بقالة آدم

بقالة آدم

عبدالعزيز البرتاوي

أجلس في زاوية مقهى عذب، في أبهى مناطق مدينة كييف. أشرب ببطء قهوتي، وأقرأ نقدًا لفلسفة نيتشه. أنا قادم من مرحلة مكانية وزمانية، كان أقصى ما أؤمّل، ألا تنتبه أمي لمروري على دكان العم: آدم. وأن أنجو منه شخصيًا، متملّصًا من السداد الفوري لكل القروض السابقة واللاحقة.

كراسي المقهى الأنيق البُنيّة، المرمر الأسود لأرضه، الإضاءات المجنونة والشمس، لن تحجب عني السقف الشعبي لبقالة آدم. هنالك أمضيت عمري هائمًا، ومفكرًا: كيف يمكنني الحصول على ثروة هائلة، لأسدّد هذا الرجل الملحاح، كلما يطلبني.

شقراء، تدخل المقهى الآن، تطلب قهوتها، من غير سكّر -تنبّهُ النادل لذلك، لو شكّ أن سكّر شفتيها لا يكفي-. أتذكر حين كانت تدخل المرأة السوداء إلى بقالة آدم كل ظهيرة، تطلب مشروب “شاني”، وتضع ريالا، قد تم طيّه آلاف المرات. أتذكر حين تطاول الصبي الجالس في طرف الدكان يفكر بسداد ثروته، وقال لآدم: أعد إليها ريالها، سأدفع عنها. بسمة الرضا على ملح شفتيها، وانسياب التعب على وجنتيها وهي تغادر متهللة، وحيرة آدم، من أين ومتى سيدفع هذا المأفون -لاحقًا، وأنت تغادر المقهى، تقول للشقراء: قهوتك أيضًا على حسابي-، مسترجعًا وأنت تغادر الدكان، وجه آدم البارد الملامح، لا يفتح دفتره، فتطلب منه -كمزيد من إبداء الثقة بأنك ستدفع لاحقًا لا محالة-: سجل لديك يا عّم آدم، ولا تنسَ، فيقول لك دون أن يلتفت الرجل الكبير: أنت لم تأخذ شيئا اليوم. وتتذكّر الزهو المفرط لمشيتك مغادرًا، تتذكر قولة أبيك وهو يشرح لك: صنائع المعروف تقي مصارع السوء. وأي سوء أكثر من توبيخ آدم لك كل منصرف ظهيرة: أين السداد؟

أعوام كثيرة مضت. آدم مضى نحو حوائه، في بلاد بعيدة. يحمل معه دفترًا كبيرًا، مملوءً بتواقيع وبصمات وتنصّلات البسطاء الذين كانوا يقسمون له منتهى كل شهر، أن الراتب الملعون لم يحلّ بعد، ويحمل معه قصصًا/غصصًا كثيرة، لبيوتنا، وعن أناسنا. لقد كان كشّاف حينا. لا توافق على خطوبة ابن فلان، أبوه من ثلاثة أعوام لم يدفع لي قرشًا، ومن شابه أباه، فما ظلم.

مسترخيًا على مقعد المقهى الوثير، وموسيقى مفعمة تُغَلِّف كل شيء، تتذكر الجلسة على فريزر الدجاج الأرضي، وآدم يصرخ بك والرفقة: انزلوا أيها الملاعين من فوق الدجاج، هذه نعمة، أو فلتذهبوا إلى بقالة المصري أحمد. ونضحك، واثقين أننا سنتسبب له في مقتل لو نفذنا تهديده، ولخسر كل ما لدينا من ثروات مؤجلة.

أعرف أني مستغرقًا في كل هذا الحنين العذب، أخذت سترتي، وخرجت من المقهى، يعقبني صوت النادل المهذب: أنت لم تدفع سيدي. متأسفًا، أدفع له ثمن قهوتينا: السوداء والشقراء، ومفكرًا: آدم هل لا زلت تطالب الصبي الآبق بالسداد؟

عدد المشاهدات : 1206

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.