الحياة قصيرة والكتب كثيرة

الحياة قصيرة والكتب كثيرة

مدير التحرير

تخيل أنك جالس في الطابق الثالث بإحدى كبريات مكتبات لندن، تفتش بين الكتب عن الطبعة الجديدة التي صدرت مؤخراً لرواية الحرب والسلام لتولستوي، والتي كنت قد قرأتها في مراهقتك وأمضيت معها أياماً طويلة، لكنك لم تعد تذكر منها سوى الوصف الرشيق ليد نابليون بونابرت إذ رسمها تولستوي بالكلمات، وقد قررت الآن أن تعيد قراءتها بطبعتها المنقحة، وعليك أن تكون طفلاً بما يكفي لتعترف بأنك أحببت شكل وتصميم الغلاف الجديد أيضاً، وأن هذا واحد من الأسباب التي جعلتك راغباً في شراء الطبعة الحديثة، وهو سبب من الأسباب التي قادتك، قبل عام أيضاً، لشراء الأعمال القصصية الكاملة لتشيخوف، في أربعة مجلدات ذهبية فاخرة، والانزواء في ركن من غرفتك لتقرأ قصصاً كنت قد قرأتها مراراً وتفاعلت مع أبطالها ربما في عامك الثالث أو الرابع عشر حتى تسللت برودة الجو الروسي إلى أصابع قدميك من جديد قبل أن ترهف السمع إلى حديث الحوذي العجوز إلى حصانه، وتتأمل، بفضول، تلك المرأة التي على الشاطئ مع كلبها وتأخذك المشاعر التشيخوفية الإنسانية، آنذاك، إلى عالم تراه بنظرة جديدة لن تعيدك إلى المراهق الذي كنته أبداً.

تخيل أنك، وأنت تفتش عن الطبعة الجديدة من الحرب والسلام، صادفت تحت حرف التاء قصصاً مترجمة ترجمة حديثة لتورجنيف، لم تكن قد قرأت بعضها من قبل لأنك قررت مبكراً أنك أخذت كفايتك من أعمال تورجنيف بقراءتك مجموعة الحب الأول، لكنك الآن ترغب في إعادة النظر في قرارك مادامت هذه النسخة قد اصطدمت بأصابعك العطشى دون أن تسعى أنت إليها فأوهمت نفسك بأن للأمر دلالة ما دمت مقتنعاً تماماً بمقولة كزانتزكي بأن البرق لا يحدث للقاء غيمتين، فالغيمتان تلتقيان قبل انطلاق الشرارة. ليست هناك مصادفة. تقول لنفسك نعم، هذه ليست مصادفة، وربما علي أن أعاود قراءة تورجنيف مادامت هذه المجموعة قد اعترضت طريقي، ثم تخيل أن الأمر انتهى بك إلى حمل خمسة كتب على ذراعك، أربعة منها ليست جديدة تماماً عليك، وأنك نسيت نفسك والوقت عندما التفت خلفك فجأة، ووجدت عجوزاً إنجليزيا ذا قامة ضئيلة ونظارات سميكة يقف ببدلته التي تذكر بشباب ولّى، وقد عقد يديه خلف ظهره ووقف على مبعدة من الرفوف العملاقة ثم ابتسم عندما وقعت نظرتك عليه وقال بصوت فيه بحّة ثقيلة، بعد أن مسح حقول الكتب بعينيه:
– إن الكتب هنا كثيرة أليس كذلك؟
ولم يكن ينتظر أن تؤمّن على قوله بل أردف:
لو أن في العمر متسعاً ليقرأ الإنسان كل هذه الكتب، لكنّ الحياة قصيرة.
تخيل ماذا يمكن أن يكون مفعول جملة بسيطة كهذه على مسمعك؟
كيف يمكنك بعد ذلك أن تواصل تنقيبك عن طبعات جديدة لكتابك المفضلين الذين سبق لك قراءتهم، وعن يمينك ويسارك تجلس على الرفوف وطاولات العرض كتب أخرى لم تكتشفها بعد لأن الوقت لم يحن لقراءتها، أو لأنك لم تسمع بعد بأسماء أصحابها، أو لأنك تراهن على الغد، أو لأي سبب آخر؟
ربما كنت بحاجة إذاً إلى هذا الرسول العجوز ليذكرك بأمر بديهي كهذا، تماماً كما حدث معي.
لقد بادلته الابتسام، دون ان أستطيع تعزيته، وتملصت من الكتب التي في يدي بأن راكمتها على الطاولة القريبة، وخرجت إلى حيث الحياة القصيرة.

في كتابه الأخير الستارة يروي ميلان كونديرا أنه، في إحدى المناسبات، حرّض صديقاً له، وهو كاتب فرنسي، على أن يقرأ للكاتب البولندي كومبروفيتش. وعندما حدث وأن التقى بصديقه بعد فترة أخبره الأخير بأنه قرأ لكومبروفيتش، وتساءل عن سبب حماس كونديرا له لأنه لم يُعجب بما قرأ. فسأله كونديرا عن عنوان الكتاب الذي اختاره وعرف منه أن الكتاب الذي افتتح به قراءته هو كتاب يعود لبدايات كومبروفيتش وهو أكثر أعماله تواضعاً، بل إن مادته لم تنشر إلا بعد رحيله؛ لأنه لم يكن عازماً في الأصل على نشره ولم يشر له بأدنى إشارة أثناء حياته. ولكي يغير كونديرا من الانطباع الذي تركه الكتاب عند صديقه اقترح عليه أن يقرأ أعمالا أخرى لكومبروفيتش ورشح له عناوين بعينها، لكن صاحبه نظر إليه بحسرة وقال: يا صديقي، إن الحياة أمامي في تناقص، وقد انتهت حصة كاتبك من الوقت.

هل حقاً تنتهي حصص بعض الكتّاب من الوقت عندما يفشلون في استدراجنا إلى عالمهم عند القراءة الأولى؟
بل هل تنتهي حصص أولئك الكتّاب الذين قرأنا لهم وأحببناهم وساهموا بشكل مبكر في تشكيل وعينا ومذاقاتنا، لأن هناك قافلة أخرى من الأعمال تنتظر القراءة والاكتشاف وتنتظر أن تضيف إلى رصيدنا القرائي أشياء جديدة؟

إن كتباً جديدة وأسماء جديدة تخرج من المطابع كل يوم، فيما لم يقرأ الإنسان بعض الأعمال الكلاسيكية بعد، وأظنني بوقفة العجوز الإنجليزي تلك، وتأمله الحزين لرفوف الكتب التي أمامه تنبهت إلى أن الوقت أبخل من أن يهديني عمراً أقرأ فيه كل ما يعجبني وأن هناك مئات بل آلاف الكتب التي تنتظر دورها في الاكتشاف. كم هي قصيرة الحياة إذاً، وربما لذلك فإن تريسي شفالييه صاحبة الرواية الشهيرة الفتاة ذات القرط اللؤلؤي عندما سئلت عن القدرة الاستثنائية التي تود أن تتمتع بها فيما لو تأتى لها ذلك، أجابت بأنها القابلية على أن تقرأ بسرعة كل كتاب في العالم وتتذكره.

هذه الأمنية قد لا تعني شيئاً لأولئك الذين لا يقرأون، أو الذين لا تشكل القراءة بالنسبة لهم حاجة ولا تعد طقساً هاماً من طقوس أيامهم، بل إنها أحياناً -ويا للدهشة- قد لا تشكل قيمة كبرى عند بعض من يكتبون، ربما لذلك تخرج كتاباتهم باهتة، قليلة الألوان، وغارقة في ذاتيتها، فتمر عابرة وتُنسى بعد حين.
الحياة قصيرة والكتب كثيرة. ومهما طالت أعمارنا فإن الحياة ستبقى قصيرة والكتب ستبقى كثيرة، وللأسف فإن علينا أن نختار ما نقرأ ونضحي بكتب وكتاب آخرين، ليس على طريقة الدون ريغوبيرتو في رواية يوسا، الذي طلب من مصمم الديكور أن يحول المدفأة في حجرته إلى فرن لإحراق الكتب التي لا يريدها -الكتب الزائدة كما يسميها- وإنما بالقفز عن قراءة الكتب الفقيرة أو بعدم السعي إلى إيجادها على الأقل.

ربما في مرحلة الطفولة والتشكل كانت إمكانية تجريب كل القراءات واردة. أن نقرأ كل كتاب يعبر طريقنا. كل كتاب تقع عليه أيدينا. كل كتاب يُهدى إلينا. أما وقد أصبحت القراءة جزءاً من تكويننا فإن علينا أن نكون قراء متطلبين. وإذا لاح اسم كاتبٍ غريب أو كتاب جديد وعزمنا على منحه فرصة، فإن فرصة واحدة كافية لأن نقرر ما إذا كان هذا الكاتب سيرافق مسيرتنا القرائية أم أن علينا أن نفترق هنا، وبالطبع هناك استثناءات قليلة.

على الوقت ألا يمضي برفقه كتاب باهت أو كاتب رديء لأن هناك حقيقة بدهية، ينساها بعضنا في غمرة حماسه للعناوين القديمة أو الجديدة، وقد لخصها العجوز الإنجليزي في الطابق الثالث من مكتبة لندنية، ذات خريف: الحياة قصيرة والكتب كثيرة.

 

  • مقال نشر بجريدة “الاتحاد”، 9 ديسمبر 2007، للكاتبة الأماراتية: ابتسام عبدالله المعلا. صدر لها: “ضوء يذهب للنوم”، مجموعة قصصية.

عدد المشاهدات : 1265

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.