افتحوا الأبواب لتدخل السيدة

افتحوا الأبواب لتدخل السيدة

مدير التحرير

افتحوا الأبواب لتدخل السيدة.

من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب، ينشغل عن المحبوب. الآن أطلب من حزني أن يتجه إلى أقرب بوابة ويغادر، هادئًا كما أشاء، أو هادرًا كما يشاء، لكن دون أن يلفت الأنظار. لا يعجبنى جوعه ولا تلكؤه، أكاد أكرهه تحديدًا لهذا السبب، كأنه حزن لا يثق بنفسه، وكأنه إن اكتفى، اختفى، وكأننا لم نشاركه مقعده ومخدته ومنديله وملمس حذائه على زجاج ساعاتنا.

لست أنت المهم اليوم، ولا أنا أيها الحزن، أنا منشغل بها لا بك أنت. بسعيها العسير للنصر فى مواجهات زمانها، واجهت السرطان خمسة وثلاثين عامًا، ومحدّثوها لا يرون في حديقة لقائها إلا أشجار السرور، وفاكهة السماح والرضا. واجهت السائد المتفق عليه، والطاغية المسكوت عنه، وواجهت، حتى الرمق الأغلى، ركاكة الناطقين باسمنا، وركاكة الضوء المشترى، وركاكة الكلام، وطقوس الهوانم. هي التى جعلت لقلبها يدًا منصفة، تصافح الأضعف، وتصفع جملة الطاغية، وشبه جملته. يدًا تسهر الليالي، لتصحّح الواقع والامتحان.

هي التى جعلت هشاشتها اسمًا آخرَ للصلابة. هي التى علّمت الديكتاتور، كيف ترفض انتباهه المشبوه لقيمتها، وفي سلة مهملات واسعة قرب حذائها الصغير -نمرته خمس وثلاثون-، ترمي المناصب السمينة المعروضة، والألقاب الرفيعة المقترحة، ودعوات الحظيرة/القصر، التى يهرول إليها سواها، مكتفية بفرح القارئ ببرق السطور من يدها، وفرح الطالب ببرق المعرفة من عينيها. هي الأستاذة، صوتها ينادي أصوات طلابها لا آذانهم، لأن صوتها يُسمع ويَسمع. ولأنها لم تسع إلى أيّ ضوء، غدت بذاتها ضوءً فى عتمة البلاد، وضوءً بين أغلفة الكتب، وضوءً من أضواء اللغة العربية التي هي البطل الدائم والأول في رواياتها.

أخرج من أقرب بوابة يائسة أيها الحزن، ودعني أستبدل بك ابتسامتها التى تُذهب حزن الرائي، فابتسامتها رأى. وموضع خطوتها رأى. وعناد قلبها رأى. وعزلتها عن ثقافة السوق رأى، ودائمًا، جعلت رأيها معروفًا موقّعًا بإمضائها، رغم زوار الفجر، وفجور طاغية يروح، وطاغية يجىء. رضوى جمال رأيها، ورأيها جمالها. فالمظلوم يخسر إن لم يكن فى جوهره أجمل من الظالم. وهى لم تخسر جمالها حتى وهم يؤذونها بقبحهم، ولم تخسر جمالها حتى وهى على مخدتها الأخيرة.

سيدة قليلة الجسد، يتعبك تتبع خطاها، تهدم السور الفاصل بين الجامعة وعموم الناس، تظنها على مرتفعها الأكاديمى فتراها على أسفلت الميدان، ذائبة فى تدافع التحرير العظيم ،والكدمات التى توجعها توجع الطاغية قبلها. تظنها فى همس القصيدة وهدأة الإيقاع، فتراها فى صرخة التاريخ الخارج توًا من يد القابلة، وأرحام الشوارع. وتظنها فى شوارع وسط البلد، فتلقاها فى غيوم غرناطة، وتظنها تجلس مع أبي جعفر، تجلّد الكتب بخطوط الذهب، أو تدبر الحيل المذهلة مع مريمة، فتلقاها تأخذ بيدك إلى شاطئ الطنطورة، وتقول لك: ضع قلبك هنا، ودعه هنا، وارسم غدك من هنا، كي تعود إلى هنا، إلى الساحل الأول.

لم يأخذها اليأس إلى وضوحه المغري، لأنها تعلم أن الثورة لا تنتصر، إلا بعد أن تستكمل كل أشكال الخيبة. ولم تمنحنا أملًا كاذبًا، بل دعت نفسها ودعتنا للتحمل. وتحمّلت. وعلى عصا المجاز، وعصا خشب البلوط، واصلت السير فى طريقها الطويل، تختصره بالرفقة. والرفقة جيل أحبّها وأحبّته، جيل قادم بصباياه وشبابه -الحلوين كما تصفهم دائمًا- يصعد جبل السؤال والمساءلة، والبحث عن الحقيقة تحت كومة القش الرسميّ. جيل الفضول العظيم، الذي وحده يزيد العيون اتساعًا، والعمود الفقريّ استقامة. جيل يرى أن الثوابت ما خلقت إلا لكي نرجّها رجًّا، ونهتك منها ما يستحق الهتك، حتى نعرف الفرق العظيم والقاسي، بين الوراء والأمام.

تنشق فى أول العمر عن ثوابت الجدود والنص والتعاليم. تمزق العباءة الموحدة المقترحة لكل أجسادنا، لأنها تحترم الجسد لا العباءة. تنقد بدراساتها المدهشة، كتب الإبداع، وبإبداعها المدهش، تنقد العالم، وتصعد.

أتركوا الأبواب مفتوحة، ليخرج الحزن. ولتدخل السيدة. وقع خطاها خفيف، وأكيد على هذا الدرج. إننى أسمعه يقترب. رضوى عاشور جزء ممّا سيصنعه هذا الجيل فى أيامه الآتية، وهو جزء مما صنعته في أيامه الماضية.

أثقل من رضوى، ما تركتنا له، وما تركته لنا.

رضوى عاشور، تركتنا بعدها لا لنبكي، بل لننتصر.

تركتكم بعدها لا لتبكوا، بل لتنتصروا.

____________________________
* أقامت كلية الآداب بجامعة عين شمس احتفالا لتأبين الكاتبة الكبيرة رضوى عاشور بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاتها، وألقى الشاعر والأديب الفلسطينى مريد البرغوثى، زوج الراحلة، هذه الكلمة.

عدد المشاهدات : 4365

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.