سعالٌ غير مُعْدٍ
سارة عبدالعزيز
اليوم صباحًا، ظهرت عليّ أعراض الإنفلونزا. نعم، أعرف بأن هنالك فرقًا طفيفًا ما بين أعراض الإنفلونزا ووباء العام. ولكنني أختار ملازمة المنزل، لأن أشباه الأجساد التي تنتهك خلوة الشارع، لا تعلم. أعلم بأن ذلك قد يبدو سخيفًا، ولكن في وطنٍ كأمريكا، لا يمكن أن تخاطر في أمرٍ كهذا، إذ لا يمكنك أن تضمن أي صنفٍ من المعاتيه ستصادف في يومك. عند بداية الأزمة، قام فتيةٌ في نيويورك بدفع فتىً آسيويٍ أمام القطار ليُدهس، لمجرد أن ارتداءه للكمامة أوهمهم بأنه مصابٌ ولا يريدون منه أن يخالطهم.
لا أعني بذلك أنه مجتمعٌ غير لطيفٍ إطلاقًا. بل العكس، الأمريكي أحيانًا أكثر لطفًا وسذاجة مما ينبغي. إنه غالبًا على أتم الاستعداد لفتح باب روحه من أجلك، لمجرد جلوسك بجواره في المقهى. ولأنّ هذا المجتمع على قدرٍ عالٍ من اختلاط الأعراق فإنه قادرٌ على امتصاصك كالإسفنجة ليجعلك جزءًا من الكل قبل حتّى أن تتمكن من استيعاب تعقيده. في أي مكانٍ تذهب إليه، يسهل أن يظنّ مَن حولك بأنّك منهم. كلّ ما تحتاجه هو اللغة الإنجليزية الجيدة، وإن كانت اللهجة “بيضاء” أو تنتشل من كل ولايةٍ كلمة. فوطنهم أكبر من أن يقوموا بالإحاطة بكل اللهجات فيه، وسيستنتجون بكل بساطةٍ أنك من ولايةٍ أخرى وهذا كل ما في الأمر.
مرةً كنت أمشي في الحرم الجامعي حين قام شخصٌ أمريكيٍ بدا عليه أنه يبلغ من العمر الأربعين سنة أو ما يفوقها بالاقتراب مني. نظرتُ خلفه فإذا بجمعٍ غفيرٍ من الطلبة الأصغر سنًا يحملون صورًا لأطفالٍ يمنيين يعانون لظى الحرب. يسألني عن يومي، ثم يستفسر ما إن كنت أعرف عن حرب اليمن؟ تظاهرت بالجهل نافيةً. فأخبرني بأن الوطن “اكس” مسؤولٌ عن هذه الحرب، وبأن وطننا “أمريكا” يقوم بدعمه بالأسلحة للقيام بذلك. وبأنه هو وهؤلاء الطلبة قد اجتمعوا هنا للمطالبة بإلغاء معرض الجامعة الخاص بكلية الهندسة؛ لأنه يقام بمشاركةٍ من الجيش الأمريكي، ويستعرضون فيه بعض الأسلحة التي ثبت بأن -مجددًا- وطننا “أمريكا” قام بإمدادها إلى الوطن اكس. بدأ عندها باستعراض مآسي الحرب، ومدى الخسائر التي قاساها الشعب اليمني الحبيب، أعربت عن تعاطفي. ورحلت، دون أن أشاركه رأيي بنظريته، ودون أن أخبره بأن “وطننا” كان وطنه وحده، وبأن اكس هو وطني، واليمني أخي.
—
تريد منّا المحاضرة أن نتحدث. تقول بأن نجاحنا في المادة معتمدٌ على ذلك. تضيفُ بأن الطالب الأمريكي قد نشأ على المشاركة في الحصص الدراسية وبأن يقول ما يخطر على باله. تضيف بأن ذلك مهمٌ جدًا، خاصةً في كلية الحقوق. ننظرُ إليها، ونبتسم. نحنُ طلبة بقية دول العالم، لا نتحدث كثيرًا. نشأنا على حساب الكلمات، قسمتها، طرحها، وضربها، قبل أن ننتقي منها ما يستحق أن يُقال، أو ما لا عاقبة لقوله. نحنُ ننقسم إلى قسمين، قسمٌ يخشى عاقبة الكلام، وقسمٌ يدرك لا جدوى التفوه به. أما الطالب الأمريكي، فإنه يتحدث في المحاضرات بصوتٍ جهورٍ محادثات يخجل المرء أن يخوضها حتى مع نفسه! الطالب الأمريكي يتحدث، لأنه لم يُضطر يومًا لحساب الكلمات. لا يعنيه ما إن كان كلامه مؤذيًا أو مهينًا، فهو يتحدث بطريقةٍ علمية، والعلم يتطلب التجريد. لا يعنيه ما إن أخذ عشر دقائق من مدة المحاضرة، لأنه هنا ليُدلي بدلوه لا ليقوم بملئه. لا يعنيه ما إن كانت إجابته خاطئة، فالبيئة التعليمية المدعومة بأنهارٍ من الدولارات تُحتم على البروفسورات أن يصوبوا خطأه بطريقةٍ “أكاديمية”.
طريقة حوار الفرد الأمريكي، الود الطاغي على كل المحادثات الأولى، تفاصيل حياة الآخر التي تظهر عند أول تراشقٍ للجمل، كل ذلك يدهشنا! نمتدحه كثيرًا، ونتمنى لو تطبّعنا به. ولكن هذا الحوار ناتجٌ عن حرية ألا تشعر بأنّك محاسب. في كل دول العالم، مَن يملك حق الإشارة بإصبع الاتهام للفرد الأمريكي في غرفة ممتلئة؟ لا أحد. الأمريكي لا يخشى أي عاقبة، سوى العقوبات المادية. لأن كل ما سواها، لا يمكن أن يُوقَع عليه. الأمريكي يقدس حق الحديث حد أن أول تعديلٍ في الدستور الأمريكي ينص على حماية حرية الحديث. لا يهم الأمريكي أن يُطبق حديثه، وإنما أن تقدم له المساحة الكافية ليتحدث. وهذا ما حصل عليه. هواية الفرد الأمريكي هي الكلام. كلهم نُقّاد، سياسيون محنكون، فنانين عظماء، وكلهم يعلمون بأنهم الناقد الذي لا يكتب، السياسي الذي لا يقرأ، والفنان الذي يجهل صنعته.
الأذن، أفيون الأمريكي.
—
على الرغم من ذلك، فإنه لا يسعني إلا أن أرفع قميصي احترامًا لدستور هذه الدولة. هههه نعم، القميص لأنني لا أرتدي قبعةً، ولأن رفع الفتاة لقميصها مدعاة للفت انتباهكم أكثر من رفعها لقبعة. إن موضع القوة لدى أمريكا بنظري يكمنُ في دستورها. تحديدًا، في التعديلات التي أدخلت وقت المصادقة عليه. إن الدستور الأمريكي يقف بمثابة الحاجز ما بين رئيس الدولة والطغيان، فهو يحدد للمواطن حقوقًا أساسية واضحة المعالم يعجز الحاكم عن التعدي عليها. ذلك عائدٌ إلى أن المستعمرات الأمريكية قبل استقلالها عن بريطانيا كانت قد عانت من بطش الحكومة البريطانية. عند الاستقلال امتنعت العديد من المستعمرات عن المصادقة على الدستور خوفًا من أنه يقدم للحكومة الفدرالية حقوقًا تمكنها من البطش كما بطشت سابقتها. بعد المفاوضة قررت الولايات المصادقة على الدستور شريطة أن يتم إدخال عشر تعديلات عليه وقت المصادقة. هذه التعديلات العشر كلها تمثل حقوقًا أساسية للمواطن الأمريكي لا يمكن للحاكم أن يقوم بالحدّ منها، مستوحاة من أوجه الطغيان التي قاساها المواطن الأمريكي حين الاستعمار. حقه في التعبير مثلًا، أو ألّا تمنعه الحكومة يومًا عن امتلاك السلاح.
—
فيما يتعلق بهذا الحق الأخير فقد خضت حوارًا مثيرًا للاهتمام مع شابٍ اسمه “كَان”، وكان أمريكيًا من أصولٍ أفريقية. كان طالب ماجستير في تخصص الدراسات الشرق الأوسطية. ابتدأ الحوار بلهفةٍ حين التقيته في مقهىً على وجه المصادفة. أخبرني بأنه سعيدٌ لأنه التقى بفتاةٍ من الشرق الأوسط، وبأنه لطالما كان منجذبًا لهذا الجزء من العالم. تحدثنا عن أمورٍ كثيرة أوصلتنا إلى التعديل الثاني في الدستور، حق حمل السلاح. سألني عن رأيي القانوني فيما يتعلق به. أخبرته بأنني فهمت حسب اختلاطي بالمجتمع أن اليمين يؤمنون بقيمته، في حين أن اليسار يرون بأنه لم يعد مجديًا سوى في مفاقمة عدد جرائم القتل في الدولة. ضحك. أخبرني بحماسةٍ أنه لا يتفق مع ذلك. كان يتحدث بلهفةٍ. قال لي بأن الدستور قد أورد هذا الحق لأن الولايات وقت المصادقة كانت تعلم بأن تجريد الحكومة البريطانية لها من الأسلحة أعاقها عن الاستقلال في وقتٍ مبكر. قال بأنّه يؤمن بأن حق حمل السلاح يُشعر الحكومة الفدرالية دومًا بأنها لن تقدر على التعدي على حقوق الشعب، لأنه سيكون قادرًا على إبداء ردّ فعلٍ إزاء ذلك. آمنَ كَان بأنّ القيمة الفعلية لهذا التعديل لا تكمن في حمل السلاح واستخدامه، وإنما في فكرة وجوده التي تحدّ من إمكانية بطش الحكومة الفدرالية على شعبها.
لم يكن يعنيني أن أفكر ما إن كنت أؤمن بما آمن به كَان أم لم أفعل، لأنّ ما شدّني كان أكثر إثارةً للدهشة من ذلك. لطالما ظننتُ بأنّ دولةً مثل أمريكا على هذا القدر من القوة لا يمكن أن تُهزم إلا من الداخل. ولكنني في تلك اللحظة، وأنا أنصتُ إلى كَان، أدركتُ صعوبة أن يتحقق ذلك. إن هذا الشعب لن يجمع يومًا على قول “لا” قوية وفاجرة بشكلٍ يسقط حكومته، لأن الحكومة وإن بطشت عاجزةٌ عن التعدي على حقوقه الأساسية التي أرغمت مواطني الدول الأخر على الثورة. إن كان حق المواطن الأمريكي في فعل ما يحلو له محفوظٌ دائمًا، ما الذي سيدفعه إلى الثورة؟!
المواطن الأمريكي الذي يعلم بأن المحكمة العليا منعت الحكومة من فرض الضرائب على الصحف لئلا تتمكن يومًا من الحدّ من حق المواطن في حرية التعبير، المواطن الذي يعلم بأن المحكمة العليا حكمت بأنه يحق للمواطن أن يقوم بحرق العلم الأمريكي دون عقوبة لأن ذلك يعدّ شكلًا من أشكال الحديث الرمزي المحمي دستوريًا، ما الذي سيدفعه إلى الثورة؟ حتّى المشرّد في الشارع هنا يحب موطنه. يصرخُ مشرّدٌ في أمريكا وهو يخطو ببطءٍ وسط سيل السيارات في الشارع: “لا يمكنك أن تُقدِّم لي أمريكا! أنت لا تملكها، هي لنا جميعًا! هي حريتنا!”. مشردٌ كهذا لن يثور يومًا. نعم قد دفعته الرأسمالية إلى أن يُشرّد في الشارع، ولكنه على علمٍ بأنه يحق له أن يعامل الشارع كمنزله وأن يمشي عاريًا إن شاء دون أن يعاقب. وعلى ذلك فهو يكره الحكومة ولكن ليس بالشكل الكافي للثورة.
—
إذا أردت أن تفهم الوضع السياسي في أمريكا، تخيّل أفلام الرسوم المتحركة في صغرك حين كانت تُعرض دودة تخترق تفاحةً حمراء ناضجة. إن ما أفلح في القيام به سياسيو أمريكا هو شغل رؤوس الشعب بالحياة اليوميّة. أنتَ حُر! قُل ما شئت! افعل ما شئت! ولكن عجلة الاقتصاد ستدهسك كل يومٍ ألف مرة. يمكنك أن تستشعر ذلك في كل مكانٍ تذهبُ إليه. من موظفي المقاهي الذين يمارسون وظيفتين ليتمكنوا من دفع ديونهم الدراسية، أو الإعلانات التي تتطرق للسعر أكثر مما تتطرق إلى الجودة. حتى الحوارات التي تخوضها مع مَن حولك يندر أن تنقضي دون أن يُذكر فيها المال مرتين على الأقل.
يقول بوكوفسكي:
“ولدنا إلى هذا
إلى مستشفيات مكلّفة جدًا
لدرجة أنه من الأرخص أن تموت
إلى محامين يكلّفون الكثير
لدرجة أنه من الأرخص أن تعترف بأنك مذنب”.
ولكن يبدو أن بوكوفسكي المسكين لم يتوصل إلى الحل العظيم لهذه المسألة: الخدمة العسكرية! نعم، فهذا الوطن الذي يفخر بكون خدمته العسكرية اختيارية بشكل تام، تكفّل بإرغام أبنائه على الالتحاق دون أن يترك أثرًا. ارتفاع تكلفة المعيشة، والخدمات الطبية، والتكاليف الباهظة للتعليم الجامعي، وديون الطلاب التي يمضون الأعوام الخمس الأولى بعد تخرجهم -إن لم يكن أكثر- محاولين سدادها، كل هذه المآسي يمكن تفاديها بحلٍ واحد: تعبئة ورقة الالتحاق. فالخدمة العسكرية تكفل لك ولأسرتك تأمينًا طبيًا، وتتكفل بتكاليف دراستك الجامعية متى رغبت القيام بذلك. بل إن مزايا الخدمة تمتد حتى لأبسط الأشياء كحق صعود الطائرة أولًا متجاوزًا حتى ذوي البزّات الذين حجزوا مقاعد الدرجة الأولى ورجال الأعمال.
هذا ما أيّده “لوك”، الفتى الأمريكي المثلي الأبيض الذي تعلّم استخدام البندقية قبل أن يصل إلى سن البلوغ. لوك كان قد نشأ في ولاية قليلة السكان، كلها من البيض المنتمين إلى اليمين المتطرف، يحبون السلاح والعسكرية حبهم لأبنائهم، بل وأكثر! يقول لوك بأن أسرته كانت تفخر بأن كل شبابها كانوا يلتحقون بالجيش بعد المرحلة الثانوية، ولكن لحسن حظه أن والده قد أعانه على كسر هذه الحلقة. والد لوك كان جنديًا شارك في غزو العراق، أزهق الكثير من الأرواح فيها، سفك الدماء، ثمّ عاد إلى أمريكا ولكنه نسي إحدى ساقيه هناك. في البدء غلب عليه الحقد على أولئك العرب الذين لم يقبلوا الموت بسلامٍ دون المطالبة بتعويضٍ وإن كان هذا التعويض بخسًا كساق! ولكنه تعقّل مع الأعوام، وقام بدراسة الشعب العراقي الجليل، ليصل إلى خلاصة مفادها أن دولته قد خاضت حربًا لم يكن لها فيها ناقةٌ ولا جملٌ ولا كيماويٌ حتى، وإنما البترول وحده. يخبرني لوك بأن والده قال له مرةً بأسىً أنه اضطر لقتل الكثير من الأشخاص الذين لم يستحقوا الموت لمجرد أن شخصًا لعينًا يفوقه رتبةً أمره بذلك. يقول لي لوك ذلك ظانًا بأن هذا يكفر عن خطايا والده، ولكنه يزيد الأمر سوءًا. أولم يشرف الخدم المطيعون على مذابح مرؤوسيهم منذ فجر التاريخ؟ فجر، هه، بل غسقٌ أزلي.
يومها حكى لي لوك عن طفولته هو وأصدقائه من أبناء الأسر العسكرية. أخبرني عن الآباء الذين يدخنون السجائر وقت التدريب ليتمكنوا من البقاء يقظين. وبعد الاعتياد عليها، لا يرون في التبغ ما يسوء، فيقدمونها إلى أبنائهم الذين لم يبلغوا التاسعة من العمر بعد. ومن ثم قصّ عليّ قصته هو، قال لي بأنه عندما شارف على التخرج من المرحلة الثانوية كان يعلم بأنه لا يملك ما يكفي من المال للدراسة في أي جامعة، لذلك ابتدأ تدريبه في المنزل استعدادًا للتقديم على العسكرية، طمعًا في أن يتكفلوا بتكاليف دراسته الجامعية بعد أعوامٍ من الخدمة. كان عندها يمتلك مسدسًا وبندقية، ولكنه تدرب على أسلحة والده الأخرى. ولأنه كان يخاف من المرتفعات، مارس القفز المظلي مراتٍ عدة حتى يتخلص من خوفه. بعد أن أنهى تدريبه المنزلي، كان لوك محظوظًا بأن حصل على منحةٍ جامعية لتفوقه في الرياضيات. الآن، لوك الفتى الذي كان سيغدو مجرد كلبٍ مطيعٍ آخر، يدرس الذكاء الاصطناعي. وإن كان قد اضطر للتخلي عن أحد أسنانه، لأنه كان مصابًا بتسوسٍ بسيط، ولكن ثمن خلعه كان أقلّ تكلفةً من علاجه. ووالده الجريح؟ يدرس معه في ذات الصف، محافظٌ على كل أسنانه، ممتنٌ للعسكرية على كل دولار.
—
ولكن، ماذا عن الأمريكي الآخر؟ الأمريكي غير المقتدر ماديًا ولكنه يرفض أن يدفع ثمن تعليمه وحياته دمًا؟ إنه يحاول أن يقاوم. وهذه المحاول في حالة صديقتي “جينا” وأسرتها جاءت على شكل التخلِّي عن كل ما هو ماديٌ في هذا العالم والإضفاء عليه صبغة الشر والنجاسة. جينا التي تبلغ من العمر الثانية والثلاثين من عمرها تحلمُ بأن تتخلى عن عملها وشقتها، وتقضي حياتها في “كرفان”، متنقلة من مكان إلى آخر، بالقليل من الثياب، ودون أي استخدامٍ للتقنية.
لم تخبرني جينا عن والديها الكثير، ولكنها أخبرتني ما يكفي لدفعي أن أدلف المقهى بحماسةٍ للقائهما. كان مقهىً عتيقًا، ذو طابعٍ فنيٍ. علَت جدرانه لوحات فنية رسمها بعض مرتاديه، ليبتاعها البعض الآخر. لم أكن أعرف مكان جلوسهم، ولربما كان من البديهي أن أبحث عن وجه جينا لأهتدي إلى الطاولة، ولكنني كنت أبحث عن وجه والدها “مارتي”. على الرغم من أنني لم أرَه إلا في الصور، إلا أنني ظننتُ بأن صعلوكًا مثله محبٍ لبوكوفسكي، ومطبقٌ لنظرياته هو وميللر الحياتية لا بدّ وأن يسهل التعرف عليه. تحسسّتُ بعينيّ الوجوه، إلى أن اهتديتُ إلى وجهه. كان رجلًا في السبعينيات من عمره، ذو شعرٍ فضيٍ يصل حتّى كتفيه، وجسدٍ مفتول العضلات، وابتسامةٍ تشعر بأنها منبعثةٌ من أعمق موضعٍ في روحه، دون أن تثير الشك في مدى صدقها. اتجهت إليهم، مددت يدي لمصافحتهم، فباعدوا ما بين أذرعهم لمعانقتي.
نظرتُ إلى جسد مارتي وسمعتُ صدى قهقهاتٍ تنبعث من الصوت الكامن في رأسي، فقد كان هذا الرجل يبلغ الخامسة والسبعين من عمره! هذه العضلات البادية على جسده الفتي، تنتمي لشخصٍ يبلغ الخامسة والسبعين من عمره! وحاولت تذكر الأجساد الواهنة التي لم تبلغ الخامسة والسبعين بعد في مدينتي مرتمية على أسرة المشفى، ينهش فيها السُكّري والضغط والقولون وكل قائمة الأمراض التي لا تجيء فرادًا. وتذكّرت بعدها فتية مدينتي، أولئك الذين لم يتجاوزوا منتصف أعمارهم بعد، أجسادهم التي تنقسم إلى واهنةٍ تنجرف مع كل ريحٍ أو مثقلة بكثرة الولائم فما عادت قادرة على الحراك دون لهاث. كان تخيل هذه الأجساد في نزالٍ مع هذا الجسد السبعيني طريفًا، فقد كان فوزه محتومًا.
على المقعد المقابل له، جلست زوجته “آمي”. مرتديةً أحمر الشفاه، وقليلًا من الكحل، وقرطين كبيرين يزينان أذنيها. بدت رقيقةً وخجولةً أكثر من زوجها وابنتها مجتمعين. لم تشارك في الحوار إلا لمامًا، وكانت تنظر من حولها كلما تحدثت لتتأكّد من أن كلماتها لن تثير امتعاض أيٍ منهما. وكلما نظرت إلى زوجها التمَعت عيناها بدفءٍ لتبوح بحبٍ لا أظن بأنه يخفى عليه.
تحدثنا في البدء عن الطفولة، وعن مدى تأثيرها في مسيرة المرء وإن حاول اجتناب ذلك. تحدث مارتي بنبرةٍ حميمةٍ عن طفولته. قال بأن والدته قد تركت بالغ الأثر عليه، إذ كانت مستقلةً وقويةً، ترفض الانصياع لتفضيلات المجتمع وقوانين “المفترض”. كان يحترم ذلك فيها كثيرًا، خاصةً وأنهم كانوا يعيشون في مدينةٍ صغيرة يتدخّل كل فردٍ فيها في شؤون جارِه. قال مارتي بأنه كان يحلم بمغادرة تلك المدينة، فقد كان مصير المرء فيها محتومًا. النجاح الدراسي فيها يعني أن تتخرج من المرحلة الثانوية لتمارس إحدى الحِرَف المهنية المعتادة والتي لا تحترم عقل المرء، أو تكمل التعليم في جامعةٍ ما، وكل الجامعات بنظره: تمتهنُ عقل المرء. اجتنابًا لهذا المصير المريع بنظره، كان مارتي يتعمد الفشل الدراسي منذ المرحلة المتوسطة. أما آمي، فتحكي بنبرةٍ ملؤها الحنين عن طفولتها في مدينة نيويورك. تقول آمي بأن أسرتها كانت بحالة مادية جيدة، ولم تكن هي يومًا متعلقةً بما هو مادي. ولكنها كانت تحلم طيلة طفولتها بأن تكون عازفةً موسيقية. لم تكن عندها تجيد عزف أي آلة، ولكنها كانت تود لو تعزف الآلات كلها. تستطرد في الحديث عن ذلك فيما يشد انتباهي إنصاتُ زوجها وابنتها لها بلهفةٍ وكأنها تتحدث عن ذلك للمرة الأولى. تضيف آمي بأنها كانت فتاةً ثوريةً في صغرها، ترفضُ، وتقول “لا”، ولا تُهادن. تصمت، ثم تضيف: “كنتُ أظن بأنني فتاةٌ ثورية، إلى أن التقيتُ به!” وتبتسم بحب.
أسأل مارتي عندها عن نمط الحياة الذي اتّبعه، عن التخلّي. فيخبرني بزهوٍ أنه بلغ الخامسة والسبعين من عمره دون أن يمارس مهنة محددة لأكثر من بضعة أشهر. ذلك لأنه يفضل الأعمال المعتمدة على القيام بمهمةٍ محددة ولمرةٍ واحدة، يتقاضى مقابلها أجرًا زهيدًا يليق برغباته في هذا العالم المادي. فهو مثل بوكوفسكي، يؤمن بأن الوظائف بشكلها المعاصر، ليست سوى شكلٍ حديث للعبودية يسرّه أن قد نفذ بجلده منه. يضيف بلامبالاةٍ بأنه لا يفضل الاستهلاك المرفّه، وإنما الاستهلاك المبني على الضرورة. وبأن كل هذه الإعلانات الدعائية التي تحاول خلق احتياجٍ وهمي لدى الأفراد، لا تنطلي عليه. فهو مثلًا يرتدي نفس الحذاء لأعوامٍ طوالٍ دون تبديل، ببساطةٍ لأنه لم يجد ضرورةً تدفعه لابتياع حذاءٍ آخر. لعلّ ذلك يفسر ثيابه الرثّة، ولكن النظيفة يومها.
ننتقلُ من موضوعٍ إلى آخر، ونرسو على أهمها بنظر مارتي: السعادة.
يقول مارتي بفخرٍ وحيوية أن السعادة والتعاسة بنظره مسألة حركة. ويضيف بأن تعاسته لم تدم يومًا أكثر من بضع دقائق، لأنّه لا يظل على حاله. فهو عندما يشعر بالأسى، يتحرّك، يمارس الرياضة. صمت لوهلةٍ، ثم قال بأنه كان يشعر بالحزن صباح الأمس، ولكنه قال لنفسه: ثمّ ماذا؟ أستتخذ سنّك عذرًا للتقاعس واجتناب رفع هذه الأثقال؟! ثم حملها، ومارس الرياضة، إلى أن انمحى حزنه وانجلى.
شعرتُ بأن ذلك مدهش، وأخبرته بذلك. ولكنني قلتُ له بأنني أرى أن القيام بذلك صعبٌ ما لم يكن هناك دافعٌ أسمى يدفعني لهذه الحركة. شعرت بأن الحركة تتطلب المقاومة، والمقاومة تطالبُ بأن يكون هناك دافعٌ أشد عمقًا. سألته عن دافعه؟ فأجاب ببرودٍ بأنه السعادة. قال بأنه قد أخذ على نفسه عهدًا من زمنٍ طويلٍ بأنه سيحاول ما استطاع أن يقضي عمره سعيدًا. قالت آمي بأنها تتفق معي بأن الأمر يتطلب دافعًا أكثر سموًا وتغلغلًا في النفس، وفي حالتها فإن هذا الدافع هو حبها للموسيقى والفن. أضافت بأن الشعور الجيد الذي تبعثه الموسيقى في روحها كافٍ لتقاوِم. في حين أن ابنتهما جينا قالت بأنها تقاوم لأنها تحب الحياة، وتريد أن تشعر في كل يومٍ فيها بأنّها حيّة، وبأنها تشارك الآخرين سعادتها هذه. جينا ترى بأن الأسى أيضًا يبعث فيها شعورًا بالحياة، ولذلك فإنها لا تميل إلى فكرة والدها في المقاومة بالحركة. تقول هي بأنها تحب أن تعيش كل شعورٍ حتّى آخره، تأذن له أن يستنزفها، إلى أن يُتخَم ويختار مغادرتها بنفسه.
امتدح مارتي اختياريهما، ولكنه قال بنقدٍ بأنهما غير جيدين كدوافع للعيش. لأن تحقيق السعادة الحقة معتمدٌ على التخلي، لا التمسُّك. كان لمارتي في صغره العديد من الرغبات، ولكنه وجد نفسه غارقًا في الأسى لعجزه عن الوصول إليها. وحتى في الحالات النادرة التي نال فيها رغباته، وجد أن ذلك لا يهبه إلا القدر الضئيل من السعادة. كان يقرأ كثيرًا عندها لكتابٍ مثل هرمان هسه ودوستويفسكي وإيميل سيوران، وتوماس ووولف، ولا أعلم ما الرابط العجيب ما بين هذه الأسماء، ولكنها كلها كانت تزيد من أساه حسب قوله. كل ذلك، بالإضافة إلى الجشع الذي كان يغلب على المجتمع الأمريكي عندها، دفع مارتي إلى الإيمان بأن السعادة الحقة تكمن في التخلي. منذها لم يعد مارتي متمسكًا بأي شيءٍ سوى حريته التي قام بحمايتها من كل شخصٍ وشيء. بل إنه قال بمباهاةٍ أنه لا يمتلك هاتفًا نقالًا حتى، لأنه لا يحب فكرة قدرة الآخرين على الوصول إليه متى شاءوا! استشهد بعدها بمقولة ميللر التي ألقاها بشكلٍ مسرحيٍ طريف: “لا أملك أية نقود، لا موارد، لا آمال، أنا أسعد إنسانٍ على قيد الحياة!”
بقدر ما شعرت بلذّة أن يكون المرء حرًا بهذه الصورة، شعرت أيضًا بأن هذا قد يثير قلق آمي عندما يتغيب عن المنزل. سألتها ما إن كان ذلك مقلقًا بالنسبة لها؟ فأجابت مؤيدةً، خاصةً وأنه يخرج من المنزل أحيانًا دون إعلامها بذلك، ليقطع عشرات الكيلومترات بقدمه لزيارة الشاطئ مثلًا. فتظلّ هي منتظرةً إياه لساعاتٍ دون أن تعلم عن مكانه أو ما إن كان تأخره مبررًا أم مقلقًا. نظر إليها بلا مبالاةٍ، وبحماسةٍ طفلٍ قال لي بأنه يحب الذهاب إلى الشاطئ للعب التنس. انضمّ مرةً لفريقٍ ضمّ بعض المحترفين، ولكنه سرعان ما انسحب منه لأنهم كانوا مهووسين بحساب النقاط. منذها وهو يفضل اللعب منفردًا، أو مع أشخاصٍ لا يعرفهم، يتركهم يحسبون النقاط ويستمتع هو باللعب. نظرت إليه آمي بأسىً وقالت بأن ذلك يسرها، ولكن ما ضرّه لو أخبرها في كل مرةٍ قبل خروجه بأنه ذاهبٌ إلى هناك. إنها تخشى أن يصيبه شيءٌ في الخارج دون أن تعلم. بدت عندها آمي كزوجةٍ كانت تترقب لحظةً يتاح لها فيها أن تفيض بكل هذا العتب المكوم منذ سنين. أجابها مارتي بأن قلقها هذا غير مبرر. ما الذي كان من الممكن أن يصيبه؟! إنه رجلٌ مسنٌ، صحيح الجسم، وغير مدمنٍ على الكحول أو المخدرات. التقنية هي التي خلقت لدينا هذه المخاوف والأوهام، فسابقًا كان الآباء يخرجون من المنزل، ويعودون عندما يشاؤون، دون أن يقلق عليهم أحد إلا إن تجاوز الوقت ساعات الفجر الأولى. طلبته آمي أن يتنازل، وإن كان يجد قلقها غير مبرر، ويخبرها في كل مرة عن وجهته ليس إلا. ولكن مارتي وجد أن قلقها يدل على انعدام استقلاليتها، واعتماد عاطفيٍ غير مبرر من قِبَلها. كان عليها أن تتعلم الاستقلال مثله، ألّا تعتمد على أحدٍ ولا تمكن أحدًا من التأثير في شعورها بشكلٍ سلبيٍ، حتى هو. فقد كان هو شخصًا مستقلًا، قادر على التخلي عن أي شيء، وكل شخص، دون أن يؤثر ذلك في سعادته. خلّفت العبارة الأخيرة لطمةً على وجه آمي، بدا أن أحدًا منهم لم يكن قادرًا على رؤيتها سواي. نظرت إليه بأسىً وارتباك وقالت: “ولكنني لا أريد العيش دونك، وإن كنت أستطيع”.
آمي رأت بأن التضحية جزءٌ ضروريٌ في كل علاقة. أن يتنازل أحيانًا ويخبرها بوجهته، أن تلين هي ولا تطالبه بالاتصال لطمأنتها. كانت تؤمن بأن التضحية فعل حبٍ، لا يمكن اجتنابه بشكلٍ تامٍ في العلاقات. في حين أن مارتي رأى بأن التضحية ثِقَلٌ يؤدي إلى مقت الآخر. مارتي آمن بأنه لا يدين بالتضحية لأي شخصٍ، ولا يدين له بها أحد. بل إن حماسه في النقاش دفعه إلى قول ذلك بالعبارة الصريحة لآمي: “أنتِ لا تدينين لي بالسعادة، سعادتي أنا مسؤولٌ عنها. والأمر كذلك فيما يتعلق بسعادتك”. آمي لم تتفق، فتدخلت جينا لتوضيح فكرة أبيها والاتفاق معه. قالت جينا بأن التضحية قد تكون فعل حبٍ في البداية ولكنها سرعان ما ستؤدي إلى كره الآخر. والمطالبة بها ليست سوى أنانية محضة. “إن كنت تحب الآخر بشكلٍ صادق، لِم عساك تود منه أن يُضحي ولو بظفرٍ من أجلك؟ لِمَ تودّ أن تتسبب له بالتعاسة لتشعر بأنه يحبك؟”.
ختمت تساؤلاتها الحوار عن التضحية، وابتدأت جينا الحديث عن علاقات الحب في حياتها. كانوا يتجاذبون أطراف الحديث فيما تلذّذت أنا بحميمية هذه الأسرة التي عرضت عليّ تاريخها، حاضرها، وما تتمنى لو كان مستقبلها، دون أن تطلب مني أن أشارك أي شيءٍ في المقابل. كانت جينا تتحدث مع والديها وكأنهما صديقان قديمين لها، لا والدان قاما بتربيتها. وصل بها الأمر إلى مشاركة والدها تفاصيلًا جنسية عن حياتها، فيما بادلها النكات والمزاح دونما غرابة. سألني بعدها عن الحب في حياتي، فضحكت. لا لخجلٍ أو تحفظٍ، وإنما لدهشة أن أحدًا لم يسألني عن ذلك بهذه الطريقة الأريحية من قبل. لم يكن هناك أحد في حياتي، لأنني أمقت موجة التشييء التي يعاد إحياؤها الآن على أجساد الفتيات. كل شيءٍ مبنيٌ على الأسطح، ولم تكن الأسطح بالنسبة لي مغريةً يومًا بقدر ما كان ما تحتها مغريًا. أيد ذلك مارتي. قال بأن المؤسف في الأمر أن التاريخ يعيد نفسه. في صغره، كان الحال كما هو الآن، كل شيءٍ معتمدٌ على المظهر. ولكنه شهد في عمره التحول الكبير الذي غير من ذلك. يقول بأن المجتمع بعد فترةٍ أدرك بأن المظهر لا يكفي لإنشاء الأسر، وبأن الحياة تزداد صعوبةً ويحتاج فيها المرء شريكًا محبًا، لا دميةً جميلةً. يضيف بأنه يرى بأن شواطئ العراة ساهمت كثيرًا في لا جنسنة أجساد النساء، فقد صارت رؤيتها أمرًا أكثر طبيعيةً وأقل إثارة.
أدار بعدها مارتي دفّة الحوار إلى الكتب والكُتّاب. أخبرني بأنه كان يحب فيما مضى الكتابة المطولة، ولكنه الآن يكتفي بكتابة الشذرات لأنه لا يحب التعمق في أفكاره بشكلٍ مطول؛ ففي ذلك ما يثير الأسى ويقلل الحركة. أخبرته بأنني قرأت شذراته في الكتاب الذي شاركتني إياه جينا، ودهشت لكون آلان دو بوتون واحدًا من المشاركين فيه، ضحك واعتذر لأنه لا يعرفه. أخبرته بأنني سررت عندما قالت لي جينا بأنه يحب بوكوفسكي وهنري ميللر، نظر إليّ بحماسةٍ وقال: “اوه، نعم هنري! لقد أرسلت له رسالة إعجابٍ طويلة في شبابي”. سألته ما إن كان ميللر قد أجاب عليها، فهو معروفٌ بحبه للتراسل، وكان يجيب حتى على معجبيه. ابتسم وصمت لوهلة، كمن يحاول تذكر شيءٍ قديم، ثم قال: “نعم! لقد أجاب عليّ برسالةٍ طويلة. دهشت عندما رأيتها. لعلها كانت مكتوبةً في ست صفحات! هل تتذكرينها يا آمي؟” أجابت بأنها تفعل. شعرت بالحماسة والسعادة! طلبت منه أن أراها إن لم يكن يمانع ذلك، ولكنه قال بأنه للأسف قد تخلص منها منذ زمنٍ طويلٍ، فهو يحب التخفف من كل شيء.
اللعنة على التخفف!
—
ماذا عن جينا؟
والدا جينا أذِنا لها بمغادرة المنزل منذ الخامسة عشر من العمر، لأنّها: حُرّة. وعندما رفضت الحكومة تركها للمدرسة، اجتازت الاختبارات التي اشترطوها عليها للمغادرة. فقد كانت فتاةً ذكيةً، ترفض أن يمتهن عقلها، تمامًا مثل والدها. انتقلت في سن الخامسة عشر إلى ولاية أخرى، لتسكن في غرفةٍ مطلة على الشاطئ مع عشر مراهقين آخرين، كان كل واحدٍ منهم يدفع مئة دولارٍ للإيجار. تقول لي بأن تلك الأعوام من عمرها كانت مجنونةً، كان المنزل مكانًا للمبيت فقط، وكانت كل المخدرات متاحةً، وكل المشردين أصدقاءً لها إلى أن يوشكوا على الاعتداء عليها. تعلّمت جينا من تلك الأعوام الكثير، وإن كانت قد دفعت ضريبة كل هذا العلم. بعد أعوامٍ، عادت جينا إلى منزل والديها، والتحقت بالجامعة لتدرس الأحياء. تخرجت بمرتبة الشرف الثانية، وبدأت العمل في مختبرٍ طبيٍ في مدينة نيويورك.
كانت جينا مثل والدها، تحب ممارسة الرياضة، وقد صارت مهووسةً بصحتها. لذلك، عندما وجدت نفسها في أحد الأيام في المختبر، متوجعةً من ظهرها لأنه يظل محنيًا لساعاتٍ طوال في العمل، قررت الاستقالة. شعرت جينا بأن هذه الوظيفة الروتينية كانت تكبدها الخسائر دون أن تشعرها بالرضا عن حياتها والمنحى الذي اتخذته. انتقلت جينا بعدها إلى الساحل الآخر من الدولة، وبدأت العمل كمدربةٍ رياضية. تحب جينا عملها لأنه إنسانيٌ جدًا، ولا يتطلب الكثير من التعامل مع الحياة المادية. لا تطمح لأي ترقيةٍ، ولكنها تحاول جمع ما يكفي من المال لتحقيق حلمها في التخلي عن الشقة والعيش في “كرفان”.
قد يبدو كلٌ من جينا، ومارتي، ووالدتها الحزينة غريبي الأطوار قليلًا. ولكنهم يمثلون الفرد الأمريكي الذي كتب جون فانتي، تشارلز بوكوفسكي، وهنري ميللر من أجلهم. إنهم الأمريكي الذي يحاول أن يقول “لا” وإن لم يفلح.
—
مساءً، أخرج للمشي في الشارع، إذ أن حاكم الولاية لم يقم بفرض نظام حظرٍ للتجول بعد. الشوارع الخاوية تبعثُ في روحي السكينة، كل شيءٍ صامتٌ ما عدا الأرصفة والجدران التي خطّ عليها الأمريكيون همومهم. على سور أحد معارض السيارات كُتِب: “اقتُل!”، هكذا بكل بساطة. نصيحة من كلمة واحدة. آمل أن أحدًا لم يقم باتباعها. على رصيف المشاة المُقابل: “فلنلتهم الأغنياء!”، وياله من اقتراح! أن تأكل الفريسة مفترسها. في منتصف الطريق العام كُتب بأحرفٍ ملوّنة: “سنظلّ أقوياء”، في حين أن منعطفًا آخر كتب عليه: “نحن في هذه المأساة معًا”. لطيف، وإن كانت “معًا” هذه تشوبها الكثير من الشوائب في زمن التباعد الاجتماعي إلا أن بعض الوهم حلوٌ ومستحسن. بجوار مدرسةٍ ثانوية، خُط على الرصيف “لا تفعلها!” بجوار رسم مشنقة. آسى على كاتبها، والمقصود بها على حدٍ سواء، فما يزال الوقت مبكرًا على ذلك. أتمنى لو كان معي قلم لأكتب: “افعلها، ولكن انتظر قليلًا بعد، تجرّع الحياة من ينبوعها، استشعر كل شعورٍ يمكن أن تحس به في هذا العالم، اعرف أكبر قدرٍ ممكن عن الآخر، كل آخر، ثم افعلها”. بالقرب من المنزل، يقول لي الرصيف: “ما نحن سوى غبارٍ نجمي”. فأضحك، أضحك من كل قلبي، لأن شخصًا ما يظنُّ بأننا نمت للنجوم بصِلة.
—
مستلقيةً على السرير، ألقي التحيّة على ملصقي الجدار الجديدين والظاهر فيهما بوكوفسكي بحلّته المعتادة حاملًا عبوةً من البيرة في يده، وراسمًا ابتسامة ساخرة على شفتيه. كُتِب على الملصق الأول: “التذوّق المبكر للموت ليس بالضرورة شيئًا سيئًا”، في حين كُتب على الثاني: “القسوة الكامنة في حبٍ مجرّدٍ من الحب”. يرتفع صوت الاسعاف العابر مدويًا. أقول: أسمعت يا بوكوفسكي؟ كل شيءٍ على ما يرام. فلنخلد إلى النوم.
عدد المشاهدات : 2098
شارك مع أصدقائك
4 Comments
Pingback: فرزت نسخة العيد،متفرقات 27:لديك بريد، العصافير الساخرة
Pingback: وهل التدوين إلا استمتاع بالمخاوف والآمال؟ - مدونة م.طارق الموصللي