مرمر الروح، إزميل الليالي

مرمر الروح، إزميل الليالي

عبدالعزيز البرتاوي

بالأمس، وجدت عطرًا باسم “الدرعية”، هل تصدّقين؟ أنا أكره الدرعية لأسباب كثيرة علّ أدناها، منذ أخطأت في الصف الرابع في التفريق بينها وبين حريملاء، حول أيهما القرية التي بزغ منها نور التوحيد أولا في جزيرة الشرك. وبالطبع، كان العطر قبيحًا، لا يمكن تجميل هذه الأشياء بسهولة.

أيضًا، لقد تخلّيت عن متابعة نشرات الأنباء، على كافة الأصعدة، يكفي أن تضيف حزمة أموات كل نشرة، وحزمة أكاذيب. والموت الذي كان بعيدًا عنا، نقرؤه في نشرة بلاد الآخرين، أو نسمعه في حكاياهم، صار قريبًا، يباغت المدن التي نسكن، الجوامع التي نقصد، الصلوات التي نحاول أن نخشع، لكأنما الشيطان رأى خشوعًا، لا يقدر على قطعه سوى قنبلة.

ولقد سئمت الكثير من الكلمات. جاء جيل يحترف اجتراح الكلمات الكبيرة، بتفاهة عميقة، يلصقها إزاء أردأ الصور، جيل الكآبات التمثيلية، الجيل الذي كبر على تجعدات بشرة حياة الفهد، وموتها. جيل ردئ حتى فيما يطالع، كل ما حوله نكبات حب ومآسي فراق، وغدى القلب الذي كان موشومًا على حيطان دورات مياه المدرسة، مشقوقًا أكثر، وبحاجة لقسطرات براميل دهان أغمق، من كنت أضحك على سهمه وكلمتي “الحب عذاب” الموسومتين إزاءه، صار أسلوب حياة. لكأنما نحن نكبر، بينما الحياة تمضي بذات القضية الاستهبالية، تروض الصغار، وتهزأ بالكبار.

كبِرتْ أمّي. الطفلةُ التي كبرتُ تحت عينيها، كتب لها طبيب الأسبوع الماضي، أول وصفة علاج. لطالما هزأت باللحظة هذه معها حين كنت صغيرًا، وطالما قالت أني هددتها أن لن أجلب لها علاجاتها حين تصبح عجوزًا، لكنها نسيت، ونسيتُ، ولم ينس الزمان. أرتني برامج حميتها، ما الذي يجب أن تفعل، كي لا يأخذ “السكريّ” المرّ، سكّر حياتنا هذه. لها حميتها من السكّر، وفي بعدي هذا: لي حميتي الوافرة من المرارة.

الرفاق الذين جمعتنا بهم طاولات المقاهي، ووشوم الحكايا، الرفاق الذي قاسمناهم فضلات الكؤوس، وزاحمت أكفنا أكفهم أواخر اللقمات، صاروا أغرابًا، يترصدنا الاحتياج، لنأوي إليهم، أو الملمّات، لتلمس أصابعهم من جديد أرقام هواتفنا، إن لم تتغير. صار الذي طالما أضحكنا، يضحك علينا، والذي ترقرقت دموعنا لمآسيه، جزءً من مآسينا. كنا رفاقًا يجمعنا عبث الأيام، صرنا أغرابًا يلمّنا نرد الصدف.

والعينان العربيدتان، تلك اللتان تلمعان لنشرة تعبر بها كلمة بغداد، انطفأت. الفتى الذي كان يواري دمعه كلما أطلت عينا إيمان عياد، صارت النشرة لا تُسمع من صهيل قهقهاته. كبرت إيمان، تجعدات العنق البعيد مهوى القرط، المكياج الذي خفّ وهجه، والرزايا التي لم تعد تجيء في خبر عاجل، بل رتيبة وكثيرة ومملة وقريبة، حد أن تفتش بيديك، أين انغرز سنانها هذه المرة.

في مقهى، في المدينة البعيدة، أجلس وحيدًا، ومحاطًا بكل هذا الزحام وأكتب: لم يعد من ثمن لهذي الكلمات. أشيمط ارتمى في حوض المعرفة على كبر حتى شرق، يمسح بجرة قلم تاريخ منيف. منيف الذي علمكِ الحكاية، وعرّى أمامنا السجّان. منيف الذي كان أداة الوصل بيننا، وإشارة الفصل مع السلطة. منيف الذي بكت أمي ليالي وأيامًا على إلياس نخلة. منيف الذي قال لي هدرا جرجس، أنه مرض أسبوعًا بسبب مضاعفات وجع قراءة “شرق المتوسط”.

“لا أندم، لا أصرخ، لا أبكي. كل شيء زائل كما الدخان”، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام. هكذا أتمتم، خارجًا من مانشتات الصحف الأكذب. أصرّ على أسناني، لئلا تفلت من فمي قطعان الشتائم، في مروج الحكومة. لم يعد في كلماتي متسع لشتم أمير. إن نصًّا، مرسولًا إلى جلالة عينيك النجلاوين، محكيّ فيه عن أمي، ومسبّح فيه عن وجه الله الأجلّ، لا يحسن بمتأدب، أن يأتي بحديث فيه عن الطغمة الأرذل، إزاء كل هذا الجلال والجمال.

متعطرًا بما يليق لأكتب إليك. متوجعًا بما يكفي لئلا تجيء الكلمات وافرة كما يجب. كبيرًا لألمح شيبتين في صدغ كريستيانو رونالدو، الدالف نحو الثانية والثلاثين هذا اليوم. متفكّرًا: أن كم سنبقى هكذا في البعيد، معلَّقين إما على حبال غسيل الأمل الذي لا يجفّ، أو حبال مشانق الحكومة التي لا تنقطع. متسائلا: أن أليس من وقوف لمجرى الأسئلة الهادرة هذه.

شركة الاتصال ترسل لي الآن إعلانًا للاشتراك في قناة “حامد زيد”. أترين: المصائب لا تأتي فرادى. في الصباح أفقت على شركة باسم أحد أبناء الملك، مات منذ سنين، بعد أن شبع حياةً، يستجدي المواطنين أن يتبرعوا لغسيل كلى المواطنين المتعبين. لكأنما نحن في بلد لا توازي ثرواته كل هذي البوارج المعدة لتصدير البترول، واستيراد الأسلحة، لخوض حروب الأعداء الذين لا نعرف كيف صاروا أعداءً ولا متى سيعودون أصدقاء، ثم إنه: إما أزيلوا اسم الأمير عن جمعيات التبرع هذه، أو كفوا عن استجدائي كل صباح. هذا وطن مصاب بفشل إصلاحي.

أما بعد، “كلّنا، كُلّنا في هذا العالم إلى التفسّخ، بصمتٍ ينسابُ نُحاس الأوراق من أشجار القيقب. فكن إلى الأبد مُباركًا، لقد أُتيحَ لك أن تزهِر، وأن تموت”. أما قبل، أيتها التي في البعيد، كما شمس. أيتها التي في القريب، كما دفء. سلام على الحكايات التي عبرت، سلام على الحكايات التي تتلفت الآن إذ تعبر، سلام على الحكايات التي تنتظر في مخبز الروح لتعبر. سلام على الحكايات التي قيلت، وسلام على الحكايا التي لا تقال.

إنني “اليوم أزدادُ بُخلاً بالأماني، أهذهِ أنتِ التي عبرتِ أيتها الحياة؟ أم أنني حلمتُ بك؟”. ماضٍ في ماضٍ يبدو أنه لا يمضي كما يجب. تراودني الأغنيات عن الذكريات، وتسألني المقاهي ذات المقعدين عنك. لكأنما الشتاء رسولكِ، كي ارتجف. لكأنما الخريف رسالتك، كي أخاف السقوط. أيتها العابرة شوارع روحي، لا تحمل مظلة، ألا تخشين كل هذي الدموع؟

عدد المشاهدات : 1853

 
 

شارك مع أصدقائك

One Comment