الأب كاتبًا – حنيف قريشي
مدير التحرير
لطالما رغب والدي بأن يكون كاتبًا. ولا أتذكره إلا راغباً في ذلك. قليلة هي الصباحات التي لم أجده فيها منكباً على طاولته، في حوالي السادسة صباحاً مرتدياً لواحدة من بدلاته الكثيرة أو قمصانه الملونة، وأكمامه مزررة بأزرار مرصعة، ليغادر البيت بعد ذلك إلى عمله حاملاً حقيبته . أعتقد أن الكتابة كانت بالنسبة إليه نوعاً من الهوس، وكما كل هوس يبقى بعيداً عن ما يحققه. فإن هذا الهوس أبقى على نقصه ولم يمنعه من مواصلة الطريق. كان عمله في مجال الخدمات المدنية التافهة، وكانت الكتابة تمنحه مطمحاً. تمنحه المعنى و”التوجيه” كما كان يورد. تقوده إلى وطنه، بما أنه يكتب غالباً عن الهند، البلد الذي غادره مع بدايات القرن العشرين والذي لم يعد إليه أبداً.
كان العديد من أصدقاء والدي يعتبرون كتاباته إدعاء يدفع للضحك، رغم نشره لكتابين لليافعين، عن جغرافية باكستان وتاريخها. لكن وجود اسمه مطبوعاً كان مما يحبه والدي – أتذكر العناء الذي تكبده في اشتغاله على الرسوم البيانية لمعدلات تساقط الأمطار، وصناعة الأقمشة – هذه ليست كتاباته الأصيلة. فقد أراد أن يكون روائياً.
قام بكتابة الروايات، واحدةً تلو أخرى، على طاولة صنعها له أحد جيرانه في زاوية غرفة النوم التي يتقاسمها مع أمي. كتب تلك الروايات، أعاد كتابتها، وأعاد كتابتها. ومن ثم قام بنسخها على آلةٍ كاتبة، بنسخ عديدة على عدد من الأوراق بواسطة ورق الكربون. كان يجلس على الأرض ويكتب عندما يؤلمه ظهره، مسنداً عموده الفقري على الخزانة. مهما كانت وضعيته، فإن صوت منبهه لن يفارقني زعيقه صباح كل يوم من أيام العمل، والذي سيكون متبوعاً بالحال بصوت خبيطه على الآلة الكاتبة. الصوت الذي يسحق كقذائف مدفعية، مزلزلاً البيت. كان يكتب في أيام عطلة نهاية الأسبوع أيضاً، عصر أيام الأحد. كما كان يرغب بالكتابة ليلاً لكنه في التاسعة يكون نائماً على الأريكة. كانت أمي دائماً توقظه، ليمضي مترنحاً باتجاه غرفة النوم.
استوفى كل متطلبات إصراره بمعنى من المعاني. ومع مرور الزمن وفي الستين من عمره كان عليه أن يكون قد فرغ من كتابة خمس أو ست روايات، وعددٍ من القصص القصيرة، وبعض المسرحيات الإذاعية. هكذا إنجاز قد يعتبره العديد من الكتاب إنجاز العمر. عدم تمكنه من الإطباق على إحدى القصص قد يتسبب غالباً بكآبته، أو عندما يتمكن وتتم مقاطعته أو يغادر إلى العمل، أو حين يمنعه تعبه من الكتابة، وعلى نحو خاص عندما يرفض الناشرون كتبه، والتي رفضوها جميعاً، حائلين دون وصولها إلى الجمهور. يأسه كان مروعاً، كنا جميعاً يائسين معه. فقد كان أي تشجيع من الناشر – ولو حتى رسالة عادية تعبر عن اهتمام ما – ستجدد حماسه. سواءً اعتبرت ذلك من وجهة نظرك حماقةً أو إخلاصاً. فإن كل ما رغب به هو أن يقول له أحدهم: “هذا العمل متألق، لقد حرَّك مشاعري، إنك بحق كاتب رائع”. أراد أن يُحترم بالطريقة التي يحترم بها الكتَّاب.
في باريس، حيث كنت أقيم، ذهبت إلى مطعم برفقة أكبر أخوة أبي. كان عمي المفضل، وقد عرف بصخبه وإفراطه بالشرب وطبعه الحاد. اعترفت له بعد عدة كؤوس بأني جئت إلى باريس لأكتب، ولأتعلم أن أكون كاتباً. مما عرضني لتقريعه وسبابه، من تظن نفسك، قال لي، بلزاك؟ أحمق، وتابع ليقول، أبوك أحمق أكثر منك، ليشجعك على ذلك. إنها غطرسة، غباء، ولحسن الحظ كنت شاباً بحيث لم أحبط، فقد كنت أعرف كيف أترك أوهامي متقدة. لكنني صدمت بما تحمَّله أبي من عائلته. تخطي موقعك محظور. توسيع أحلامك محرَّم.
لابد أن أعمامي ومعارف أبي كانوا يعتبرون شغفه شغفاً غريباً ذلك أن الآسيويين في بريطانيا لم يهجروا أوطانهم ليمتلكوا مهنة سيئة الصيت وقليلة الدخل مثل “الفن”. لقد جاؤوا بريطانيا ليعيشوا حياةً من الصعب عيشها في بلدهم. في ذلك الزمن، في منتصف الستينات، كانت الصور التي يعرضها التلفاز عن الهند تعبر عن الفقر، الجوع والمرض. على النقيض من شعب شمال بريطانيا الناجي من الحرب وبؤس عام 1950، والذي ينعم بالثلاجات والسيارات والتلفزيونات والغسالات.
كانت الفوضى والغربة جزء من وجود المهاجرين وعائلتهم. كانوا يرغبون بحياةٍ جديدة وتطوراً مادياً يرافقها. لكن كونهم مزقوا في عالم وألقي بهم في آخر، فقد كانوا بحاجة لأن يحافظوا على كل شيء مجتمعاً، التقاليد، العادات، الركون إلى الثبات. فالحياة في بلد رحلوا عنه مازالت متواصلة، لكن مخاوفاً غريبة كانت حياة الشتات تحملها في طياتها، كما لو أن فعل الرحيل بحد ذاته يحمل الاضطراب.
الثقافة والفن وجدا لأشخاص آخرين، أغنياء غالباً ، مقتنعين بأنفسهم من جراء الأمان والاستقرار في حياتهم. من السذاجة أن ترغب بأن تكون كاتباً، لا بل إنه نوع من الاستعراض. قلة من أصدقاء والدي كانوا يقرؤون، وقليلون منهم كانوا مثقفين. العديد منهم وصل حديثاً ، وعملوا معه في السفارة الباكستانية. ومساءً كانوا يعملون في المحال، ومحطات الوقود، أو المطاعم. كانوا يرسلون الأموال إلى عائلاتهم. كان والدي يروي لي قصصاً عن شراهة العمات والأخوة والأباء والأمهات واعتقادهم بأن جامعي الثروة هنا يعيشون في بحبوبة. لم يكونوا يعرفون شيئاً عن البرد والمطر والذل والحنين. أحياناً يشكلون نوادٍ مهمتها ارسال أقاربهم إلى إنكلترا والذي سيكونون بدورهم ملزمين بإعادة الأموال إليهم. وفي أحد الايام تأتي العائلة وتنضم إليه في انكلترا. وإلى أن يحدث ذلك يسعى المهاجر إلى شراء منزل، ومن ثم بيت آخر. أو محل، أو معمل.
يشكل التعليم بالنسبة لمن عائلتهم متواجدة معهم في بريطانيا أمراً مصيرياً، والذي يشكل مضافاً إليه المال مؤشراً على إزدهار تطورهم في البلد الجديد. وهكذا يبدؤون بأحاديثهم اللامنتهية عن سياراتهم.
حتى نحن كان علينا امتلاك سيارة. وقد كانت معظم الوقت راكنة تعاني الصدأ أمام المنزل، نلعب بها أنا واختي، طالما أن والدي استغرق حصوله على شهادة السياقة ست محاولات لينجح في الاختبار. أقتنع حينها بأن سبب رسوبه كان راجعاً إلى التمييز العرقي،حتى أنه تقدم بشكوى إلى مكتب العلاقات العرقية، واجتاز اختبار القيادة في المحاولة التي تبعت الشكوى.
كانت الكتابة الشيء الوحيد الذي يرغب والدي أو يوليه كل اهتمامه، وأن يبرع فيها، رغم قدرته على القيام بأشياء أخرى: الطبخ، عنايته بأصدقائه وعشرته الطيبة معهم، الرياضة. كان معجباً بالأبوة. فقد كان والده دكتوراً، وكان لديه اثنا عشر ولداً، عشرة منهم ذكور. ولم يحظَ والدي بالرعاية اللازمة. شعر بأن حياته فقدت “وجهتها” بسبب افتقارها للمرشد. وعليه فقد عرف ما على الأب أن يكونه. كنا نلعب الكريكيت لساعات في الحدائق ، نذهب إلى السينما – وغالباً لمشاهدة الأفلام الحربية مثل ” جرأة النسور”، كنا نشاهد التلفزيون سوية، ونتجاذب أطراف الحديث.
كان والدي يذهب إلى المكتبة صباح كل أحد. وليتمكن من الكتابة أينما كان كانت دفاتر الملاحظات موزعة في جميع أرجاء البيت، في الحمام، قرب السرير، في صدر البيت، قرب كرسيه الخاص بمشاهدة التلفزيون. دفاتر الملاحظات قام بصناعتها بنفسه من مربعات الورق المقوى ومشابك الأوراق سداسية الشكل، ملصقاً في داخلها أوراقاً غريبة الشكل – الوجه الخلفي لمطبوعات إعلانية تصله عبر البريد، أوراق العمل، مظاريف. والتي كانت تحتوي على ملاحظة تحثه للتقدم إلى الأمام: ” سر النجاح يكمن، الطريق الذي تمضي عبره، على المرء أن يبدأ. . هكذا تحيا، وتفكر وتكتب . . .” كان يكور قبضته ويضرب بها راحة يده الأخرى، قائلاً، “على المرء أن يقاتل”.
أثناء مرحلة شبابي أصيب والدي بمرض خطير، وتناوبت عليه مخاوف مؤلمة ومحزنة، ورغم ذلك فقد كان دفتر الملاحظات لا يفارق يده في المستشفى. في احتضاره تحدث عن كتابه الأخير برصانته الآثرة المعتادة، والحانقة أيضاً. “روايتي الأخيرة كانت عن ما يشعر به المرء عندما . . .”
تساءلت أمي إن لم يكن من الأفضل له أن يقوم بشيء أقل إحباطاً من أن يغلق على نفسه الباب طوال أوقات فراغه. كانت الحياة تهرب منا، ولم يكن يصل إلى أي مكان. هل كان يفضل فشله ككاتب على أن ينجح في أي شيء آخر؟ ربما كان بمقدورهما سويةً القيام بأشياء كثيرة، كانت معضلة بحق. الخيبة المتواصلة التي رافقت عمله الخاص كان من الصعب على أحد أن يحتملها، وقد كانت الجو الذي عشنا فيه. أحياناً كانت أمي تعتبر أن رغبته اليائسة عجلت من مرضه وجعلت شفاءه مستحيلاً. لكن هذا كان من الأمور التي لا يعجبه سماعها.
كان مقتنعاً بأنها لا تدرك مستلزمات هكذا شغف. بالحقيقة كانت مدركةً لذلك. طالما أنه يرغب بالوصول إلى العالم. لديه شيء ليقوله ويلقى صداه. كان بحاجة لأن يسترعي الاهتمام. الناشرون الذين رفضوا أعماله وقفوا حائلاً بينه وبين جمهوره المقتنع بأنهم كانوا بانتظاره.
كانت صحبة والدي صحبة مسلية، فقد كان ثرثاراً وفضولياً وصاخباً ونماماً. كان دائماً في سعي وراء القصص. سننجز الحبكة لاحقاً. عثرت مؤخراً على إحدى قصصه، التي تتناول خادماً هندياً لزوجين إنكليزيين في مدراس ما قبل الحرب العالمية الثانية. وسرعان ما يتضح في القصة بأن هذا الخادم على علاقة مع سيدته. لنعلم في النهاية بأنه أيضاً على علاقة مع سيده. لعل هذه القصة المبتكرة عن الخنوثة أدهشتني، لكنها لم تضف شيئاً على ثقتي الدائمة بامتلاكه موهبة السخرية والربط والموازنة والانعطاف.
أحب الناس واعتاد الحديث مع الجيران بينما يقلمون حدائقهم ويغسلون سياراتهم، أو اثناء وقوفهم في موقف الباص صباحاً. كان يمنحهم ألقاباً ويتأمل حياتهم إلى الحد الذي لا أعد فيه قادراً على التمييز بين ماسمعه بحق وما تخيل أنه سمعه. كأن يقول “افترض بأنه في أحد الأيام”. “بأن ذلك الرجل قرر أن . . .” ويمضي بعيداً في مخيلته. يقول موباسان، “لن تشعر بالراحة مع روائي ما لم تكن واثقاً بأنه لن يضعك عارياً في صفحات كتاب”.
__________________
من نص طويل، بعنوان “هبة”. نقلًا عن موقع: أوكسجين، وترجمة: زياد عبدالله.
عدد المشاهدات : 375
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.