن قد نسي بعد الخندق الغميق وأن الغياب وحده لا يغيب. لا هو ولا ثقله ولا مَن لا حب مثل حبهم.
قال تيوفيل غوتييه في وداع هاينريش هاينه: “كان على أصدقائه أن يُسرّهم انتهاء هذا الاحتضار الأليم. لكنهم عندما يفكرون في أن هذا العقل الوضّاء المعجون بالأشعة والأفكار لم يبقَ منه سوى الشُحوب، يشعرون بألم لا يتقبّلونه دون ثورة. الحقيقة أنه كان مسمّراً في نعشه وهو حيّ، لكنك حين تُرهف السمع إليه وتُدْني أذُنك، تسمع الشعر يغنّي تحت الشرشف الأسود”.
عندما دُعي غسان تويني إلى باريس لحضور مشاهد أول نزول بشري على القمر، اختار أن يأخذ أنسي معه، وليس محرّراً من القسم الخارجي. مثل تلك الدهشة يليق بها النسَق الشعري لا الحدَثي. وطوال سنوات أعطاه مكانه على الصفحة الأولى، بالبُنط الأسود نفسه، يعبّر فيه عن الثورة على ملامح الزوال والتفتّت الداهمة والمتسارعة. وما بين أسلوبه الأدبي الألِق وشجاعته الأدبية الصافية، عكَس أنسي في “النهار”، كما عكَس في “الملحق”، آمال المرحلة وآلامها. ولم يكن غسان تويني يخفي إعجابه الشديد بهذا النقيض الكارِه للسياسة، الباعِد عن السياسيين، النافِر عن المجتمعات، ولكن من بعيد، يغوص في شؤون الوطن كأنه مُناظر مدرسة كثُر أمامه الطلاب الزعران والمُهمِلون والمُتهوِّرون والبُلَداء غلاّظ الذهن.
كان يلمح كل شيء، ولو بدا بعيداً ومنعزلاً. وكان يكتنز مآثر الناس ومشاعرها وأحاسيسها، فإذا حان الوقت، تفجَّر بها، حانياً ومحامياً. وكانت موهبته العظيمة تتّسع للمراحل التي كان فتى كل منها. مرحلة الانبهار بالسوريالية وأندريه بروتون وأراغون، ثم فجأة، يطلّ كأنه كاهن بين كتَبَة نشيد الإنشاد، عاشقاً وَلِهاً مثل نهر الينابيع.
في “أدب فكر فن” حوَّل الثقافة إلى صحافة يومية. وفي “الملحق” انتقل بالأدب والأدباء من المجلات الشهرية إلى الصحافة الأسبوعية. ولمع “الملحق” في موازاة “النهار” توأماً بمعالم مختلفة تماماً. وكان لبنان ينتظر “كلمات كلمات كلمات” ليغضب معه ضد القوة والظلم والتخشّب وتسخيف المنائر.
كم كانت تثيره الغِلظة والحَماقة. سألت عقل العويط إن كان أنسي قد مدّ يده لتناول البرشانة “يد مريض محرومة الهواء الطّلق. إن براثن الموت لم تظفَر بجلد أكثر طراوة وطلاوة من هذه اليد”. وإن كان “رفع باليد الأخرى جفن عينه المشلول، وهي عين لا تزال تحتفظ بمفهوم غامض للأشياء”، كما قال تيوفيل غوتييه.
أفَقْت على قراءة هذا الحبيب. وما قرأت له نصاً على أنه مجرد نص آخر. فكلّ نصٍّ وضعَه، كان فيه خليط من السحر والبلاغة والمفاجأة. وكان فيه دوماً الدعوة المقدسة إلى الانعتاق وذرّ للحرية على كل نقطة: حرية العبيد وحرية النساء وحرية الجمال.
أخيراً تحرّرت روحه المتمرّدة من قفَص الاحتضار. منذ أشهر وهو يكتب كنوع من المراثي، مكاشفاً أصدقاءه بما كان يضنُّ به وهو يشتدّ التصاقاً بعالمه الداخلي المُغلق بقِفل من عود الورد. عائشاً في غربة دائمة ومحصَّنة، لا يظهر في محاضرة، لا يُشاهد في منتدى، لا يقبل دعوة إلى مكان، يخشى حضور الجنازات وتقديم التعازي. النموذج الصافي الذي رسمه كولن ولسون في “اللامنتمي”، ولكن بصلابة لا تعرف التراجع ولا يليِّنها إغواء.
عاش في حسرة من الصحافة. سرقَت منه التفرّغ للشعر. وحسرَتُه الخفية كانت الرواية. قليلاً ما أقرّ أنها أعظم أنواع الأدب. سمِعتُه يقول ذلك في شبابنا عندما كان لا يزال يتسرّب من قلعته بعض الاعتراف. حتى المقابلات تجنّبها لئلا تقوِّض انزواءه وتُفسد أسواره.
وحدها المرأة شاركَته في الطلعة على التلّ والنزهة في الغابة ومقعد الحديقة بعد سدول الليل. أمامها وحدها خلَع قوّته وترك لها أن تقصّ شعره وتَمحَق صلابته واضعاً عنفوانه تحت قدميها، ممدّداً روحه الجميلة بين خصائل شعرها الطويل حتى الينابيع.
كلمات كلمات كلمات – حسرات حسرات حسرات. حسرته الكبرى كانت بلده. قبل خمسين عاماً كتب: “غداً يُعزف النشيد الوطني ونحن جالسون”. لم يعد هناك من يعزفه. الآن يتهمونه أنه مسروق من نشيد الريف المغربي. والوطن برايات كثيرة وعلَمه على التراب.

__________________
* سمير عطالله. النهار.

عدد المشاهدات : 695

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.