إنّني أعوي يا إخوتي البائسين
عبدالعزيز البرتاوي

موت مستمر. موت مستتر. موت ظاهر. موت ساكن. موت بشع. موت وقح. موت هاديء. موت صاخب. موت يأتي بغتة. موت يأتي فجأة. موت يأتي بألف موعد. موت يأتي بترصد وترقب وإصرار. موت بالجملة: عائلة كاملة تُمحى أمام وهج الكاميرا. موت بالمفرد: طفل يحتضن خبزه، ويتحمّص تحت لهيب متفجرة عابرة.
موت منهمر مثل مطر غزيرٍ؛ منذ عام ونيّف. يا للغة، كيف تختصر بشاعة كهذه في محض جمل بليدة. أي بشاعة يمكنك تخيلها، لموت إنسان، قتله، جرحه، سحبه، سحله، حرقه، التنكيل به، يمكنك مشاهدتها على الهواء مباشرةً، في ظل كرنفال غربي كبير ومثير: الموت لكل من يجرؤ على قول لا؛ لإمبراطورية القمامة الغربية.
إن أبشع تخيل للتناقض المعرفي والفكري، لم يكن يصل إلى أن نبصر مثل هذا الجنون الإباديّ، من قبل قادة ومفكرين وعباقرة قمامييّن طالما تباكوا على فتاتين في أطراف كابول، منعهم والد فقير من الذهاب إلى مدرسة غبية؛ ثم هاهم يتمشون بربطات عنقٍ براقةٍ؛ لا مبالين بكل هذا القتلِ، ولو كان ثمة عالَمٌ حقٌ؛ لاستحالت تلك الربطات مشانق.
توحشٌ يبدي أنيابه بلا خجل ولا وجل. القذر ابن القذرة: جوردان بيترسون، كتب كتابًا هرائيًا؛ تُرجم إلى كل لغات العالم؛ تحت عنوان: “١٢ عشر قاعدة للحياة”؛ ثم هو نفسه كتب في الثامن من أكتوبر: “اقتلوهم جميعا، أبيدو غزة. يكفي يكفي يكفي”، كان الذئب يواري لمعان أسنانه القاتلة، خلف بريق ابتسامة فصيحة وزائفة؛ وحان الآن موعد تكشيرة الذبح، والخروج من لزوجة الكلمات، إلى دبق الدمّ.
إنني غاضب لأنني أحاول أن لا استخدم مفردة “أنا”. إنني عادة لا أحب أن أدخل في كتابتي. أحب أن أتمشى على أطراف الكلمات، وأخاتل الجمل من بعيد، لكن الدم يصل إلى ركب الروح، يدمينا، يصبغ كل شيء، ويصبح التفكير في أسلوب الكتابة، أو طريقتها عهرًا غير أدبي ولا بلاغي. حين يصبح الموت بليغًا إلى هذا الحدّ، يصبح العيّ أسلوبًا كتابيًا، والعواء طريقًا لإظهار الأفكار الحزينة. إنني لا أكتب. إنني أعوي يا أخوتي البائسين. ذئاب هذا العالم تنهشنا، ولا من مجيب ولا رقيب.
هذا العالم الفاجر الذي أشبعنا ضربًا ولطمًا طيلة السنين التي واكبت مسرحيات الإرهاب؛ يكشف اليوم عن إرهاب لا مثيل له. يكشف عنه بوقاحة وسفور. كل قتل إلى غيرهم؛ ولو كان لأطفال أو عجائز؛ صيرورة يومية لحفظ هذا الكوكب الغربي المجيد. وربع نقد أو شتيمة توجه إليهم، ولو عبر ازدراء للون بنطال عاهر أو عاهرة متحولة؛ هي محض إرهاب وعداء وخرق لكل القوانين.
لقد تم تكبيلنا جميعًا. يجب أن نعترف بذلك. نحن محض سجناء ولو كنا طليقين للذهاب نحو مقهى أو العودة نحو بيت. لقد أصبح سجن أبو غريب، مألوفًا، وانتفت الغرابة. كلنا سجناء، وهم محض جلادين مرضى، خارجين من مصحات الغرب الملطخ بالسكر والعربدة والكوكايين والشذوذ والإجرام. هذا زمن “عواء غينسبيرغ”، ولا من فلاة تكفي للهربِ، ولا قمرٍ يبزغ للتحديق.
أفتح هاتفي -عين الهاتف الذي يتجسسون علينا منه، وقد يعنّ لصهيونيّ في لحظة ملل، تفجيره في أي لحظة- لأحصي قتلى الساعة المنصرمة. قوائم شهداء لا تتوقف. شهداء كل لحظة. شهداء عجزنا، شهداء ضعفنا. شهداء موتنا البطيء، كيف نتناول فنجان قهوة، ونحن نقرأ: عاجل: ١٥٠ شهيدًا في مجزرة قبل قليل. سيدي ناولني الحساب، وبرجاء التأكد من أرقام الفاتورة؛ بينما أُحصي قتلى النشرة.
أعترف لكم حزينًا: كنت متفائلًا قبل عام. كنت متأملا أن أزور غزة عما قريب، وأرى فيها مصارع الذين بغوا. لكنني الآن محبط وحزين وقاسٍ وبائس. لقد خرّب العجز كل صباحاتي. كيف تدلف كل يوم إلى المقهى، محض نكرة، تتناول قهوتك وتحصي أرقام الذين رحلوا، أو لا زالوا يرحلون، بينما يكلمك أحمق ما، عن اجتماع يخص “جودة الحياة”.
يا أخوتي الطيبين؛ احذروا أن تفرطوا في هذا الغضب. احذروا أن تتراخى نياط قلوبكم عن كل هذا الحقد المرّ. إن كان من إيجابية الآن، في عالم سلبيّ مريض ومسلوب الكرامة؛ هو أن نعرف كيف نربي أحقادنا -المصحح اللعين، يقترح: كيف نربي أحفادنا-. جيد، سوف نربيهم على الحقد. على الحقد المرير العارم، على الغضب الفجّ السافر، على كل ما هو صهيوني غربي أبيض فاجر، على كل ما يتبع، ومن يتبع لهم. على قيء أفكارهم، وخراء حضارتهم، على نشاز أغنياتهم وقبح حفلاتهم. على دموية أحقادهم وسفالة خطاباتهم، غضبًا متقدًا إلى أن يصبح الحشرة الإسرائيليّ، ممحوًا ومنفيًا ومبادًا في كل مرصد ومرقد، هولوكوستًا ممتدًا من أول مصرف ربويّ، وإلى آخر شجرة غرقد.
في مقهى في أثينا. في متحف كئيب في الأرجنتين، في مرقص رخيص في بانوك -حتى وأنت تتعتع سكرًا؛ يجب أن تكون أصيلًا وابن ناس-. في مجمع حافلات قذر في المغرب -لأن سوى الروم خلف ظهرك روم-. في طريق عام في تكساس -يملؤه روث اليهود أكثر مما تملؤه خيول الكابوي-. في حديقة عامة في بودابست -حيث أُبيد أجدادهم-. في كل مكان وزمان: هذا ثأرنا الممتد، منكر عجزنا الأبدي الذي يجب تغييره؛ إن استطعت وكنت حرًا، بيدك الأبية، أو ببصقة بالوجه والفم واللسان والقلب، ولا يجزيء أقل من ذلك.
يجب أن تكون حكايا رفضهم وطردهم في كل مكان؛ تسبيح أيامنا وصلوات ليالينا، لأنه ليس من خيار غير ذلك، لأنه قدر كذلك: “ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا من غضب من الله ولهم عذاب أليم”. لأننا لا نريد أن نكون كذلك.
ثمّ هذا عيٌّ عابر، إلى أفصح من أنجبته شوارع واشنطن، منذ أربعين عامًا على الأقل: الحرّ ابن الحرّة، إلياس رودريغيز، أبيًا عليًا، صانع تاريخ حقيقيّ، لا مجرد موظف مسخ في مركز دراسات أبله، يفكر في أرقام المصادر ويتعامى عن أرقام المجازر. هذا زمان القتلة؛ وإن لم تحتط، تضع مسدسك على الطاولة وتقترح وتكتب وتناقش -على طريقة جده المكسيكي- ترصع بأكناف وتوطأ بمنسم ودبابة وحاملة طيران وموت. “وللحرية الحمراء بابٌ؛ بكل يدٍ مضرّجة يدقّ”.
مضى زمن “بالهداوة يا حبيبي بالهداوة”، وجاء زمن بالعداوة يا حبيبي بالعداوة. هذا زمن يشهر فيه العالم كل مُداه؛ أمام لحم وجوهنا. ينهض غاضبًا لجرح طفلين في أوكرانيا، ويكمل حفلته الضاحكة أمام محو ستة عشر ألف طفل في غزة بكل ما ينتج من صواريخ وسكاكين ورصاص وقنابل وجيوش وشذاذ وقتلة.
هذا زمن المرارة آت. هذا زمن المرارة حلّ؛ وما من حلّ. إن لم يسعكَ السكوت؛ وسعتك الزنزانة. وإن لم تكتف بالدموع؛ لم تكفهم دماك. فاشرب، واشرب، واشرب، هذا زمن الغصص اللائي لا تستساغ.
عدد المشاهدات : 134
شارك مع أصدقائك
أكتب تعليقاً