10 دروس في صناعة الوثائقي | فريدريك وايزمان

10 دروس في صناعة الوثائقي | فريدريك وايزمان

مدير التحرير

الأميركي فريدريك وايزمان أحد معلّمي السينما الوثائقية في العالم. له أكثر من أربعين فيلماً تنقّب معظمها في المؤسسات الأميركية، وفي شؤونها وآلية عملها. هذا المخرج البالغ اليوم الثالثة والثمانين من العمر، تنطوي تقنيته في الشغل على خصائص عدة، منها نبذ التعليق الصوتي والموسيقى التصويرية، والذهاب الى عملية التقاط المشاهد بعين نظيفة مجردة من الأفكار المسبقة. تقنية اثبتت فاعليتها على مدار العقود الخمسة الأخيرة، جاعلةً من وايزمان واحداً من أشرس الذين يعرّون الطبيعة البشرية، والمراقب الأرفع شأناً لها خلف الأطلسي. في مهرجان البندقية الأخير، حيث عرض فيلمه “في باركلي” عن الجامعة الأميركية الشهيرة، اعطى وايزمان قراء “النهار” 10 دروس في صناعة الوثائقي.

 

1 ــ في السياسة:
السياسة موضوع واسع. هناك سياسة المخرج وهناك سياسة الفيلم. في رأيي، ليس ثمة شكل فنيّ في العالم له تأثير الى درجة التغيير. اذا استطعت أن تشرح لي كلمة غودار “دعونا لا ننجز أفلاماً سياسية، بل ننجزها سياسياً”، فسأكون شاكراً لك. انها مجرد عبارة جميلة، ودائماً من غير الجيد القول اننا لم نفهم غودار. اذا كانت فكرتي عن السياسة وأريد أن انجز فيلماً عنها، فسأنخرط في الشأن السياسي اليومي. سأراقب عمل الأحزاب، انضمّ الى اللوبيات، لكن دائماً ضمن الاطار الديموقراطي، لأنني لا أحبّ العنف. لا أستلطف الأفلام الديداكتية: اعطاء الدروس في السينما ليس من هواياتي. لذلك، لا أضع تعليقاً صوتياً في أفلامي، أدع المشاهد يكتشف ما اريد إيصاله من أفكار. هذا لا يعني انني بسيط الطرح، فوجهة النظر التي اتبناها معقدة للغاية. على الأقل، اتمنى أن تكون كذلك. أعمل بجهد لبلوغ تلك البساطة. لكن الحياة معقدة وذات عمق، وأنا لا اريد تسطيحها. لا أؤمن بصراع الحضارات، بل أؤمن بعدم فهم حضارة أو ثقافة لأخرى. اعتقد أن الغرب ليس مفهوماً من الشرق، والشرق ليس مفهوماً من الغرب. لستُ الأول في الاعلان ان عالمنا الحالي يعاني مشكلات مستعصية قد لا يكون حلها في القريب. لا استطيع ان أصرّح اذا كنتُ متفائلاً او متشائماً، فهذا يتوقف على الموضوع الذي نتكلم فيه. لكنني متفائل في أنه ستكون هناك دائماً مطاعم جيدة في باريس.

 

2 ــ في المادة:
اختار أيّ مادة فقط لأنها تهمني. لا معيار آخر لي. المؤسسات الأميركية التي صوّرتها مذ بدأت، مثيلاتها موجودة في كل مكان. في كل مكان هناك مقار للشرطة ومستشفيات ومدارس. لكنها تختلف في الجوهر، وأحاول ان التقط هذا الجوهر. ايضاً: عناصر الشرطة في أميركا مختلفون عن عناصر الشرطة في لبنان مثلاً. العلاقة بين السياسيين والمؤسسات هي الأخرى مختلفة بين بلد وآخر. لم أصنع الا 40 فيلماً الى الآن، هذا لا شيء مقارنة بعدد المواضيع التي يهمّني طرحها. ليست لديّ لائحة أولويات بالمواد التي تهمّني. اختار ما يثيرني في هذه اللحظة. بعضهم يتحمس لموضوع ثم ينطفئ وهجه له. لم يحصل هذا معي بعد. لا أؤمن بالقول الذي يزعم أن الموضوع، أحياناً، هو الذي يبحث عن المخرج. لا أعتقد ان هناك أيّ موضوع يمشي على قدمين بحثاً عن مخرج.

 

3 ــ في الموضوعية:
كلّ شيء ذاتي. لا وجود للموضوعية. ليست لديَّ فكرة عما تعنيه هذه الكلمة. فعلاً، قل لي، ماذا تعني موضوعية؟ ربما عليك ان تلتقط صورة من 360 زاوية وبـ360 كاميرا لتقول انك موضوعي. كم من الوقت تستطيع أن تفعل ذلك؟ وهل اذا استمر التصوير بهذا المنطق، فسيعتبر موضوعيا؟ بدلاً من كلمة موضوعية استعمل كلمة “عدل”. لأنك حتى عندما تعطي الكلمة لطرفين متخاصمين، وتنقل وجهتي النظر المتضاربتين في شأن واحد، هذا تقويم ذاتي للمسألة. في الفنّ والسينما كلّ شيء ينبع من خيار. شخصياً، ابحث عن الحقيقة، الحقيقة وفق اقتناعاتي أنا. لذلك، أجد عبارة “سينما الحقيقة” Cinéma vérité، في منتهى الادعاء. لا يمكن الفيلم أن يقول الحقيقة المطلقة. قد ينقل حقائق، او حقيقة واحدة. مهما قلنا، في النهاية هناك معطيات تقول لنا ان الفيلم السينمائي هو تعبير عن فكر المخرج الذي يقف خلف الكاميرا.

 

4 ــ في المؤسسات:
من الإدعاء القول ان أفلامي تعكس التطور الذي حصل في السنوات الخمسين الأخيرة في المؤسسات الأميركية. لو انجزتُ كل سنتين فيلماً عن مدرسة، وتابعتُ تصوير المدرسة نفسها دائماً، مواصلاً التقاط مسارها على مدى خمسين عاماً، فهذا كان سيعبّر عن التطور الشامل الذي حصل في تلك المدرسة. ولأنني لا أفعل هذا، أراني غير قادر على القول كيف تطورت الأمور منذ خمسة عقود. عندما أنجزتُ فيلماً عن دار عارضات الأزياء عام 1979، لم يكن عندي ادنى فكرة كيف كانت دار عارضات الأزياء قبل 30 عاماً من ذلك التاريخ. الآن، في 2013، اذا انجزتُ فيلماً عن دار لعرض الأزياء، نستطيع ان نستند الى فيلمي لنعرف كيف كانت الحال قبل 30 عاماً ونيف. يمكننا المقارنة.

 

5 ــ في السينيفيلية:
هناك مخرجون وثائقيون احبهم لكنهم يعملون بطريقة مختلفة عن طريقتي. أكنّ اعجاباً كبيراً لعمل مارسيل أوفولس. اعتبر فيلمه “الألم والشفقة”، من أروع ما صُنع. “اوتيل ترمينوس” هو من أفلامه الكبيرة ايضاً. أميل ايضاً الى ارول موريس والى “ضباب الحرب”، الذي اعتبره تحفة خالصة. من الكلاسيكيين الكبار، هناك طبعاً دزيغا فيرتوف. السينما ليست فناً عجوزاً. الأخوان لوميير تكلما تقريباً عن كل ما يمكن ان يتكلم عنه المرء في فيلم وثائقي. عندما نشاهد شرائط لوميير القصيرة، نستطيع أن نقول انهما استبقا الكثير من المواضيع التي عالجتها السينما الوثائقية لاحقاً، لكنهما لم يبلوراها. لا أعرف في كل حال ما اذا كانا يدركان ما فعلاه. كلامهما عن مستقبل السينما يدل الى انهما اخطأا التقييم، ولكن يبقى انهما أنجزا اشياء مهمة. اعتبر نفسي سينيفيلياً، لكن ليس لديّ الكثير من الوقت، لأنني اعمل باستمرار.

 

6 ــ العمل:
عندما لا أكون مشاركاً في مهرجان، اعمل سبعة أيام في الاسبوع. معظم أيام السنة، أكون في غرفة المونتاج. مرة كل عام، أذهب الى التزلج لثلاثة اسابيع، بين سويسرا والولايات المتحدة. الاخراج رياضة، لذلك يجب المحافظة على اللياقة البدنية. أمارس يومياً ساعة ونصف الساعة من التمارين. اركب الدراجة الهوائية وأقوم بالبوش آب، الخ. اهتم بصحتي لأنها تفيدني في مواصلة عملي. لا نستطيع ان نحمل معدات التصوير من مكان الى آخر 12 ساعة يومياً، اذا لم نكن في حالة جيدة. اذا جلستَ 12 ساعة من دون حراك أمام شاشة، فستصاب بأمراض ويصبح جسدك بديناً ومتهالكاً.

 

7 ــ في المونتاج:
أعتقد انني أنجز أفلاماً روائية، احداثها غير معدّة سلفاً، ولا تتضمن ايّ “ميز ان سين”، الا اثناء المونتاج. سأعطيك مثلاً كيف يمكننا أن نأتي بـ”الميز ان سين” الى المونتاج: لنأخذ مشهداً من فيلمي الأخير “في باركلي”. ففي مكتب عميد الجامعة، تستمر الاجتماعات عادة 90 دقيقة. أما ما نرى من الاجتماع في الفيلم، فلا يتعدى زمنه سبع او ثماني دقائق. الاكتفاء بذلك يفرض عليّ أن اقوم بخيارات. من خلال المونتاج، عليّ ان اولّد عند المتلقي الاحساس بأن المدة الزمنية التي عاشها هي المدة الفعلية للاجتماع، بغض النظر ما اذا كانت هذه الجملة مأخوذة من الدقيقة السادسة للاجتماع وتلك الأخرى مأخوذة من الدقيقة العشرين. هذا هو الجانب الروائي للوثائقي، وهذا ليس كذباً! لكنه ليس مطابقاً للواقع كما جرى أمام عينيّ لحظة التقاط المشاهد. استغرق مونتاج فيلمي الأخير 14 شهراً، وتصويره 12 اسبوعاً. عملتُ كثيراً. كان لديّ 205 ساعات من الراشز. الساعات الأربع التي تراها تمثل واحداً من خمسين مما صوّرناه.

 

8 ــ في التقنيات:
لم تغير التقنيات الجديدة طريقة عملي. الآن، للأسف، بات عليّ التصوير بالديجيتال. التصوير لا يختلف. الشيء الوحيد الذي تغيّر اننا لم نعد نغيّر البكرة كل 11 دقيقة ونصف دقيقة. صار بامكاننا ان نصور لأكثر من ساعة من دون ان نقطع لتغيير الكاسيت. في الماضي، عندما كنا نصور بالطريقة القديمة، اعتقد أنه لم يفتني شيء بسبب تغيير البكرة. تغييرها، لم يستغرق يوماً أكثر من 20 ثانية. كنا نقطع، ولكن لا نقطع الصوت، كي نحافظ على الاستمرارية. كانت بكرة الصوت تستوعب 27 دقيقة، وكان من النادر أن يستنفد مستوعب الصوت بالتزامن مع مستوعب الصورة. التصوير بشريط سينمائي 16 ملم اكثر كلفة، كان يكلفنا تقريباً 1200 دولار للبكرة الواحدة (11 دقيقة)، وهذا المبلغ يتضمن شراء الشريط الخام وتحميضه. التصوير اليوم بالديجيتال لم يعد يكلف شيئاً، ولكن كل العمليات ما بعد الانتاجية (مونتاج، ميكساج، تصحيح ألوان) مكلفة للغاية. بعضها يتطلب ان تدفع 500 دولار في الساعة. كل المونتاج انجزه بنفسي، لكن تصحيح الألوان، استعين فيه بخبير. اليوم، كل شيء بات ممكناً على طاولة المونتاج، نستطيع ان نحذف ونضيف ونغيّر ما نريده. الأسود يتحول أحمر. لكني امنع نفسي من الذهاب بعيداً في استخدام هذا كله. سابقاً، كانت موازنة الفيلم تذهب الى التصوير، أما الآن فتذهب الى ما بعد التصوير.

 

9 ــ في المسؤولية:
لا أقيم علاقة مع شخصياتي قبل التصوير. أحياناً أكتفي بمقابلتهم. ألتقي معظمهم خلال التقاط المشاهد. الوحيدون الذين اتعرف إليهم قبل بدء التصوير هم الاداريون. عندما تعطيني الشخصية التي أنوي تصويرها الاذن لنقل صورتها، هذا يضعني أمام مسؤولية كبيرة. ولكن عليّ أولاً أن أشرح جيداً ماذا أريد أن أفعل. لديّ واجبات تجاه الشخصيات، ولا تراني مثلاً انني غيرتُ لون الملابس أو وضعتُ سيكاراً في فم شخص لا يدخن. لا أدفع المال للناس الذين أصوّرهم، لأن هذا يغيّر طبيعة العلاقة بين المصوِّر والمصوَّر.

 

10 ــ في الجماليات:
هناك سينمائيون يريدون تحريك الكاميرا ولديهم دائماً حب للظهور. هؤلاء يعتقدون انهم اذا لم يلتقطوا صورة تعبّر عن براعة تقنية معينة، فسيفكر الناس في أن الله هو الذي صنع فيلمهم وليست الطاقة البشرية! في رأيي، هذا شكل من أشكال النرجسية التي لا تطاق. عندما نشاهد فيلماً نعرف اننا أمام منتوج صناعي. وحده الأبله يجهل ذلك. التقاط الواقعية وجعل المشاهد يشعر انه في قلب الحدث، يمكن التوصل اليهما عبر كاميرا ثابتة أيضاً. بالنسبة لي، الفيلم الجيد هو الفيلم الذي لا ترى فيه الكاميرا تتحرك. احرك الكاميرا فقط عندما لا يكون عندي خيار آخر. لكن، أختصر الحركة الى حدودها الدنيا، لأن الحركة تلهي عين المشاهد. هذا كان رأيي دائماً، مع انني لم انجح في تطبيقه دائماً (…). عندما نتكلم عن كلّ شيء، لا نتكلم عن شيء. يمكننا ان نوحي بالكثير من خلال التفاصيل. يمكن أن نلمّح الى وجود عالم واسع، من خلال شخصيات متواضعة. في فيلمي “في باركلي” فكرة أن أميركا بلد متعدد العرق والاتنية، نلتقطها من الوجوه، لا حاجة الى أن اقولها في تعليق صوتي. عندما نرى طلابا آسيويين وأفارقة، لا حاجة لأن نقول ان اميركا ليست فقط موطن الرجل الأبيض. هناك سينما لوثت المشاهد عبر تلقيمه كل شيء. في جديدي، لم أرد أن أقول ان التوتر بين الجماعات المختلفة موجود، بل كنت أريد أن أظهر ان هناك من يريد ان يضع حداً لهذا. هناك محاولة من جانب بعضهم لتحسين شروط العيش الواحد”.

____________________________

نقلًا عن جريدة النهار.

عدد المشاهدات : 306

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.