الإنصاف بما لأرض الهند من أوصاف

الإنصاف بما لأرض الهند من أوصاف

عبدالعزيز البرتاوي

وفق الله ويسّر، وبلغتُ أرض الهند. زرت خمس مدن، هي بالتوالي زيارةً، كوتشي، فكوزيكود، ثم وايناد. ثم طرت إلى مومباي غربًا، وهبطت منها إلى بالنجور جنوبًا، وأنهيت الرحلة بدلهي العظمى، مدينة المدن، كما يقول الهنود، وكما هو مرصوف في أرجاءها، عابرًا بالقصد والحجة، أغرا، وهو كافٍ لمن لا زال يقرا.

وكانت بدأة الرحلة، رفقة الأب والعمّ وابنه وأخي، فلا تسأل عن الجدالات المتتالية، إذ كل له مزاج ومجاز، ولولا حياء من أبي وعمي، وعِظم مقامهما، لتطايرت النبال، وتثلمت السيوف. وذلك لحدة في طبع العائلة، ووفرة في الجدل، وطولة في اللسان، والله المستعان.

ونزلنا كاليكوت، بعد كوتشي، إذ فيها هبطنا أولا. ونعم الترحاب وجدنا. من أب رؤوم، وعم رؤوف، فلا تسل عن دلال لم نعرفه في الوطن، ويأتي به السفر، وبُعد المشقة والأم، وذلك ذو أثر عجيب.

وكوزيكود مدينة مملوءة عودا وطيبا وبخورا وصندلا، ثم هي تشتهر بأحذيتها، وجلودها، ثم هي في ولاية كيرلا، فلا تسل عن خضرة وارفة، وجنة مقيمة، حتى لا تكاد ترى ترابًا.

ومما يشجي ثمة، في كوزيكود، طيبة أهلها، لكأنك بينهم مقيم، فلا تشعر بغربة، ولا تخاف أحدًا، وكلهم يأتيك، ليسأل من أي الخليج أرضك، فيرتد السؤال كالنشيج، ثم دامعا يكاد، يخبرك عن سنيّ عمر أنفقه ثمة، وعن محبة لتلك البلاد وأهلها، تراها في ترفّقه بك، وتحنّنه عليك، وتودّده إليك، حتى لتحسبه يرجو نوالًا أو مالًا، فإذا أومأت إلى ذلك غضب وقال هذا هاتفي، ما شئت من هذه البلاد، فلتأمر به اتصالا، وآتيك به حالًا.

ولا يكادون يفعلون ذلك، حتى تعلونا غصة؛ مستذكرين ما نفعل بهم في بلادنا، من سوء ترحاب، ومطْل أجرة، وعلو صوت، وبخس حق، وسوء نوال، ولا تسل عن قبح فعائل الجوازات والكفالة؛ فتلك تحتاج صلاة أربعين يومًا بإدراك تكبيرة الإحرام، رجاء الكفارة، ولا تكاد توفِي.

ولقد بلغ بهم الترحاب فينا، أنّ صاحب محل الخضرة الذي أنفق عشرين سنة ببلادنا أصرّ ألا يأخذ قيمة ما أخذنا لغدائنا، وأبى أن نزيده من غد، واستأذن أن يأتي للسلام على أبي وعمي، فلما أخبرناهم، قالوا بل نذهب إليه وحسنًا فعلوا، إذ ما مررنا بمحل إلا قام إلينا واحد أو اثنان، يخبرونا عن أي قبيلة كان كفيلهم منها، فلا تسأل عن ترحاب عظيم، ومودة حاضرة، ورجاء قربى.

وحانت صلاة المغرب، وكنا نصلي عادة في بيت أخذناه في رأس جبل، لا يصله الأذان إلا من بعيد. فصلينا معهم، وأحاطوا بنا، وذهبنا في سلام وكلام، وهشّ وبشّ. وهذه كلها في وايناد، المرصعة بالخضرة. جنتان عن يمين وشمال، وبيتنا بينها، بستان شاي عن اليمين، وحدائق قهوة عن الشمال، ونحن بينهما في كيف عظيم.

وأخبرنا الإمام أن المسجد من طابقين، وأن الثاني بناه رجل من بلادنا، مرّ بهم ورأى ازدحامًا، فأنشأه على نفقته، ومضى مجهولا في الأرض، مذكورا في السماء، كما نحسب ونودّ. والعجيب أن الإمام طلب من عمي بناء الطابق الثالث، لزحمة المصلين، في هذه الأرض العجيبة البعيدة. فأي شيء يمكن أن يصف هذا، يخرج رجل من رمضاء مكة، بواد غير ذي زرع ولا ضرع، فيزدحم الناس على دينه في هذه البلاد المملوءة شجرا وأنهارا وأفانين أخرى، صلى الله عليه وسلّم.

وعدنا إلى كاليكوت، وما تركنا هنديا إلا ساومناه على بضاعة. فلا تسل عن رخص، ولا عن وفرة مال لدينا. إذ كل ريال منا، بعشرين من نقودهم، ثم بضاعتهم رخيصة. ومعيشتهم أرخص. نخرج المشوار الطويل، فيطلبنا أجرة دون الأربعين. أي لا تكاد تصل ريالين.

واشتريت لأبي وعمي تمرا لا يضاهى في جودته. وأظنه محمول من بلادنا. وما عهدتني التفت إليه في أرضنا، ولكنه الفتى لا يفلح في أرضه. وأكلنا وشربنا، وحملنا ما شئنا من عود وبخور وطيب، وكل ذلك بأجر يسير، وحقائب كبيرة. إذ كل منا، شرى حقيبة، بعد هول ما أخذنا من ثمة.

وبعد أسبوع تحت أقانيم الجوز واللوز، وبين الأغصان الوارفة والمروج الكثة، فارقت أبي وعمي، رفقة ابن عمي، متجهين صوب بوابة الغرب، مومباي. وهي كذلك لا بسبب موقعها فحسب، بل وبسبب موقفها أيضًا، متشبعة متشبهةً بهذا الغرب اللعين، من سامها احتلالا، وملأها وبالا، واستعبدها سنينا طوالا، سارقا منها الشاي والنسيج، وتاركا لها الفقر والنشيج.

ومومباي، مدينة كبرى، مملوءة بشرا وكلابا وقرودًا وبقرًا وغربانا وحماما وطيورا عجيبة، وتمشي في الشارع، فتمشي المدينة كلها معك. وفي الصباح، وكان فندقنا على البحر، وعلى شارع شهير في المدينة، رأيت عجبًا، إذ كانت المدينة تركض للتريض، فلا تسل عن حسن النساء، ولا ركض الرجال، ولا حماسة الكبار، وتبسم الكهول. ويُفرغ آخر مسار من شوارع المدينة، كل صباح للركض. وهو شيء عجيب، لم أشهده في مدينة دخلتها قبل.

ومبانيها عجيبة. وفيها صنع بديع. وعليها مآثر الذين خلو من قبل. من مسلمين وهندوس وملاعين إنجليز. وفيها مآثر معمار خالدة. كبرج الساعة ومبنى المحطة ومسجد الحاج علي. منذ خمسمئة عام، وسط اليمّ، يصلي فيه الناس نهارًا، ويصلي فيه الموج ليلا، بسبب المد والجزر، ويغلق لأجل ذلك كل يوم.

وفيها مطاعم وافرة، ومقاهٍ حسنة، وصخب عجيب. مررنا بشارع قلابة، وكان أبي وعمي حذرونا منه، ومن نتن فيه وصخب وسوء حال، وفيه يباع كل شيء، من السواك، وإلى سجائر الحشيش. والطعام فيه مبذول لكل أحد، رخصًا ووفرة. وتقام مطابخ الأكل فيه على كل رصيف، وإزاء كل حائط. فلكأنك في مطبخ مفتوح، والنَّاس فوق كل هذا عابرون، ونائمون. إذ مشردوها في كثرة، لا يزاحمهم في مناماتهم، سوى الكلاب. وهذا ليس بمثلبة، بل هو من عجب. إذ ترى الكلب في دفء إنسان ينام، ولربما أكلا سوية، والتحفا لحافا واحدًا، ورأيت مثل هذا كثير.

وذهبنا إلى مطعم شهير فيها، اسمه خيبر. وهو ربما صنيعة يهود. إذ مظهره حسن، ومخبره قبيح. أجرة باهظة، وطعم رخيص. والحمدلله على فضله، إذ لولا توالي الشبع، وكثرة الزاد، وبطرة النفس، ما كان لنا أن نتخيّر بالتقييم والسؤال عن أي مطاعم المدينة أشهى، وأي مقاهيها أزهى، نسأل الله كمال الشكر، ونعوذ به من نقصان الكفر.

ومررنا بحيّ الفن في مومباي: كالاغودا، وهي تعني الحصان الأسود. وهو ذو رسوم ظاهرة، وحسن مبان بديع. وهو مما يؤثر في الزيارة. ويذكر في المشورة. وتضرب إليه أكباد “التكاسي”. وجدرانه منقوشة، وقبابه كثيرة، ومبانيه حسنة، فلكأنك في متحف مفتوح. والشارع المفضي إلى فندقنا والبحر، وافر المتاحف، وكل واحد فيها يختص بزمن معلوم، وشيء مذكور، وفيه يجتمع الرسامون والفنانون والعازفون على أرصفته وفي شوارعه، يعرضون ما لديهم من بضاعة الفنّ وسلعة الذوق.

ثم فارقت ابن عمي. وهذا هو حال الدنيا، فراقٌ إثر جَمعة، وضحكة تفضي إلى دمعة. وهبطت إلى بالنجور جنوبا، والجهات اليوم، كلها جنوب، كما يقول مطر.  وفيها ملمح من مدينة عصرية، وحضارة وتمدن، تلمحه بدأة في مطارها، إذ لكأنك في سوق بديع، وفرة مقاه وكثرة مطاعم، حتى لأحسب ناسها، يأتون إليه للتمشي، ولم أرَ مثيلًا له بين مطارات الدنيا التي تسكّعت فيها.

وهي مدينة التقنية، وفيها كبرى شركات الحاسب والشبكات. وشارع المهاتما غاندي، مملوء محلات وعجائب، وسكنت في فندق لا أحسبني سكنت في أبهى منه، منذ تعودت السفر. ولولا معرة تلحق باسم هذا الفندق في بلادنا، وبالذين أُسكنوه قسرًا، لذكرته.

وتعامل أهلها عظيم. وفيهم حسن لطافة، وكمال أناقة، فلا تحسبك غريبًا عنهم أبدًا. وفيها العود والطيب والبخور والثياب الملونة والبازارات الوافرة، وكنت أحسب اسطنبول أكثر المدن كذلك، ولكن الهند أكثر.

وذهبت إلى قصر بالنجور. وهو أشهر معالمها. فانظر أي ترف كان فيه أهلها، وأي شيء تركوا. تدفع دراهم، لتصور بواقيهم، وقد ملأها الغبار، وسوّدتها أعين الناظرين، فبئر معطلة، وقصر مشيد. وحملني إليه “توك توك”، ومضينا ساعة ونصف، وانتظرني، ثم عدت، وكان حسابه أربعة ريالات بنقودنا، فانظر أيّ عيش كريم.

ومنها طرت إلى دلهي. سيدة مدن الهند قاطبة. وفيها بهاء عظيم. وهم يسمونها مدينة المدن. وهي واسعة المساحة. في كل ركن منها سوق وباحة. ومعالمها لا تحصى. في كل حدّة منها تاريخ، وفي كل زاوية حكاية. وعليها مهابة الذين عبروا، فلا تسل عن الجوامع الكبرى، والمعابد المشغولة بالذهب والرخام. وحدائقها ظاهرة، وشوارعها كبيرة.

وزرت فيها معبد اللوتس، وهو أعجوبة في الصنع والبناء والجمال والجلال. وهو بيت البهائيين. وقد شيّده مهندس من إيران. والعجيب أنه من معالم الهند القليلة التي لا تأخذ عليك رسوما للدخول. ولقد دفعت في قصر بالنجور المقفر المغبرّ خمسمئة روبية، ولو طُلبت ضعفها لمشاهدة هذا الحسن البهيّ البهائيّ لما ترددت.

وتخلع حذاءك قبل الوصول إليه بمسافة، بغية التطهر وإظهار الإجلال. ويخبرونك بكونه معبدا لكل صاحب دين، أيًّا يكن دينه، وعليك ألا تنبس ولا تهمس. وأن تغلق هاتفك، ولا تصوّر ولا تحوّر. وتجلس برهة. تصلي بصمت كما يقولون، وتنصرف. ودخلته رفقة صديق هندوسي، فصلّى صلاة يهمهم، ولا أدري ما يقول. ثم انصرفنا، وقد ودّعتنا حسناء، لا أظن جمالها، إلا كونها سليلة أصفهان.

وكل هذا الجمال كان والشمس تعبر فوقنا، وقال صاحبي: لو رأيته ليلة، وقد فعلت به الإضاءة ما فعلت، وتحت ضوء القمر أبهى ما يكون. وخرجنا منه عابرين بعجل ووجل، أن يكون كل هذا الجمال للدجل.

ثم ذهبنا من ساعتنا إلى مقهى قريب. وقهوته عجيبة. وهي تجلب من جنوب الهند. ولا تعرف الهند قهوةً من خارجها، ولا أعرف أنا قهوة الهند خارجها. وسعرها زهيد، وطعمها لذيذ، ومقاهيهم المختصة، حديثة وبديعة ومملوءة حسناوات لا تراهن بالطرقات، ولربما كان هذا من محاسن القهوة.

وبعد ذاك، واعدت سائقا يأخذني من صبح الغد، إلى أغرا، مدينة القلاع والمساجد البهيّة، وذلك لرؤية تاج محل، أعجوبة قصص الحب، وملمح خلود الغرام، وهو “دمعة تتلألأ على خد الأرض”، ببياض رخامه كما يقول طاغور، أحد أبهى من كتبوا بالهندية، وعليها حاز نوبل الأدب، وهذا القبر الأزهى من قصر، ضريح حبيبة الملك الراحل، وأم بنيه، شيده ليخلد حبها، فزاره الناس من أقطار الأرض، وحج إليه العشاق، وإذا قلّ زائروه في اليوم الواحد، بلغوا ثلاثين ألفًا.

والطريق إلى أغرا من دلهي، حكاية. ولقد لقيت فيه عنتًا وعناية. فأما العنا والعنت ففي الذهاب، وأما العون والعناية ففي الإياب. فأخذنا مسافة ٢٠٠ كيلو متر، مما يقطع في بلادنا في ساعتين أو دونها، في ست ساعات، من التوتر والتقلقل، وهو مملوء بشرا وحجرا وحشرا وقرودا وبقرا وبهائم أخرى. وكدنا نواشك حادثا أليماً مرتين على الأقل، وذلك لسوء الطريق وكثرة انعطافاته -كأنه حياتي- وسوء صيانته.

ثم وصلنا بعناية الله وعونه باحة المعمار الأبهى، تاج محل، فلا تسل عن خشوع وجلال، وبهاء وكمال، وهم يأخذون عليه باهض رسوم مال، وهي أكثر مبلغ دفعته في الهند قاطبة لأرى معلَما، والنَّاس بساحته فاغري أفواههم، ملجمي أفئدتهم، خصوصا إن كانوا من أوروبا ونواحيها، أنْ كل هذا قبر، فماذا يكون القصر؟ وهو باقٍ على جماله وكماله. لم يزل ولم يحل. ولا تغير له لون، ولم يخل به صون. وفيه ترى قبر الملك الراحل حزنًا، إلى جوار قبر حبيبته. ويعجب الغربيون حين يُحدَّثون عن كونها قصة حب لمسلمين، في عالم سافل لم يصور لهم سوى إرهاب وإرغام وإسفاف المسلمين وضعفهم وخلافهم وتخلفهم وما إليه من سوء الحال الذي أمسينا به ولا مشرق منه.

وبعد ذاك تجولت في ربوع أغرا، فكم من برج مشيد، وسور عظيم، وكم من تزاويق وتصاوير حسنة بديعة، والرائي إليها ثم يرى ما حال “الهنود” اليوم، لا يثق بالزمان، ولا بتدابير الليالي والأيام، فأي مجد كانوا فيه، وأي فقر وضعة هم الآن فيها، وعملي يخدم فيه ما لا يقل من مئتين منهم،  بعد أن كانوا سادة من حولهم، وكبراء قومهم في أرضهم وخارجها، ولقد تفكرت في هذا طويلًا، في مسكَنتهم وقبولهم لكل عمل مهما قلّ أو رذل، وصور بعضهم وهم يبكون بعد جلبهم للعمل في قساوة الصحراء وحرّ رمضائها، بعد أن كانوا في جنان ديارهم وندى أهلهم. وأظن هذا عائد لما هو أبعد من طلب العيش، فللسياسة الفاسدة دور في ذلك، وللتنشئة والثقافة وما إليه من زرع كبير الأمر في النفوس، أو تهيئتها لذلك، وكذلك تفعل كل “حكومة” ببلدها: أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، فما بالك إن اقترن ذلك بالاستهدام والاستعمار.

ومن أغرا عدت مع طريق حسنة واسعة، لا أحد فيها إلا نحن، تكاد من حسنها لا تصدق أنها بأرضهم لكثرة ما لقيت من أهوال في طرقهم، وقال لي السائق إنها طريق جديدة مفروضة عليها ضرائب باهظة للعابرين، ولذلك قلّ سالكوها. قلت وهذا حال كل طريق. إذْ ما أزحم الطرق المتاحة بالرخص لكل أحد، وما أقفر الدروب الباهظة الثمن.

وبت ليلتي في دلهي، حتى أصبحت على آخر أيام الرحلة، وقمت من وقتي إلى جامع دلهي الأكبر، وهو عامر بالصلاة والناس والبيع والشراء والأطعمة والزوار والسائحين والعابدين والركّع السجود، من خمسمئة عام. وله ثلاث بوابات كبرى، ومئذنتان شامختان، وبه آثار قديمة، أشهرها نسخة من القرآن الكريم، مرقومة على جلد غزال. وفي وسطه بركة للوضوء، يشرب منها الحمام والطير، ويلعب حولها الصبية، وهو أمر مشتهر بأرض الهند وكل مساجدهم، الوضوء من مكان واحد مكشوف.

وكان سائقي هندوسيًا لطيفًا، أخذته إلى المسجد، وصليت ركعتين وهو جالس ينظر إليّ، فجاءه هنديّ مسلم وسأله بلغتهم ما لا أعرف، ثم انتهره وطرده من المسجد شرّ طردة، وكدت أقطع الصلاة لذلك، ولكني كنت في آخرها. ولما فرَغتُ، خرجتُ فوجدته مكروبًا خائفًا فقلت له ما قال لك، قال سألني أمسلم أنت؟ وحين أخبرته عن ديني طردني كالكلب. قلت له أعتذر عن ذلك لك، ولا يحقّ له طردكَ أبدًا، وكان هذا سيئًا لأني ما تركت بيت عبادة هندوسي أو بوذي أو بهائيّ إلا ودخلته معه، أجيل النظر وأطيل التأمل، ولم أجد ناهرًا ولا زاجرًا برغم وضوح السحنة وبيان الوَجه والوِجهة. وهذا من سوء الحال وتفشّي الجهل بين المسلمين والله المستعان.

ثم رأيت رجلًا يبيع مصاحفًا أمام الجامع الأكبر، مترجمة بلغة الهنود، وعليها ملامح زينة ووقار، ففكرت أن اشتري للسائق هذا ما قد يكون فيه رشاده، وبادرة حسن اعتذار إليه، فساومت البائع أن يخفض في سعره قليلاً، وهذا هو نبراس كل بيع وشراء في الهند: المساومة. إذا لا يبيعون بالسعر الأصلي، ولا يصلون إليه إلا بعد تلاحٍ وجدل. فقال البائع للهندوسيّ كلامًا بنبرة الغاضب، فسألته ما يقول؟ فكان أن قال له إما أن يشتري صاحبك القرآن بهذا السعر، أو فلينصرف نحو دكان يبيع أي شيء سوى القرآن، أيساومني على كتاب الله؟ وكان هذا درسًا قاسيًا، إذ ما كان في حسباني أن أساوم على قرآن، أنا الذي أنفق في مقاهي الدنيا وملاهيها ما يكفي لثروة، لكنه طبع الدُرجة وسهو الغفلة. ثم اشتريته بمثل ما قال، وأهديته إلى الهندوسيّ قائلًا له أن كل هديّة حين تهدى يقول صاحبها: هذه هدية صغيرة لا تعبّر عن كبير ما أرجوه لك. لكني بهذا القرآن أقول لك: هذه هدية كبيرة، وفوق صغير ما أكنّه لك. واستحسن ذلك وقِبله وقبّله بسرور.

ثم مررت على جامع صغير، فيه عشرة صبية يقرؤون القرآن، بأصوات حسنة وعربية مبينة. فانظر أي عزّ لهذه اللغة، وأي أمر لهذا الدين. وكلّمني معلمهم بعربية قويمة، وقال إن هذا دأبهم من سنين. وهذا كله وسط دلهي القديمة، بأعجميتها القويمة، وفي أقوى مراكز سياحتها، فانظر إلى هذا العجب العجيب.

وبعد كل هذا مضيت نحو مطار دلهي، وهو مطار حسن البناء، حديث المرافق، لا يحتاج إلى معين ومُرافق، ورحلاته كثيرة، ودروبه طويلة، ويكاد لا يغطي كل هذه الأفواج من البشر، تأتي لترى عجائب الهند، أو ترحل لطلب الرزق، وهذا وحده من العجائب، أن تقصد بلادك للافتتان، وترحل منها للافتتان، وشتان بين الفتنتين.

هذا واللهمّ أدم علينا نعمة شكر نعمك، فإنها نعمة النِعم، وما يميّزنا عن باقي البهائم والنَعم. إليك المرتجى، ومنك الملتجا، وإليك المصير.

____________
* تمت كتابة هذا النصّ، بإشارة من أبي، وأوفى تشريفَه لي، باختيار عنوانه.

عدد المشاهدات : 1158

 
 

شارك مع أصدقائك

6 Comments