ضربات القدَر – جاروسلافا لوكافسكا

ضربات القدَر – جاروسلافا لوكافسكا

مدير التحرير

بحسب ما نقرأه في الصحف أو نسمعه في الإذاعات ومن حولنا، ثمة شيء يتحرك في البلاد. أما دموع مواطنينا فقد جفّت.

وهناك ما يشبه الإرادة القوية بالتأقلم مع الواقع وهذا ما جعل الوجوه تبدو قاسية (…) لقد وقع شعبنا طوال شهر على الاقل تحت ضربات القدر الرهيبة، لكنه بدأ برفع رأسه ما إن استوعب ان البلاد تحتاج إلى خدماته. ولقد سخّر الشعب كل طاقاته الجسدية في العمل ليرفع من شأن الاقتصاد وليخفف من أزمة البطالة وليجعل معنويات الشباب ترتفع أيضاً. (…) لم يعد مستحيلاً أن ترى شيوعياً ومقاوماً من اليمين يتناقشان حول أوضاع البلاد. لكنه ليس من النقاشات الصعبة التي كانت سابقاً تقود المتناقشين إلى خلافات. لم يعد هناك رجالات اليسار ورجالات اليمين. بل أصبح هناك تشيكيون فقط (…). وحين بدأت براغ تقف على قدميها تقريباً راحت تصل الرسائل المكتوبة والمرسلة من مناطق أخرى كمثل التي استلمتها وهي من أمي. وصلتني البارحة وهي تقول لي فيها ان البركان الذي استفاق لينزل غضبه على البلاد في أيلول الماضي لم ينم بعد.

وكوزيس حيث تسكن والدتي مع عائلة زدنكا (اختها) موجودة في منطقة حساسة وهي الحدود ما بين سكوفاكيا وهنغاريا. والرسالة التي وصلتني من أمي، أنا وداليبور، تحمل تاريخ 22 تشرين الأول.

كتبت: وصلتنا رسالتك قبل أمس، أي في أسوأ وقت كنا نعيشه. فأعطتنا فعلاً إحساساً بالراحة. وكنا نقول لصهرنا بيسيكي ان يرتب أوراقه الإدارية في العمل لأنه أصبح ممكناً أن يُطلب منّا إخلاء المكان في أي لحظة. وكنا مقتنعين بأننا إذا غادرنا سنأتي إلى عندكم في براغ مع زدنكا وجينيسيك. لقد وضّبنا كل حقائبنا في البيت، ووضعنا داخلها كل ما نريد أن نأخذه معنا إلى جانب ما أعطيناه إلى الجيران لنتركه لديهم في حال غادرنا.

أما جارة بيسيكي فقد وعدت بأن تستأجر المنزل لتترك عينها عليه ولكن بما انها خادمة لدى عائلة قد تترك أيضاً فهذا لن يفيد.

هكذا نجد أنفسنا وسط حيرة شديدة، كل يوم نوضّب حقائبنا ثم نفرغها كلما احتجنا الى غرض ما، ولم يصل الأمل إلا البارحة عندما سمعنا على الراديو أن مدينة كورنيس لن تسقط. لا يمكن أن تتصوري كيف كان إحساسنا! تخيلي انه كان يمكن أن نخسر كل شيء..”.

بعدها تذكرت صورة تلك النازحة التي وصلت إلى محطة ويلسون في براغ، وكانت تمسك بيدها آلة كمان وباليد الثانية ولداً صغيراً.

كذلك كتبت أمي في الرسالة: “لقد تم إخلاء كل منازل عائلات العسكريين كذلك تم اجلاؤهم. كذلك تسلمت المحكمة في المنطقة أمراً بإخلاء المكان، لكنهم بالأمس عادوا. نحن أيضاً كنّا قد طلبنا من كاتب العدل أن يكتب لنا ورقة بممتلكاتنا ثم عدلنا عنها. كل هذه الاحتياطات في حال خسرنا كل شيء واردتنا استعادة ممتلكاتنا. أشرح لكِ كل هذه التفاصيل لمعرفة ما يحصل في حال طُلب إلينا الإخلاء”. وأنا أقرأ رسالة أمي تذكرت أنني قرأت في احدى الصحف ان الخوف من ضمّ كوزيس إلى هنغاريا ليس في مكانه. ولكن ما حصل بعدها في بوليشكا وبريبور وبريكلاف جعلنا لا نصدق ما يُكتب في الصحف.

ورحت أفكر لو أن كل قرارات الإخلاءات تؤدي فقط إلى ما تصفه أمي.. لكن الأمور ليست كذلك. لقد لمست الكثير من اليأس على وجوه أولئك الذين وصلوا إلى براغ دفعات دفعات قبل أن يسمح لهم الوقت بتحضير ترحالهم، فكانوا يصلون من دون حقائب أو من دون أي قطعة ثمينة بين يديهم وهم كلهم لا يعرفون إلى أين يتّجهون. بعضهم كان يملك مريول المدرسة فقط مثلاً أو كتاب طبخ! حتى إني رأيت رجلاً ينقل معه دولاباً فهو الشيء الوحيد الذي كان بين يديه حين أُجبر على الترحال. لكن هذه الامور لم تكن تُضحك أحداً. فما كان يحصل أنّ هؤلاء الناس عندما كان يُطلب منهم الرحيل في دقائق معدودة كانوا بكل بساطة ووسط الفوضى والضياع ينسون الأمور المهمة. ولذا كنّا نكوّن هيئات اجتماعية لتنظيم كل ذلك في براغ.

وحتى حين سارت شائعة ان الترحيل سيحصل أيضاً في براغ مررنا بهذه الفوضى. وفي الحقائب التي حضّرناها كنت وضعت مثلاً كؤوساً من الحديد الأبيض ولم أكن أدري بما ستفيدني. وحين راقبنا الحقائب مرة أخيرة مع السيدة فابيانوفا لكي تأخذ فكرة عما فعلناه لتوضب هي أيضاً حقائبها مع داليبور، لم نستطع ان نتماسك من الضحك. مع اننا كنا لم نتوقف بعد عن البكاء ولم تجف بعد دموعنا، وكنا علمنا انه حوالى الساعة الثانية بعد منتصف الليل بين 20 و21 أيلول دخل سفيرا فرنسا وبريطانيا إلى شقة الرئيس وجعلاه يوقّع بعض الوثائق. بالتأكيد، لم نكن نعلم بعد على ماذا وقّع لكننا شعرنا مسبقاً بأن الأمر ليس جيداً. فالشؤون الجيدية والقرارات الحسنة نعمل على تنفيذها في وَضَح النهار.

27 تشرين الأول 1938
الكل يتحدث عن “إعادة التوجيه” أو أحياناً عن “التغيير”. حتى “منشورات ميلانتريش” التي كانت تشكل ركناً آمناً للجمهورية القديمة وتناصرها بدأت تكتب في صحفها وتدعو إلى “تحوّل” ما أو إلى “إعادة مراجعة” تنظيمنا السياسي.. وكان ذلك منذ وقت قليل حين كانت كل الصحافة في البلاد تؤيد الصداقة مع فرنسا. وفجأة، صارت تحول الصحف أن تلفت نظرنا إلى أمور أخرى: مثلاً، ان هتلر يعيش فقط من مردود كتابه “كفاحي” ولا يقبل بأي أموال تصله من مؤيديه، كما قيل ذات يوم مثلاً انه “من زمن هتلر حصلت الحيوانات على حقوقها كاملة…”.
وفي المراحل الأخيرة، أصبح كل شيء يحصل خطوة خطوة والنضال من أجل الاستمرارية في البلاد صار يستلزم تغييراً في النظام.

أما البلدان الديموقراطية فصارت تُطأطئ رؤوسها أمام الديكتاتورية وترسل إليها نعاجها للتضحية. الديموقراطية جعلتنا نصل إلى طريق مسدود (…) براغ بعيدة عن الحدود.

إذاً عاصمتنا ليست معرضة مباشرة إلى الصدمات وما يصلنا من ضربات في البلاد نقرأه معلقاً في ورق في الواجهات أو منشوراً في الصحف. أو تشعر بالوضع حين ترى صفوف اللاجئين التي لا تنتهي أمام المحطات. حتى انه يمكنك أن ترى النساء القادمات من الريف محاطات برجال من براغ يحاولون اغواءهن بكلمة حلوة أمام مصيرهم الشاق.

هاهي إمرأة تبكي المزرعة التي أُجبرت على تركها والبقرات المتروكات هناك من دون طعام أو ماء. وبالتأكيد ان البقرات تخور الآن من العطش وتنظر إلى الباب متساءلات لماذا صاحبتهن لا تأتي لتقدم الماء. وهذه المرأة لم تجلب معها سوى كلبها وهي تهرب. وهذا الكلب ينظر طوال الوقت من حوله مفاجأ بكل الغرباء، وأذناه اعتادتا أصلاً الصمت والوحدة في غابات سومافا، فكل هذا الضجيج يجعلهما منتصبتين. وأمام عينيه الحكيمتين قد نفهم ربما لماذا هذه المرأة تخلت في اللحظة الأخيرة عن كل ما تملك ولم تستطع فراق هذا الكلب الذكي. ولكن يظهر على وجهه سؤال أخرس وصامت: إلى أين تقوده صاحبته؟ فهو غير مرتاح هنا. وها هو يفرك جسده على ركبة المرأة: “ما هي هذه النقاط من الماء الفاتر التي تقع من عيون الناس من حولي وتحط على الوبر في جسدي؟ (…)
في براغ، تبدو كل النوافذ وكأنها استعادت حياتها الطبيعية في المباني. فالكل انتزع الورق من فوق الزجاج وثمة آثار من تلك الأوراق التي يعمل الجميع على انتزاعها بالأظافر.
أما الخزائن المخصصة بالمؤونة فعادت وامتلأت بالمعلبات وبأكياس الرز والشمع والكبريت. ليس من مكان للملح ولا حتى للصحون. وهناك بعض الملصقات في الشوارع تدعو الناس إلى تكديس المؤن. وهذا جعلنا ندفع آخر ما نحمل من أموال. كما اننا اضطررنا إلى شراء لمبات زرقاء بحوالى 18 كورون وبعض القناديل بالنفط بزجاج أزرق أيضاً. كذلك اشترينا علبة للاسعافات الأولية بسعر مرتفع كذلك قناعات الغاز للوقاية. وكلنا فقدنا كيلوغرامات عديدة من أوزاننا في خلال أيام قليلة. حتى ان البعض قرر عدم الافراط في الطعام للحفاظ على المؤونة. والصحف بدأت تنشر إعلانات لناس يريدون المبادلة بأي شيء للحصول على معلبات الأكل الجاهز. غيوم سوداء بدأت تتشكّل فوق رؤوس الشعب… ولا أحد يعرف ما قد يحصل له. ورحت أفكر بتجمّع “سوكول” (فرقة للألعاب الرياضية الوطنية التشيكية) وكان قد تشكّل في خلال ذاك الصيف، كيف كان المواطنون في الخارج ينتسبون إليه ليعودوا من خلاله إلى براغ! واليوم يبدو الأمر غير منطقي! من كان ليتخيّل ان هؤلاء سيعودون ويركضون للخروج مجدداً من بلادهم والهلع يأكلهم ويربكهم؟

 

____________________

ترجمة: كوليت مرشليان

عدد المشاهدات : 157

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.