صحافة الانكلاب

صحافة الانكلاب

عبدالعزيز البرتاوي

“إن التلذذ في مهانة الانسان المستضعف والبطش به تحت ستار ممارسة وظيفة الحفاظ على الأمن، يشير إلى المرض العلائقي الذي ينخر بُنية العالم المتخلف”. * 

 

 

من يشاهد، كيف تتعامل الصحافة السعودية، في تغطيتها لمجريات الحملة “التصحيحية”، وأؤكد على مفردة “يشاهد”، لأن هذه صحافة لا تستحق القراءة. تكفيها مشاهدة العناوين الرئيسة، والصور التي كان من المفترض أن تعبّر عن واقع الأمر الجاري، لا عن ليّه إلى كيف يجب أن يجري. وهو أمل محال التحقق، في بلدان مغلوبة على أمرها، من قبل عصابة الحاكمين، لا في الصحافة وحدها، وشؤون الفكر والعقل والرؤوس، بل وفي مجريات كرة القدم حتى، وإشارات الأصابع والأيدي. أعود للمطلع الكئيب: من يشاهد هذه الصحافة، بتغطيتها الشوفينية للمجريات، سيكتشف حجم التوأمة مع الصحافة المصرية -بوصفها من أحطّ نماذج الصحافة المعاصرة-، في تغطيتها لمجريات الانقلاب، المدعوم بالطبع، من دول الخليج.

يكتب الحربش في صحيفة الجزيرة، أنه لا وقت للكلام اللين الآن. تجب القسوة حتى في الكلام مع المخالفين. تجنيب العاطفة، و”الضرب بيد من حديد”. والجملة السابقة، مفردة يكثر استخدامها، كلما كثر جبناء مجتمع ما. لأن رعب الكلمة، ينبان في مدى احتوائها لمعانٍ قاسية، تعبر عن هشاشة الفعل. تابع صحف الانقلاب، معاريض كتّابه. برامج مهرجيه. مسرحيات ممثليه. ارتجالات مرتزقته، تجد أن جملة “الضرب بيد من حديد”، تتكرّر آن كل تشدق خطابيّ قمعيّ، لمنح الهشاشة مظهر القوّة، والركاكة سيمياء الجدّ.

لن أخوض جدال مشروعية هذه الحملة “التصحيحية”. ولا مدى أهدافها، ولا لم الآن. ولا من مستفيدوها الحقيقيّون، ولا أي مشاريع تجارية تكمن وراءها، ولا كم من مشاريع كمنت قدّامها أيضًا. لا مدى صلاحيتها وصلاحيّاتها، ولا فسادها أيضًا. سأمضي لتأمل ملامح هذه التجييش الصحفيّ، ضدّ أبرياء، مساكين -مهما انمازت بندرة جرائم بعضهم-، كان حظنا وإياهم عبور أرض هذا الوطن، حينًا من الدهر.

ثمة أكثر من مخالفة انتهاكية، ليس لحقوق الإنسان فحسب، بل ولمهنية الصحافة ذاتها، إن اعتدّ بهذا الأمر، في بلدان الشرهات والمعاريض. نشرت صحيفة الشرق في ثاني أيام انتهاء الحملة التصحيحية، صورة “مقيم” يبكي رحيله القسريّ، وعنونت بتشفٍ وقح: “دموعه لم تكن كافية لئلا يرحل”. ضاربة بحقوقه الشخصية، من نواحي التشهير وخلافها، عرض أول رصيف للصحيفة المعانية الآن إفلاسًا أخلاقيًا، إزاء إفلاسها الماليّ. -ورحيل قينان يكمل الحكاية-.

عناوين متبجحة. ترسم ملامح البلد الذي اهتزّ وربى، بركات وخيرات، بعد أن خرج منه “المجرمون”. تصوير المخالفين، مصّاصي خيرات البلد، خالقي كوارثه، مانعي أمطاره، وأنّ كل خير سيحلّ مع خروج آخرهم، وكلّ شرٍ يغادر بمضيّ أولهم. وصور تصوّر قبضات رجال الأمن البواسل، في قبضهم على الهاربين من وجه عدالة، طال انتظارها، كما يقول خالد السليمان للعربية، داعيًا هو أيضًا، لتجنيب العاطفة الآن، وعدم الشفقة مع “مجرمين” لم يأتوا إلا لخراب البلد، بحسب تصريحه لقناة العربية، وكفاك به تصريحا.

وبالطبع، تأمل عناوين، لم تكن لتحدث سوى في بلاد حروب. “الرياض، حي منفوحة: مقتل ثلاثة، وإصابة سبعين، والقبض على 1192”. كل هذا يعبر على مشاهد، لم يعد تعنيه، قوائم أرقام القتل، ما دامت لا تخصّ جثمانه الشخصيّ. في عالم يمتهن الموت في كل نشراته كخبر افتتاحيّ. لكن أن يجري من غير وجود عدو حقيقيّ، بل عدو مختلق، لأناس ساكنونا وساكنّاهم مديدًا من العمر، سوى أن “التصحيح” جاء الآن برغبة وليّ الأمر، هو أمر مخز إنسانيًا، ولا يستحقّ الشجب فحسب، بل والتأمل في طبيعة مجتمع، صار “نوع” القتيل يعنيه، أكثر من حادثة القتل نفسها.

وفي مفتتح “الشجب الطويل” هذا، لم أكن لأذكر عبثًا، تبوأ الصحافة المصريّة محطّ الصحافات، لولا هذي المهازل، التي أتملاها كلّ صباح -بحكم عملي-، على صفحاتها وصفعاتها. انظروا ما يجري الآن بحقّ لاعبي الأهلي، مسجلي هدفيه، من سفالات كلاميّة لا تليق بخربشة خلفية باب دورة مياه في محطة عمومية. تأليه للطاغية وتقديس لفعاله. وتنكيل بالمخالف وترذيل لكلّ ما يمتّ له بصلة. كتبت اليوم السابع مقالًا بعنوان “شلّت يمينك يا عبدالظاهر”. وهو من سجّل هدف الفوز بقدمه اليمنى، في كأس بطولة أفريقيا، مؤهلًا بلده لالتقاء مونديال العالم بالمغرب، وبالطبع: حُرم من المشاركة فيه.

بالمناسبة، كان استشهادي للصحافة المصرية، بحادثة رياضية. لأن أسوأ برنامج كوميدي، لا يمكن أن يرقص على مسرح من جثث القتلى، إلا في مصر. لأن القتلى هنالك ذباب، يهشّه وزير الداخلية عن مانشيت الصحيفة. لأن سدنة الخراب الورقيّ هذا، يتصوّرون “مشاهدًا”، معتوهًا ولا وعي له، سيقبل مثل هذا الهراء. لأن سادة الصحافة العربية، كبار كتبة “الرسالة” و”الهلال” ومجيدات الصحف الرفيعة، ماتوا. ماتوا بكلّ ما تعنيه الكلمة: حيويًا ووراثيّا. ربما لأن مصر، بلد الموميات لا أكثر.

آسف لمصر. آسف لأني أبدو حانقًا بعض الشيء. آسف أكثر لأني لم أحنق كما يجب من قبل. آسف للبرود. آسف لأن صحافة أم الدنيا، يكتبها اليوم بسطار مرتزق. آسف لأن مطابع القاهرة، تكتب اليوم بأحبار البترول، لا بمداد النيل. آسف لأن الرقيب العسكريّ، يتحكم اليوم  في مانشيت الصحيفة، وهو أمر لم يكن ليجرؤ عليه، حتى في عهد المخلوع غير المبارك، لكنه زمن مهزوم، حتى في تأمل ما يجري فيه. آسف لأن يومًا ما، رأيت فيه هيكل، هيكلًا، وانبان اللصّ المحترف الثروات الآن فيه. آسف لأن صحافة بلدي، التي لا تصل لمستوى الصحافة المصريّة تاريخيًا وعمالقة كتابةٍ ومجد، تتتوأم اليوم معها، بشبهٍ مثير. وآسف لأن مجتمعي لا يستنكر ذلك. آسف لأن صحافة الانقلاب عندهم، جاءت بصحافة الانكلاب عندنا. نسيان كلّ ما لهولاء الوافدين، من أفضال وخدمات وعمر وعرق وبناء وكدّ قدموه لبلدي، وتكليبهم وترميزهم في صورة المجرم الذي شجّ طفلة -كما ذكرت قناة العربية- وقتل سعوديًا وجرح آخرين. آسف للوطن الجحيم الذي كانوا يعانون في أطراف أطرافه -منفوحة بخرائبها تقع في أغنى عواصم بترول العالم-، والذي سيستحيل جنّة خضراء، ليست سواقيها وأثمارها، إلا لأهل البلد الأصلاء، الذين جاؤوا من أصلاب شرعية مقيمة من آلاف السنين.

ثمة غصّة آنيّة. على رغم توفّر مواقع التواصل، وانكشاف سوءات الصحف الرسميّة، بسقوط ورقة الصحافة والتوت سويًا، وإثر مسرحية قيادة المرأة للسيارة، واستبسال الصحافة السعودية، في الرقص لمقدمها والحضّ عليها، كما انبان ذلك جليًا في صحيفة الرياض الموقّرة. ومن ثمّ شجبها ورفضها، وكأن يديعوت أحرونوت من كانت تدعو إليها، وما يجري الآن من حفلة الحملة “التصحيحة”: أيّ مسرحية قادمة، ستسوّقها لنا صحافة “السلَطَة الرابعة”، بحدّ قول الجميل سمير خميس.

لفت نظر: أرجو من القارئ الكريم، أن لا يتذكّر عنوان جريدة الوطن عن “كشف مخطط اغتيال الإخوان لرئيس الهيئات” أثناء القراءة. لأنه لا ينبغي خلط الجدّ بالهزل القبيح. لفت نظر آخر، للسيّد: فرمان علي خان، الذي أنقذ 14 سعوديًا من غرق سوء تخطيط بلادهم، التي جاء لنهب خيراتها، وغرق وهو ينقذ الخامس عشر، شكرًا لأنك متّ من قبل. كنت آسى عليك، أو على عائلتك من يومٍ “تصحيحيّ” كهذا.

 

_________________________
* مصطفى حجازي، الإنسان المقهور.

عدد المشاهدات : 1797

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.