أرفض الحدود والرقابة والخوف

أرفض الحدود والرقابة والخوف

منى محمد

بداية:

“هل حلمت بحياتي أم كانت حقيقة؟”.

 

في ملحمة (جلجامش)، أقدم نصّ ملحمي في العالم، تتبدّى الأحلام كرؤى شفافة فيها خلاص الأفراد، وخلاص العالم، وحفظ بذرة الحياة. والارتماء في نوم عميق بلا حلم فيه فقدان أمل الباحث عن سرّ الخلود في الحياة. في البدء يكون جلجامش  ملكٌ ثلثاه إله وثلثه بشر، طاغية ببأس شديد، وغرور صبياني تقول عنه الملحمة:

“كثور وحشيّ يرفع رأسه عاليًا

بأسُ سلاحه بلا شبيه،

وعلى صوت الطبل يوقظ رعيته

ثار أهل أوروك في بيوتهم:

لا يترك جلجامش ابنًا لأبيه

ماضٍ في مظالمه ليل نهار…

لا يترك جلجامش بِكرًا لأمّها

ولا ابنة لمحارب، أو صفيّة لنبيل”.

فتسمع الآلهة شكوى أهالي أوروك، وتقرر خلق ندٍّ لجلجامش يحدّ من طغيانه وجنونه. ومن قبضة طين ترميها الإلهة آرورو يُخلق ندّ جلجامش (إنكيدو) كذئب في البراري، بلا أسرة ولا رفاق من الإنس، يكسو الشعر جسده، يرعى الكلأ مع الغزلان، يرد الماء مع الحيوان، حُرًّا من كلّ شيء، إلا من مصيره المكتوب له… ولجذب إنكيدو إلى عالم أوروك البشري وعالم جلجامش الملك الوحشي يُبعث إليه بكاهنة حُب تنتظره عند الماء: “دعها تنضو ثيابها، وتكشف مفاتنها. فإنّه لمقاربها إذا رآها، فتنكرهُ طرائد الفلاة التي شبّت معه”

وبواسطة الحُب والكاهنة، يصير الوحش إنسانًا “علّمَتْ الرجلَ الوحش وظيفة المرأة، وها هو واقع في حبّها” فيأتي الحلم/النبوءة على لسان الكاهنة، نبوءةً شفافة ترويها الملحمة مرتين، مرةً لإنكيدو، ومرةً في رؤى جلجامش، بالكلمات ذاتها:

“سأجمعك بجلجامش… امض إلى أوروك المنيعة يا إنكيدو حيث يزهو الناس دومًا بحلل الأعياد، … قبل أن تصل من براريك المترامية، في أحلامه بأوروك سيراك جلجامش…

لم يُكذّب جلجامش خبرًا، تنبّه من نومه يقصّ على أمّه حلمه: أمّاه، رأيتُ في ليلتي البارحة حلمًا، كانت السماء حاشدة بالنجوم وكشهاب آنو الثاقب، واحد منها انقضّ عليّ رُمتُ رفعه، فثقل عليّ. حاولتُ إبعاده، فصعب عليّ. تحلّق حوله أهل أوروك، تجمهر الناس حوله، تدافع الجمع إليه، أحاط الرجال به، وبينما رفاقي يقبّلون قدميه، مِلتُ عليه كما أميلُ على امرأة. وضعته عند قدميك، فجعلته بنفسكِ لي ندًّا”

وتفسّر الأم الحكيمة الحلم/النبوءة:

“نجمُ السماء هذا نظير لك، إن الذي انقضّ عليك كشهاب آنو الثاقب، والذي رُمتَ رفعه فثقل عليك، والذي حاولتَ إبعاده فصعب عليك… هو رفيق عتيّ، يعين الصديق عند الضيق، أقوى من في الفلاة، ذو بأس عظيم، متين العزم كشهاب آنو الثاقب… لن يتخلى عنك قط، هذا هو معنى حلمك”.

فتحَ جلجامش فمه لأمّه قائلًا: فليبتسم لي حظ عميق، فأحظى برفيق”.

وبهذا الحلم/النبوءة، وبتأويله من أمّ جلجامش، يتحدّد مصير الملك مع إنكيدو، فبدلًا من أن ينتهي عراكهما الأول أمام المعبد بجريمة من جلجامش الطاغية، ينتهي العراك بهزيمة إنكيدو ومصافحة جلجامش، واصطفائه له كأخ وناصح وصديق. يغيّره ويُلين بأسه ويرخي قبضته عن شعبه: “فتح جلجامش فمه قائلًا لأنكيدو: … هيَّا نمسح الشرّ كلّه عن وجه الأرض” وبالفعل يشكّلان قوة ضارية، يقتلان وحش البراري الرهيب، ويحاربان معًا شرور الآلهة، حتى يقتلان ثور السماء. فتقرر الآلهة موت أحد البطلين عقوبةً لهما، ويموت إنكيدو بعد حمّى أصابته لأيام. وكان قد عرف مصيره الحزين بواسطة الرؤى أيضا، حلم بنهايته قبل أن تحلّ: “اسمع يا صديقي حلم البارحة الذي رأيت، لقد عقد آنو وإنليل وشمش السماوي مجلسًا، فقال آنو لأنليل…: واحد منهما يجب أن يموت… فقال إنليل: سيموت إنكيدو، أما جلجامش فلن يموت”

وينطلق جلجامش بعد حداده على أنكيدو في رحلته الملحمية الطويلة غاضبًا بائسًا باحثًا عن سر الموت، وعن حقيقة الحياة، وعن أمل الخلود.

يحلم أيضا، يحلم في حزنه بأسود منتشية بالحياة، جلجامش المسكون بهاجس الموت، يحلم بانتشاء الأقوياء بقوتهم وحين يستيقظ ينبّه الأسود من زهوها بالحياة بطعنات تذيقها الموت. والموت نوم بلا حلم. وحين قال الإله شمش لجلجامش عن الخلود: “إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها” يسأله جلجامش مستنكرًا أن تنتهي حياته بهذا النوم الطويل: “أبعد جري البراري وتطوافي أُسنِدُ رأسي في باطن الثرى. أنام السنين الآتية؟”

بعد رحلة مهولة عبر الجبال التي تحرس الشمس وبحر الموت الذي خلفها، يلتقي أخيرًا بالحكيم الخالد ويقصّ عليه الحكيم كيف أنقذ بذرة الحياة من الطوفان بصنع السفينة التي أوحت له بصنعها الآلهة في المنام، في الحلم أيضا، فالحلم حافظ بذرة الحياة. وقبل أن يهبه الحكيم سرّ الخلود، يُخضعه لاختبار أوليّ: “لتمتنع عن النوم ستة أيام وسبع ليالٍ” لكن جلجامش يفشل: “انظري الرجل القويّ، الباحث عن الحياة. لقد داهمه النوم مثل عاصفة مطرية” ففشل جلجامش في الاختبار، نام سبعة أيام لا يتخللها حلم، وبالحلم يُدرَك طول المنام، ولذا ظنّ جلجامش أن نومته الطويلة لم تكن إلا هنيهة، لأنها بلا أحلام، بلا بذرة الحياة.

ومن تفاصيل هذه الملحمة، يبدو أن (الحلم) أقدم شكل سردي عرفه الإنسان، تختلقه هواجسه ويقصّه لسانه، ويتأولّ به واقعه، وتتحقق نبوءاته.

ومن (جلجامش) إلى عصرنا، إلى غاليانو الحالم دائمًا بعالم أفضل، والذي يغارُ من أحلام زوجته (هيلينا): ” أحلامي بصورة عامة تكون عادية ومتواضعة بحيث لا يمكن البوح بها، تأخر عن رحلات طيران، معاملات بيروقراطية، مدن لا أعرفها، سقوط من طابق عاشر… أما زوجتي هيلينا فلها أحلام عجيبة ومُذلة بالنسبة إليّ. موعد تناول الفطور محزن جدًا لأنها تروي لي أحلامها المناقضة تمامًا لأحلامي، حيث أتشاجر بكآبة مع موظف لأنني لا أفهم ما يقوله، أو أتخلف بكل بساطة عن موعد الطائرة. فتعلق هي: آه، تخلّفتَ عن الطائرة … أنا رأيت حلمًا عن مطار، حلمتُ أننا كنا كلانا معًا نقف في صف طويل، طويل جدًا، وكل مسافر يحمل وسادة تحت إبطه، تمرر الوسائد عبر آلة تقرأ أحلام الليلة الماضية، أي أن كل وسادة تتضمن الأحلام والآلة تكشف عن الأحلام الخطيرة. وتقول لي بكل تواضع: أظن أن لذلك الأمر علاقة بعدم الأمان العام”.

ما عاد إنسان عصرنا يحلمُ بنبوءات النجاة، وبذرة الحياة. صارت الحدود والرقابة والخوف لصوص أيامنا وسيناريست أحلامنا، وغاليانو الذي يكره الحدود والرقابة والخوف ويحلم في يقظته بزوالها، يحلم في مناماته باجتيازها، يقول: “رأيت ذات مرة حلمًا جيدًا، وهو الحلم الذي أفسح المجال لظهور کتاب (مرايا) كنت أصعد إلى سيارة أجرة في الحلم وآمر السائق: أوصلني إلى الثورة الفرنسية، خذني إلى حيث أولمبيا غوغس وهي في طريقها إلى المقصلة.

انطلق السائق دون أي تعليق، كنت أريد رؤية أولمبيا في لحظة صعودها إلى المقصلة وقولها جملة بديعة جدًا، أريد السماع والرؤية، رؤيتها كيف تقول: إذا كان بإمكاننا نحن النساء أن نصعد إلى منصة الإعدام فلماذا لا يمكن لنا الصعود إلى المنابر؟

ثمّ أمرت سائق التاكسي: خذني الآن إلى البرازيل، إلى كونغونهاس دو کامبو. أريد رؤية أليجادينو وهو يبصق نبوءاته. وإلى هنالك توجه بي، وأقول على الهامش، تصوّروا كم هي مفارقة جميلة، فأليجادينو، أقبح رجل في البرازيل، أبدع أعظم جمال، الفن الكولونيالي الأمريكي، الرجل القبيح أبدع أسمى جمال. وعندئذ صرت أريد معرفة كل ذلك، ولكن برؤيته على هذا النحو، حضورًا. كان سائق التاكسي ينصاع لتعليماتي، فكنت في الحلم أجوب دروب العالم، بلا أية حدود، لا حدود الخرائط ولا حدود الزمن. ومن هنالك انبثقت فكرة الكتاب، لأنني حلمت به.”

يتصور (غاليانو) الأحلام تحتشدُ أمام ساعات نوم (هيلينا)، ولكل حلم قضية أو نبوءة يودّ إيصالها: “في تلك الليلة تمنت سلسلة من الأحلامِ أن يُحلمَ بها، لكن لم يكن من الممكن بالنسبة إلى هيلينا أن تحلم بها كلها. أحدها، وهو حلم لم تتعرف عليه، ألحّ بقضيته: احلميني، سأكون جديرًا ببرهتك، احلميني سوف تحبيني” ويتصور أيضا أرض الأحلام كعالم عجائبي كل شيء فيه مستمد من الواقع، وكل شيء فيه لا يشبه الواقع “كان هُناك بشرٌ يبيعون الأحلام، أحدهم أراد أن يبيع حلم سفر بحلم حُب، وعرضَ آخر حلمًا لكي يجعلك تضحك مقابل حلم يُسبب لك بكاءً جيّدًا. رجل واحد تجوّل بحثًا عن قطع حلمه الذي حطمهُ شخصٌ ما وقف في طريقه. كان يلتقط القطع ويرتبها مع بعضها بعضًا ليصنع راية مُتعددة الألوان. سقّاء الحلم الفتى يُحضر الماء لأولئك الذين يعطشون وهم نائمون، يحملُ الماء على ظهره في إناء فخّاري ويوزعهُ في كؤوس طويلة. كانت هُناك امرأة في برج ترتدي صدرية بيضاء وتمشّطُ ضفائرها التي تتدلّى إلى قدميها. المشطُ يسفحُ أحلامًا مليئة بجميع مواصفاتها، كانت الأحلام تطيرُ من شعرها إلى الجوّ”

والحلم الذي يحتلُّ في كتابات (غاليانو) مكانة خاصة، يحتلّ مكانًا أكبر عند (بورخيس) فهو تقنيته الأبرز في السرد القصصيّ، وفي الشعر أيضا. الشعر رؤيا ورؤية. يقول (بورخيس): “الكتابة ليست إلا حلم موجّه” أشهر أحلام (بورخيس) ذلك الحلم المكتوب في قصّته المعنونة بـ(الآخر) والآخر في القصّة هو بورخيس نفسه، لكن في عمر آخر. يحلم بورخيس الكهل بأنه يلتقي بورخيس الشاب، يلتقي شخص واحد بنفسه في زمنين مختلفين، يجلسان إلى طاولة واحدة ويتحدثان… يتحدث الكهل للشاب الذي كان هو عن مستقبله، عن موت أبيه وجدته، صحّة أمه، نجاحات كتبه، أحداث السياسة… ويتحدث الشاب للكهل بحماسته القديمة، وحيرته المتقدة، ويحكي عن أبيه الذي لم يمت بعد ومازال ساخرًا ومتهكمًا… يتأمل الكهل الشاب ويقول في ذاته: إن نصف قرن لا ينقضي عبثًا، لقد أدركتُ من خلال نقاشنا عن الناس والقراءات المتنوعة وأذواقنا المختلفة أننا غير قادرين على فهم بعضنا بعضًا. فقد كُنّا متشابهين جدًا ومختلفين جدًا. لم نتمكن من خداع بعضنا”  فالحياة، أو دوافع الحياة سلسلة طويلة من الأحلام المتوقّدة كنوافذ بيت مُضاءة في كل مساء، كل تقدّم في العمر فيه انطفاءة لنافذة جديدة، وربما إشعال ضوء نافذة أخرى… ولعل ما عسّر من مهمة التفاهم بين بورخيس الكهل وذاته الشابّة في هذا الحلم، هو إيمان الثاني بأحلامه، ويقين الأول بانطفاءاتها…

والشعر عند بورخيس حلم آخر، إذ يقول في قصيدته (فنّ الشعر):

“أن نشعر أن اليقظة هي نومٌ آخر

يحلمُ بأنّه ليس بنائم

وأنّ الموت -الذي ترهبهُ أجسادنا- هو نفسه الموت الذي يعتادنا كل ليلة، ونسميه نومًا… ذلك هو الشعر”.

لكن الحياة كحلم، والأحلام التي يتوسل بها الأدباء كتقنية كتابيّة في الشعر والنثر تُكتب بالوعي، أمّا أحلام الأدباء التي أكتب عنها هُنا فهي أحلام لم يبتدعوها بوعيهم، بل سبقهم اللاوعي وكتبها لهم أولًا.  ماركيز يُصرّح في مقدمة كتابه (اثنتا عشرة قصة مهاجرة) أنّه من خلال الحلم وحده أدرك معنى الموت الكبير في ميتته الصغيرة التي حلم فيها أنّه يحضر مأتمه بالذات، ويقف على قدميه ماشيًا بين الأصدقاء الذين يرتدون ملابس الحداد الأنيقة وقد حضروا لتوديعه وهو سعيد بلقائهم. وبعد انتهاء المراسم حاول مرافقتهم فقال لهم أحدهم: “أنتَ الوحيد الذي لا يستطيع الانصراف من هُنا” يُعلّق (ماركيز): “عندئذٍ فقط أدركتُ حقيقة أن الموت يعني عدم اللقاء مع الأصدقاء إلى الأبد”.

في الكتاب قصّة شاعريّة عن امرأة تبيع الأحلام والنبوءات وقد بدأت عملها أولًا عند أسرة صغيرة “كان التزامها الوحيد هو الكشف عن القدر اليوميّ للأسرة من خلال الأحلام، وقد قامت بهذا العمل على خير وجه لزمنٍ طويل، وخاصةً في سنوات الحرب حين كان الواقع أشدّ شؤمًا من الكوابيس” في القصّة تلتقي بائعة الأحلام بنيرودا وزوجته على متن سفينة، لا يبدي نيرودا أي اهتمام بالمرأة التي تبيع الأحلام، إذ يعلن: الشعر وحده هو البصيرة. وحين يأوي إلى قيلولته اليوميّة يحلمُ بها، يقول: لقد حلمتُ بتلك المرأة التي تحلم. وقد أرادت زوجته أن يروي لها الحلم فقال: حلمتُ بأنّها كانت تحلم بي.

يُعلّق ماركيز بسخرية: هذا لبورخيس.  فيسأله نيرودا بخيبة أمل: هل كتبه؟

يجيب ماركيز: إذا كان لم يكتبه بعد فسوف يكتبه يومًا. وستكون واحدة من متاهاته.

يمضي نيرودا في طريق سفره دون لقاء ببائعة الأحلام، ويجد ماركيز وأصدقاؤه المرأة مستيقظة للتو من قيلولتها، وهي تقول: لقد حلمتُ بالشاعر، حلمتُ بأنّه يحلم بي.

ولعلّ حلمها هذا نبوءة خلودها في الحكاية التي يختمها ماركيز بحوار بين الراوي والسفير البرتغالي الذي يصفها له بحماسة شديدة: لا يُمكنك تصوّر كم كانت استثنائيّة. ولو أنّك عرفتها لما كان بإمكانك مقاومة إغراء كتابة قصّة عنها…

– ما الذي كانت تفعله بالضبط؟

– لا شيء، كانت تحلم”

 

بعيدًا عن النصف الآخر من العالم، وقريبًا من مناماتنا الحديثة، في كتاب (غادة السمان بلا أجنحة) حوارية بديعة بين غادة وغالي شكري، يوجّه لها أسئلة عن الطفولة والأحلام والصبا ولذة الاكتشافات والشعر والكتابة والحرب والواقع… وتجيب إجابات طويلة تنزل فيها عبر آبار الذاكرة. تقول غادة: “أعتقدُ أن الحلم هو الجزء المغمور من الجليد الطافي. لا أعتقدُ أن هنالك أي عمل أدبي أو سياسي خارق إلا وخلفه شخص حالم، ولكن (حالم يعمل)”

أمّا أبرز أحلامها فقد كان حلمًا مُجنّحًا ترويه في كتاب (بلا أجنحة) وتقول: “هنالك حلم يلاحقني منذ الطفولة، إنّه حلم الطيران. كنتُ باستمرار أحلم أنّي أطير فوق بيتنا بساحة النجمة، ثمّ فوق حديقة السبكي، وبدلًا من أن أتّجه يمينًا إلى مدرستي بالجسر الأبيض، كنتُ أطير يسارًا نحو جبل قاسيون وأُحلّق وأنا أحرّك ذراعيّ كما تحرك الطيور أجنحتها… كنتُ أحيانًا أستيقظ نصف يقظة من الحلم ولكنني أظلّ أتابعه إراديًّا وكنتُ أستيقظ منهُ سعيدة ومنتعشة”

إنّ حلم الطيران يعبّر عن حلم الانعتاق المشترك بين البشر جميعًا، وقد كانت القيود في طفولة غادة صغيرة وغضّة، تتمثّل في المدرسة التي تحوّل غادة جناحيها بعيدًا عنها إلى ذُرى قاسيون. لكنّ القيود تكبر مع الإنسان وتتعلّق بذيول أحلام الطيران “بعد كوارث صيف 1966 توقف ذلك الحلم فترة طويلة، وقد افتقدته وسجلتُ بأسي في مذكراتي أنني لم أعد أحلم بالطيران، ثمّ عاد الحلم فجأة وقد تبدّل… أحلم بأنني أطير لا على علو شاهق وإنما على علو منخفض وأكاد أصطدمُ … وتحتي لا توجد حدائق وإنما أحياء غاصّة بالناس وأنا أراهم وأسمعهم. وأحيانًا أطيرُ على علو منخفض لأحرّضهم على أن يطيروا معي وفجأة تأتي ثُلّة من الرجال: جنود، شرطة. يحملون البنادق ويصوّبونها نحوي ويطلقون الرصاص وأطير هاربة وغير خائفة ولكن كئيبة ومنزعجة ومُرهقة…”  وتهبط غادة من سماء الحلم إلى دهاليز الواقع، فيطاردها حلم جديد في شبابها “استولى عليّ حلم يتكرر، هو حلم البحث عن بيت المسكن، والضياع بين عشرات الدهاليز المتشابهة والمصاعد التي تفتح أبوابها على الفراغ، وحتى اليوم ما زال هذا النوع من الأحلام يُطاردني. وفي الفترة التي كانت عودتي فيها إلى سوريا تعني السجن شاهدتُ كمية لا بأس بها من أحلام العودة لبيتي في دمشق بساحة النجمة حيث أجد والدي ينتظرني ثمّ فجأة يسوقونني إلى منتصف الساحة لإعدامي…”

تقول غادة عن التداخل بين الأحلام والإبداع إنها ظلّت تفكر في حقيقة العدالة فترة، وفي العالم القاحل الذي يبدو فيه البشر كدمى يتم تسييرها، وانعكس ذلك في أحلامها، تقول: “صرتُ أحلم بأنني أسيرُ في صحراء قاحلة وأرى شبح إنسان بعيد وأركض إليه وأركض ثمّ أكتشف حينما أضمّه أنه (فزّاع طيور) وأنني أهربُ باكيةً ثمّ أعود إليه لأنّه لا أحد سوانا في الكرة الأرضية”

وعن التداخل بين الحلم والكابوس، والواقع البشع والأمل البعيد، بقي حلم واحد في ذهن غادة بلا تفسير “أحلمُ بأنني أدخل إلى سجن تحوّل إلى مطعم، وأنا من الذين شاركوا لتحويله من معتقل إلى مكان عام… وبصفتي جرسونة في المكان ألحظُ برعب أنني أسكبُ الطعام للناس من ملعقة طرفها الآخر رفش لحفر القبور. وألحظ أن الناس يأكلون بصمت وكآبة وللجرسون وجه سجّان والنوافذ تضيق”

وكأن هذا الحلم – الذي تقول غادة إنها لا تجد تفسيرًا له في حياتها الواعية- يُشيرُ إلى الوعي الذي ينمو في ظل القيود، والثقافة المتوائمة مع أنظمة الاستبداد حين تجد صيغة للتعايش تحت سقوفها القصيرة، إذ يتحول السجن إلى مكان عام واعتيادي، والناس يعيشون فيه ويمارسون حياتهم بصورة شبه طبيعية أيضا لا كمساجين، يأكلون من ملاعق طرفها الآخر يهددهم بالموت (رفش حفر القبور) وكأنّهم إن خرجوا عن المتوقع منهم (الأكل بصمت وكآبة) سيواجهون مصيرًا آخر…

أشهر كتب الأحلام في الأدب العربيّ المعاصر، هي منامات نجيب محفوظ المعنونة بـ(أحلام فترة النقاهة) وفي هذه الأحلام التي كتبها في أواخر حياته، يبرزُ وجه الرقيب في كل حلم، يُطارد الكاتب في يقظته ومنامه. هو الذي تعرّض في حياته للتلصص والتجسس وأُحيل إلى التحقيق أيضا بعد صدور روايته (القاهرة الجديدة) وقال له المحقق: “لماذا تكتب عن فضائح الباشوات وتعرّض نفسك للمشاكل؟ اكتب عن الحُبّ أفضل وأكثر أمانًا”

في نقاهته يحلمُ بهذه المطاردات والمساءلات: “رأيتني في المحكمة مع بعض الزملاء وقلتُ للقاضي إنني مختصّ بالتقييم الفنّي ولا شأنَ لي بالرقابة وقال لي مدير الرقابة إنّه وحده المسؤول عن الرقابة ولا علاقة له بالجانب الفنّي. وبعد المرافعات أوصى القاضي بأن تُمثَّل الرقابة في جميع اللجان الفنيّة كي لا تُصدِر الوزارة قرارات متناقضة مثيرة للسخريّة”

ويرى السلطة والرقابة والخوف بشكل رمزي في حلم آخر: “رأيتني في قسم الشرطة نائبًا عن سكّان شارعنا وقلتُ للمأمور أن يُخصّص لشارعنا جنديًّا في الليل لكثرة اللصوص، فقال لي إنه سبق أن فعلَ ذلك في شارع آخر وقتله اللصوص في ظلمة الليل. فقلتُ له: اسمح لنا بأن نتسلّح دفاعًا عن أنفسنا، فقال: في تلك الحال ستكونون أشدّ خطورة علينا من اللصوص. فسألته: بمَ تنصحنا؟ فقال: بإغلاق النوافذ والأبواب وإنارة المصابيح الخارجيّة.”

وبعيدًا عن الأدب، قريبًا من الأحلام والواقع. كنتُ أُقلّب يومًا في القنوات أرقب نزيف أحلام العالم المتدفق من الأشرطة الإخبارية، فوقفتُ أمام ختام برنامج (المشهد) وقد كانت جيزيل خوري تحاور رائد الفضاء السوري اللواء محمد فارس الذي وصل إلى خارج حدود هذه الكرة الأرضية التي يستبيحها الطغاة، ولكنه حين عاد إليها لم يذهب مرة أخرى بأمر طاغية، فقد تداخل في حوار عام وصحّح معلومة لحافظ الأسد، ونتيجةً لهذا جاء أمر شخصي من الأسد بإقصائه، في وقت كان يتوقع فيه الجميع إصدار قرار يقضي بترقيته من رتبة مقدم الى رتبة عقيد أو مكافئته، لكن الذي حدث أنّه استمر في تلك الفترة بدون أي عمل أو وظيفة لمدة تتجاوز الـ 9 سنوات.

تقدّم جيزيل للحوار بقولها: “لولا خبر انشقاقه لما تذكره أحد” ويتحدث رائد الفضاء لها عن أهوال الأرض، قصة انشقاقه عن النظام السوري، وحلب المنكوبة، وأهوال النظام والفصائل المتقاتلة، وقصة هروبه من سوريا في سيارة تروغ من القصف…

في نهاية (المشهد) تسأله جيزيل عن أحلامه: عندما تحلم هل تحلم بمشهد في الفضاء أم على الأرض؟

يجيب: سابقًا كنتُ أحلم بالفضاء، حاليًا أحلامي في المنام وأحلامي في اليقظة (كيف ننقذ البلد هايّ، ما عِدتْ بحلم بالفضاء للأسف…)

 

ختام:

“الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا”.

عدد المشاهدات : 2333

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.