ريثما هذا الوقت يمضي

ريثما هذا الوقت يمضي

ريم الفضلي

مرّة أخرى، للأبد. “الأبدية بعيدة جدًا”. مرّة أخرى، هي صفقة للباب المردود، رهان متهوّر لحظٍ لم يعتدل. مرّة أخرى، اجترار علكة مُرة، علكة بريئة، العلك ليس للعاهرات فقط، كما قالت مرة معلمة. علكة وطنية. نعلكها ريثما هذا الوقت يمضي، ريثما نبدّد البقية من العمر، فيما قال رفيق مرة: لا يجدي أي شيء. وسلّم روحه إلى سيجارة وأغنية. مرة أخرى، رميَة أخرى من الإقدام، إقدام اليائس، بيّاع القضايا، لا المحارب الأخير من القبيلة، رمية، بآخر حجرة أمام عيال الحارة، ثم الهرب الجبان، لأول زقاق سانح.

نعم، الكثرة تغلب الشجاعة، لا تصدّق بن مشعان، الغنم لم تملك يومًا أنياب الذئب ولا مخالبه، لهذا، الذئب حين يستفرد بقطيع كابٍ مقطوع الحيلة، ف “لا يحسب حسابها”. سلّح الغنم سيدي، اِسمح لنا بإخباره عن الأرض والعزة والغزاة والخونة، وستحسب كل ذئاب المجرة لكل القطعان المسالمة ألف حساب. الكثرة تملك أقوى صفقات تسليح بالعالم، الشجاعة لا تملك سوى كيان من عروق حمراء، وأحشاء رخوة. نعم، الطبلة تفوز بالصوت الغالب، لا كمان حزين، لا نغمة عود متقنة، لا زفير المزامير، لا هاشتاق رنّان. للطبل وحده قيادة الجوقة، وحيازة المناصب، والاستفراد بأكبر مكان بالمنصّة، سوى ذلك، تحرمه وزارة الثقافة ومشائخ الحكومة. نعم، خفَتَ الحراك، سادَ النمط والصّمت، لم يبقَ من ٢٠١١ سوى ذكريات وأحاديث، سارت بها ركبان الخائفين.

مرّة أخرى قُلها، نفدَ الكلام من الكلام، ليس هناك شيء هام نفعله، لبقية العمر تزجية الوقت بالأخبار العابرة، بالمقاطع العابرة، بالأصدقاء العابرين، بالأنشطة العابرة، بالانخراط بريادة الأعمال مثلا. يحيلك الاستبداد إلى روح حزينة، مليئة باليأس تارة، والضياع تارات أخر، لا تعرف ماذا تفعل، تقدم مرة، وتحجم مرات، قدرك الجحر، وقد كان يجب لك الشروق من الكهف. الاستبداد تقليص، تقليص وإخضاع للإنسان داخل الإنسان، ليكون مجرد مخلوق مكرّر خائف، لو فكّر بالانعتاق، سيتذكّر آلهة اسمها المبا..، ويغصّ، ويثّاقل إلى الأرض، صدق الله العظيم، ويكفر بالحرية، ويلفظ إنسانها وفكرها ونهجها.

التكرار يعلم الشطار، لا الحمار، قالت معلمة أخرى. حسم في السجن، وهذا غير عادل، كما أي سجين رأي آخر، من نعرفه، أو لا، لأن تسجيل مقطع، ثم خطفك بعده، أكثر من أن يُعد، والذاكرة تشيخ. الشجاعة في السجن. السجن نظرية مثبتة الآن، هل تؤمن أم تكفر، هل تنساق للقطيع، أم تتفرد بالنكران، هل تبقى مع ضميرك وفقرك، أم تخطو خطوة واحدة، نحو شرهة، وقطار من الامتيازات والبعثات والحياة الحلوة. مكنة الاستبداد لن تهظم بيسر إلا من يشبهونهها، من لا يشبهونها، يصبحون حسم مثلا. هل تسكت أم تتحدث، هل تكتفي بالصمت، والادعاء أن ما حدث لا يعنيك، لكنك تخاف، تخاف من ريبة الصمت، أن يحملوك “وزر النوايا”، فتنطق، تنطق، تنطق…

وتتفاءل فجأة، وتسعد وتتشرف قبل قليل، وتوزع قاتوه رخيص من التفاؤل والإنشائية، والنظريات السطحية للمستقبل، مستقبل على شكل دولة واقتصاد وشعب وكيان، يباع على شكل تغريدة ملقنة كما في درس إملاء. تخيل أن نترك تصديق كل شيء، وتصدق علة العلاني، يؤكد لك أن الوطن بخير، ولا أحد يحتاج لقلقك. إلى فريق العلاقات العامة الذي صمم تلك الحفلة: مزيد من العمق أصدقائي، قطار تخدير الجماهير فاتكم، الجماهير تقودكم الآن.

فنطقت وخزيت. لا شيء هام، عبدالله الحامد مثلا لم ينطقها، وذهب راضيا للسجن، لم ينطقها، العقود الستة كانت أثقل. الصمت ليس جريرة، الصمت في الأنظمة التسلطية منجاة محايدة، والله لا يحب التهلكة، إنما البهتان النطق، الانضمام إلى الجوقة الخازية. ريثما هذا الوقت يمضي، اقرأ كتابا، ولا تنسى، الحر لا ينسى. لا تسلّم، لا تحالف، لا تكن فلولا، لا تكن طبلا، لا تكن صدى، لا تكن حقل نفط، لا تكن عنوانا في صحيفة حكومية، لا تكن مناقصة حكومية فاسدة، لا تكن مشروعا متعثرا، لا تكن مدينة اقتصادية منهوبة، لا تكن أرضا بيضاء، لا تكن قصيدة مديح مكسورة، لا تكن ماصورة صدئة في دورة مياه وزارة، لا تكن دورة مياه قذرة في مدينة جامعية، لا تكن خوي ثقافي.

دعاة الإصلاح، لم يكونوا نهّاب ميزانية تجب قطع أياديهم، لم يكونوا دعاة فساد في الأرض فيحل قطع روؤسهم، لم يكونوا كثير من الأشياء التي تحلّل سجنهم، وتستحق صمت هيئة كبار العلماء، كانوا دعاة إصلاح، من أجل أن لا يكون الرجال الصحيحون في المكان الخاطئ، وأن لا يكون الرجال الخاطئون في الأمكنة الصحيحة، فتضيع الطاسة، لهذا الخراب والتخلف يلاحقك أينما تأملت. الأمر بسيط، كان لديهم رؤية، البلد كله الآن يتحرك وفق رؤية، ما المشكلة.

الأمر لا يحتاج رؤية ثاقبة. لتتعلم السلطة السماع لناقديها، يجب أن لا تكون طفلة مدللة، واثق الخطوة يشغّل بلد، سواها، يفعل ما يفعل. أخوان أحباب، أبناء عمومة، حكاما ومحكومين، قليل من الحب أمنا الحكومة لا يضر. الأمر بسيط. الشعب إنسان. الإنسان له كلمة، الكلمة يجب أن تسمع. الشعب يجب أن يختار ممثليه، الذين بكل بساطة الصوت الإنساني، بكل وضوحه وجماله، يستطيع أن يقول نحتاج لفعل هذا، ويجب التوقف عن فعل هذا، هذا يستحق التقدير، وهذا يستحق السخرية، يجب أن يعيش الإنسان أبهته الكامنة فيه، قبل أن يرتد ترابا، أن يقود، أن يشجع، أن يؤمن، أن يلقي خطبة في برلمان، أن يصوت، أن يرفض، أن ينفذ، أن يختار بنفسه، لا أن يُختار له، أن يقاطع الانتخابات، أن يؤمن بمرشح، ويكفر بشدة بآخر.

يجب أن لا يموت الإنسان قبل أن يحيى السياسي فيه بعزة وكرامة في هذه الأرض. ما فائدة أن يكون لدينا هذا الجيش من الأخيار والناجحين والمبتكرين والناجحون والكتاب وخبراء الحياة، إذا كان الحظ، وسلوكك السياسي، ومشاورات أشخاص سريين من سوف توصلهم إلى سلطة مجتزأة. ما فائدة هذا الوعي الشعبي إذا كان قدره الاحتشاد في هاشتاق، لا النهوض ومجتمعه. هدر الإنسان، كما هدر الموارد الطبيعية الحاصل، يجب أن يتوقف. إنسان الجزيرة العربية يستحق المجد.

سوى أن تكون سجين رأي، أن تكون سجين دَين. لا تكون قضية رأي عام. دام عزك يا وطن. دام القرض والدين والبيت المستأجر. تخيل لم تكن يوما نصابا ولا غشاشا، تبيع سيارة من أجل فروقات تسدد الإيجار السنوي، ودين صغير من الجار أبو محمد، من عطل السيارة المفاجئ، دين صغير آخر من أجل قسط صغير لم يتسنى لك دفعه، الأعياد والدراسة وأن يتنزه أطفالك، أشياء لا يطيب الماء في حلقك دونها، دين ينمو، عين لا تغفو، ينتهي الأمر بك في السجن، تنتظر لفتات المحسنين، عفو الأمراء، مواسم رمضان، قصة صغيرة لفقر كبير وعجز ينهش المواطن، المواطن الذي يظهر أحيانا في مقطع، يستجدي ويبكي، وقد لا يظهر، جده فلان الفلاني، شيخ الوادي الكبير، ويظهر يبكي قدام الناس من أجل الدراهم، ورب النخوة ما يحل وما يصير، لكن الدولة المقننة، تخليه يصير.

حارتكم لم تشبه القصر المجاور، لقد كان الأمر أسطوريا، شارع كل ما يفصل بين سور واحد طويل ممتد، على ضفة، ومجموعة بيوت صغيرة ممتدة، على الضفة الأخرى. لقد كانت غرفكم وأسطحكم وحماماتكم ومتنزهكم وعلب ذكرياتكم وحصالات نقودكم وكل شيء، كل أنتم والجيران الذين عرفتهم، ولعبت معهم، والذين لم تعرفهم، ولم ترسلوا لهم طبيخكم، ومستوصفكم المتهالك الذي يذكر بالموت وانتهاء الحياة، لقد كان المكان المادي والمعنوي، بالطول والعرض، لحياة حارتكم لا تطول، لا تساوي سور القصر المجاور المهجور. وطولكم جميعا لو قدر لكم الاصطفاف، واحدا تلو واحد، بثيابكم البيضاء، بنية الأطراف، من تراب الشوارع، ونسوتكم اللواتي يخيم بؤس الحياة عليهن، نسوتكن الذين يصطففن مرة بالعام لأجل عطايا القصر الزهيدة، لو قدر لكم الاصطفاف، لو قدر لكم، قبل أن يعرف رجال الدرك، أن أحلاما ما تنوي الاصطفاف، إن اصطفافكم لن يطول، لن يساوي هيبة السور الخلفي، لقصر مهمل، يعطيكم ظهره منذ أن فتحتم أعينكم على الحياة. حزينة مرة، مفارقة العدالة والاستحقاق في البلاد.

السجن حل من الحلول. من يسير بشورت بالشارع، اجعله قضية واسجنه، كي لا يخدش حياء الشعب، من يضع ماكياجا هازلا اسجنه كذلك، كي لا يخدش رجولة الشعب. اسجن أخي، اسجن لا تتأخر، وتترك حبل الحرية على الغارب. لكن ماذا نفعل بعري وتنانير وطلاء أظافر يولو فهد، ماذا نفعل بأزيائه الغريبة، بحفلاته، بسهراته، بصبغات شعره الزرقاء والخضراء. لا شيء. يولو فهد سبيكة ذهبية. ليس ولد شعب، ليس من بريدة ولا الدمام ولا من حارة تشبهنا، من عالم فوقنا، فواتيره فاحشة، دم يولو فهد أزرق، ودمنا أحمر رتيب، يسيل في كل مكان، لأي سبب ممكن.

عدد المشاهدات : 1520

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment