قصص قصيرة | سمير خميس

قصص قصيرة | سمير خميس

مدير التحرير

“كل من عليها أحمر إلا وجهه”

مذ أن أشرقت المدينة بشمس ربها ونساء المدينة وناسها يتهامسون فيما بينهم:
“طويل العمر” سيفتتح إشارة ضوئية جديدة .. “طويل العمر” سيفتتح إشارة ضوئية جديدة ..
وما إن سطرت صفحات الجرائد على صدر صفحاتها الأولى الخبر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس : ” طويل العمر ” سيفتتح إشارة ضوئية جديدة.. حتى عمت الاحتفالات أرجاء المدينة، التي توشحت نوافذها بلون علم مدينتها، ودبجت زجاج سياراتها بأرقى عبارات الغزل المدني، ليس هذا فقط بل حتى نساء المدينة اللاتي كن يتهامسن فيما بينهن في السابق، صرخن بأظافر أصابعهن المطلية بلون ذلك العلم، وتوجهن مع أشقائهن الرجال إلى وسط المدينة التي توسطته إشارتنا الضوئية طيبة الذكر.. ليشهدوا منافع لهم في الحفل الخطابي الذي أقيم بهذه المناسبة، والذي ارتأى ” طويل العمر ” أن يقام في الشارع الذي سيفتتح فيه تلك الإشارة الضوئية رغبة منه أن يشارك الأهالي احتفالاتهم، مما أدى إلى طوابير لا متناهية من سيارات المدينة صبت في شارع الإشارة صباً..
وابتدأ الحفل الخطابي بآيات من الذكر الحكيم، عقب ذلك ناب عمدة المدينة عن أهاليها في كلمتهم التي ألقاها منوهاً فيها بالقفزات التنموية المتتابعة التي تشهدها المدينة ، والتي لم تكن لتتم لولا أن قيض الله لهذه المدينة ” طويل العمر ” الذي ما ادخر جهداً من أجل رفعة مدينته، ومشيراً إلى التوفير المتاح في الميزانية جراء الحسومات التي ستقصف رواتب الموظفين المتأخرين عن أعمالهم في انتظار أن تسمح لهم الإشارة بالمرور..
وما كادت يدا العمدة المتشبثتين بمكبر الصوت أن تخفف قبضتهما عنه حتى انطلق مفتي المدينة مشيداً بمشروع الإشارة الضوئية الذي يشهدون افتتاحه، ومذكراً فضيلته بفضيلة التأني والتأخر وقارناً بين التعجل والشيطان، ولم ينس في نهاية عظته أن يحث أهل المدينة على استثمار وقت الانتظار في الاستغفار، الأمر الذي سيفتح لناس المدينة بركات في الرزق وهذا مما يهدف إليه ” طويل العمر ” عندما أطلق قراره التاريخي بافتتاح هذه الإشارة، ومختتماً كلمته بدعوات لاهجة مفادها أن يطيل الله في عمر ” طويل العمر ”
عقب ذلك قص ” طويل العمر ” شريط افتتاح الإشارة الضوئية التي أضاءت اللون الأخضر في وجهه، لتنطلق موجات متتابعة من الهتافات والتصفيق مترافقة مع ألحان متنوعة عزفتها أبواق السيارات، وما إن عبر موكب ” طويل العمر ” ممر المشاة حتى عبست إشارتنا بوجهها الأحمر في وجه أهل المدينة مذكرة إياهم بأن كل “تأخيرة فيها خيرة”
وكما في كل انتظار، سجل عدد من حالات الوفاة، من سيدة داهمها المخاض أثناء الانتظار، ليقضي عليها وعلى طفلها الذي كان في انتظار أن تبش له الإشارة بوجهها الأخضر بمناسبة قرب تشريفه لحياته المنتظرة، وآخر أصيب بسكتة قلبية ولم تسعفه إشارة ” طويل العمر ” كي تتمكن سيارة الإسعاف المنتظرة من نقله إلى أقرب مستشفى ينتظر، كما انتشرت أيضاً عدة روائح لجثث متفسخة لم يعرف أصحابها حتى إعداد هذه القصة ..
واجتمع نساء المدينة وناسها حول هذه الجثث فيما روائحها تفغم خياشيمهم، مذهولين مبهورين قائلين: كل هذا حصل ونحن ننتظر أن تسمح لنا إشارتنا المقدسة بالمضي، فكيف بالله لو مضينا ؟؟!!

*****

سَلَطة رابعة

رغم زحمة دقائقه واختناق ساعاته جراء سهره على رعيته، لا يضيع “طويل العمر” ساعته اليومية المحببة إلى نفسه التي ينتشي فيها بمتابعة أخباره وصوره في “سَلَطَة” بلده الرابعة ..

شفتاه لا تتوقف عن التمدد معلنة عن ابتسامة كاشفة عن أسنان ناصعة عند مطالعته لصورته وهو يفتتح مشروعاً تسوله أهل المدينة لدهور طويلة، إحساسه بخيريته يترسخ عندما يقرأ خبر تكريمه لمجموعة من حفظة كتاب الله ..

شعوره بالقوة يتعاظم حينما يرى صورته التي يتابع فيها بمنظار، سرب الطائرات الذي خُصص لحمايته، الصورة التالية كان يستقبل فيها وفداً من العلماء، والأخرى يودع فيها جمعاً من المواطنين..

صفحات الجرائد الضاجة بصوره لم تتح المجال لقصص القهر أن تُكتب، ولا لحكايات البؤس أن تُروى، لم تترك المجال حتى للأحلام كي تُطيب منامات مواطنيه، بعدما أصدر مرسوماً بعدم التطرق لأخبار الفقر والقتل والفساد والنهب والسلب التي تئن منها بلاده، مكتفياً بتأمل صورته التي يوجه فيها باهتمام مصطنع، ومعجباً بابتسامته التي تتفنن في التقاطها فلاشات المصورين، وما إن وصل إلى الصفحة الأخيرة حتى غدا الوطن كاريكاتيراً عظيماً في سخريته وبؤسه ..

*****

“جنون”

رغم تهديدات الضابط بسجنه، إن تجرأ وطالب بمعرفة مصير أبيه مرة أخرى، سيكون مصيره نفس الزنزانة التي ووري فيها أبوه..
المقربون منه اعتبروا محاولاته هذه جنوناً ورثه عن أبيه المفقود.
وعندما استعد لخطوته الجنونية، رفع لافتة في البلد الذي يحرم المظاهرات مكتوب عليها:
“وحدهم البائسون الذين لا يعرفون أن طريق الحرية يبدأ من السجن”.

****

“عبيّد”

لم يكن عبيّد – بتشديد الياء – حاذقاً في تربية الدجاج ..
إذ كان يسرق من الدجاج الذي تطبخه أمه، ليُطعم الدجاج الذي يربيه ..

عبيّد – بتشديد الياء – لم يكن حاذقاً في الحياة أيضاً ..
إذ أن مجرد التفاتة إلى اليسار كانت ستقيه جموح سيارة عمياء اغتالت عقله وهربت غير نادمة ..

واليوم يجرب عبيّد – بتشديد الياء – حظه في جرِّ المواويل واستجداء السجائر وذرات “النشوق” ..
لكنه أيضاً .. ليس حاذقاً بما فيه الكفاية ..

*****

“بيّاع”

على وجل .. يقوم بفرد بضاعته على قماش مهترئ .. فيما عيناه ترقب كل أولئك الذين لم يظهروا بعد ..
يجف حلقه من طيف عابر لموظف البلدية ،، ساقاه تسبق أنفاسه إلى مآل يجهله .. ورعب يستحكم بتفاصيل أحلامه التي لم يقنط منها بعد ..
يعود إلى بضاعته التي لم يتغير فيها شيء .. سوى تاريخ صلاحية يتجدد في كل مرة يفرش فيها بضاعته .. وذرات من غبار ضائع طاب له المقام في ثنايا عدم اعتاد أن يهشه بمهفة صغيرة كومها من ريش طيور لم تغرد يوما..
يبدأ مهرجانه بإيمان لم تستطع صروف الدهر أن تزرع فيه لحظة شك واحدة..
ـ يا رحمن يا رحيم .. يا رزاق يا كريم .. الحق الطيب يا ولد …
أخذ ينادي على بضائعه بكل حواسه .. يمتدح بضاعة لم يخترها أحد .. يفاصل على أخرى لم يشترها أحد ..
كان بائعا متجولا بأرض نائية .. يحلم فيها بمعجزة ..

*****

“مشهى”

مذ أن قرر أنه سـ”يمسك” بتلك الرائحة .. لم يفكر أن يتوقف ولو لمرة واحدة عن الركض ..
كان قد اتخذ قراره الشبيه بقرار “فورست غامب” بعد أن شاهد تلك الرائحة يضوع شذاها من صدر أنثى مكتنزة .. إلا أنه كان يرفض المقارنة مع “فورست غامب”:
ـ “فورست غامب” ركض لأكثر من ثلاث سنوات دون أن يمسك حتى بتلابيب روحه .. أما أنا فلدي ما سأمسك به .. “هكذا يمنَي نفسه”
في خطوته الأولى .. لمح بطنا متكوراً لامرأة .. وفي داخله شيء ما، يشبه قصة حزينة لم تبدأ بعد .. وفي خطوته الثانية كان قد تعلق بمنظر طفلة ترقب فراشة لن تحط أبداً ..
خطواته الأخرى قدمت له ثلاثينية تركت عينيها في مواجهة شهوانية كونية، فيما يدها تعبث بـ”مسبحة” تستغفر في كل حبة منها، من ذنب كل ذي لب صريع عند حور مقلتيها..
ثلاثينية أخرى تركت العنان لوفرة لحمها أن تتبدى من خلف حجاب .. ولا ذئاب ..
خطواته الباقية لم تتعثر عند ابتسامة شبقة لامرأة .. ولا لمشهد إغراء تترس بدعاوى الرشاقة .. ولا لعينين زائغتين أنهكتهما أنفاس محمومة .. ولا لطيف محتشم في زمن عار .. ولا لفضيلة تنتظر من يحرسها من دنس الأفكار والأماني ..
كان متيقنا من أنه سـ”يمسك” بتلك الرائحة .. لكنه لم يكن يعرف أن حاسة اللمس لديه .. قد أتلفتها برودة الإحساس.

___________________________________________

* اللوحة للرسام السوريّ: يوسف عبدلكي. بعنوان: شهيد درعا.

عدد المشاهدات : 1060

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment