احذروا كلّ شيء

احذروا كلّ شيء

عبدالعزيز البرتاوي

احذروا أن تروا كُحل عينيها صباحًا، فيصبح كل اليوم، ذكرى عينيها. احذروا أن تسرحوا في دعج عينيها ليلًا، فيصبح كل النوم حلمًا بعينيها. احذروا أن تروها، واحذروا أكثر أن لا تروها، ما بهجة الحياة؛ لولا عينيها.

احذروا القاريء كل شيء وهو لا يقرأ. الكاتب عن كل شيء وهو لا يكتب. المجرّب كل أمر وهو لا يجرّب. المتباهي بصفحات ما يقرأ كما لو كان في سباق خيل أو حمير. المؤلف بالفطرة، والناشر أعماله الكاملة، وهو لما يواشك العشرين. احذروا المتثاقف، سيد البحث العاجل في مصاف الشبكة ومواقعها عن كل قضية وأمر، ليدلي بجلالة رأيه العاجل قبل انطلاقه لاستلام نوبل للكيمياء. احذروا الوقح، بارد الوجه والروح، يحاضر صباحًا عن الحياء.

احذروا اللايجدون سلطة، فيبحثون عن أول سلطة، ليبرزوا مكامن ضعفهم بالأحقاد والأوعاد، والتذرّع بإطاعة الأوغاد، وسنّ الأنظمة في وجوه العزّل، وشحذ سكاكين القانون في ظهور الضعفاء. احذروا عديم السلطة على نفسه، فيستقوي بسلطة غيره على نفوس الآخرين. احذروا الموظف الحكوميّ، و”راجعنا بكره”، احذروا العسكريّ، وحارس الأمن الجبان.

احذروا الكائنات عديمة الفعل، إلا بلوك الكلمات. الآخذين حظهم من الأهمية بخواء الهراءات وجدل الخصامات البليدة. الفارغ إلا من جهله، يقيم مآس، ويخوض معارك، ويبني قلاعًا من الوهم حول إثبات كروية الأرض من عدمها، ولو فكر في شكل عقله عُشر ذلك، لسكت عنا وأراح الأرض المستطيلة من عناء ركض بيادق جهالاته.

احذروا اللامبالي البليد. يصحو مزاجه برهةً، وقد اكتشف غبار مُضيّ العالم عنه، وتخلِيفه في غيابات ملذّاته البهيمية، فينشئُ معركة، ويخوض حربًا، وتمرّ به الناس كلمى مسرعةً؛ فيحسب أنهم من نير حراب وعيه هاربون.

احذروا المنتفش. سيد الاهتمامات الوافرة. في كل محفل له وجه، وفي كل قضية رأي، وفي كل ناد له صولة. خالق معاركه، ورائي مراياه، يحسب الناس لا تدرك تقلباته ولا تفطن لنفاقه، ولا تشفق على وفرة خزاياه التي يحسبها مزاياه. احذروا عمرو أديب والغذامي. احذروا كل عليم اللسان جهول الروح.

احذروا الحبّ الحقود. القاعد على ركبة ونص. يعدّ لك كل إيماءة، ويحسب عليك كل لفتة، ويرصد لك كل مقعد. احذروا الحبّ حين يستحيل مكتب تحقيقات فيدرالي. واحذروه أكثر حين يوشّي كل تلك القضايا بالدموع والآهات وفرط الاهتمام.

احذروا الكائن السُمّي الكئيب. احذروا مزاجه اللعين، فورات غضبه المتقلّبة، هراءات تنفيساته المتعددة، نصائحه الأوْلى بها روحه السقيمة، ودروس مواعظه الـ تقطر أحقادًا وشماتات. احذروا أكثر أعذاره الآتية لاحقًا، للعق الجراح، وتورية المآسي، لبرودة طبعه ومزاجه آنذاك.

احذروا بغايا الإعلام. النائمين في كل فراش، المضطجعين على كل جنب، وعلى أيّ وضع أراد لهم فحل المرحلة. احذروا تشدقهم بالمعرفة، وتكالبهم على الصورة. احذروا القرب من مهد انحطاطهم، واحذروا الإصغاء لهم. احذروا مواقفهم الآتية، واحذروا الماضية. احذروا سيلان لعابهم لأول شيك، ولزوجة قبلاتهم لأول شيخ.

احذروا الوقوف بصفّ القوي. احذروا الوقوف بوجه الضعيف. احذروا السلطة. احذروا أهلها. السلطة لا تأتِ بخير. احذروا الصحافة الفاجرة، وكيف تزيف ذلك، احذروها كما يقول الكبير مالكوم. احذروا كيف تنقلكم من خنادق الضعفاء، إلى بنادق الأقوياء.

احذروا جنود التفاهة. احذروا الكتب التي تقودكم إلى ذلك. يا لحسرة الأشجار التي قطعت لتكون أوراقها. احذروا المسلسل الذي يسلسلكم بحس الموضة، وبهرجة الداعين إليه، وهتافات المراهقين به. احذروا أن تُقاد خياراتكم بحسب الموجة، وتساق أمزجتكم بعرض التيار. أن تصبح أفئدتكم رهن الإشارة الجمعية، والدهشة القطيعية، وما تقوله الصحيفة السخيفة.

احذروا الكائن الذليل. المسالم لكل أمر. المتقبل لكل صفعة. المتفائل بكل أزمة. المستنير بكل ظلمة. الرائي في كل حفرة عمقًا، وفي كل سجن عزلة. مكيّف كل الخزايا، لتصير مزايا. ومحوّل كل سافل من القضايا، ليصبح محض عطايا. احذروا المرء المطبّ. يدوسه كل أحد، ويحسب أن وقوفهم قبله، هيبةً واحترامًا.

احذروا المرء البوق. البائع بكل سوق. المعطي من طرف لسانه حلاوةً، وكله حقدٌ ومرارة. المتعاظم بذلّته لغيره. المتساخي على غيره ببخله على أهله. احذروا عبد الحكومة. احذروا عبد السلطة. احذروا عبد القوة. احذروا عبد العبودية، واحذروا أيضا عبيد الحريّة.

احذروا المنعطفات الخطرة. واحذروا أكثر تلك التي لا تقلّ خطورة، ولكنها تتوارى في سلاسة الاستقامة. احذروا الشيخ الذي يقطر بشته سحتًا، وتقصر لحيته شبرًا، كلما طال شيك الأمير. احذروا بكاءه اللزج على وهج الشاشة، وضحكته الفاجرة على مائدة الإمارة. احذروا استغفاره من هول مصائب السكارى، ومدّه يد المباركة للخمّار الكبير. احذروا تفجّعه من معاصي الناس في الملهى، وغصة حلقه باللقم في مائدة صاحب الملهى.

احذروا أن تدجّنوا. أن تصيروا دجاجًا، وداجّين. احذروا أن يمسي أحدكم حرًّا، ويصبح عبدًا. أن تسيّره مقالة، وتغير حياته فتوى. احذروا أن ترهق أكفّكم جمرات الوعي، ويحرق أقدامكم لهيب الثبات. أحذروا أن تروا التدجين مع القطيع، قربة، والثبات على الوعي، غربة.

احذروا ميللر. احذروا فانتي. احذروا بوكوفسكي. احذروه أكثر وهو يقول: “احذروا الوعاظ. احذروا العارفين. احذروا أولئك الذين يقرأون الكتب دائمًا. احذروا أولئك الذين إما أنهم يبغضون الفقر، أو أنهم يتباهون به. احذروا أولئك الذين يسارعون إلى المديح، لأنهم بحاجة إلى مديح بمقابله. احذروا أولئك الذين يسارعون إلى أن يكونوا رقباء، لأنهم يخافون ما لا يعرفون. احذروا أولئك الذين يبحثون عن الحشود المنظمة، لأنهم لا شيء لوحدهم. احذروا الرجل العادي، المرأة العادية. احذروا حبّهما، حبّهما عادي، يبحث عن عادي”.

احذروا كل شيء. هذا عالم مسعور. ونحن بائسون يا رفاق. من لم تأكله ذئاب القطيع، تاه في فيافي الوحدة. احذروا كل شئ. احذروا حتى أن تأخذوا بالمحاذير أعلاه. فالحياة أكبر من أن تنصتوا لفارغٍ مثلي. واحذروا دومًا، نفاذ كُحل عينيها، يا لعينيها.

عدد المشاهدات : 8647

 
 

شارك مع أصدقائك

11 Comments