الحُبُّ الذي شيّد أجمل قبر

الحُبُّ الذي شيّد أجمل قبر

مدير التحرير

مهما كان زائر الهند مستعجلاً في أمره لمغادرة هذا البلد، بعد أن يزعجه ضجيج نيودلهي ومناطقها الفقيرة، والإحساس بأن كل وجبة في مطعم تحمل مجازفة أكيدة، سوف يغريه دائمًا أن يؤخر سفره يومًا أو يومين، ريثما يقوم بزيارة أخيرة وهو واثق من أن القيام بها سيكون تعويضًا مقابل كل عذاباته الأخرى. ففي ولاية أوترا براديش التي تعتبر من أجمل ولايات الهند، وعلى ضفة نهر «يمونا»، لن يفوته، ومن على مسافات شاسعة أن يلتقي بذلك المبنى الرائع والمهيب، الذي يرتفع الى نحو خمسة وسبعين متراً أي ما يوازي أكثر من عشرين طابقاً، والذي يحمل اسماً حافلاً بالدلالة، إنما من دون أن يشي بالوظيفة «الحقيقية» للمبنى: قصر التاج أو بالأحرى «تاج محل».

ولا شك في أن من المؤكد أن الأمر الأول الذي لا يمكن زائر «تاج محل» في مدينة اغرا الهندية تلك أن يصدقه، هو صحة ما يقوله التاريخ من أن هذا المبنى الرائع والذي يعتبره كثر أعجوبة العالم الثامنة، ليس أكثر من قبر. قبر بناه أحد أباطرة المغول، شاه جيهان، لكي تدفن فيه زوجته الشابة المحبوبة البيغوم آرجوماند بانو، التي دخلت التاريخ بلقبها ممتاز محل، والتي رحلت في ريعان شبابها بعدما أنجبت للشاه أربعة عشر ولداً، وحافظت مع ذلك على بهائها وجمالها، حتى اللحظة التي توفيت فيها، فبكاها الإمبراطور وحزن عليها، وصمم على أن يخلّد ذكراها في ذلك المبنى الذي لا نظير له.

فهذا المبنى الذي يتنافس جماله وروعة هندسته مع بهائه وجلال ألوان حجارته، والذي بدئ بتشييده في العام 1631 ليكتمل الجزء الأول منه في العام 1648 ويظل العمل مستكملاً فيه حتى بداية العام 1666 حين مات الملك نفسه فدفن فيه الى جانب محبوبته، هذا المبنى لم يشيّد في منطقة عادية، بل في تلك المدينة التي كانت في ذلك الحين عاصمة للإمبراطورية المغولية، وفي حقبة من الزمن كانت فيه هذه الإمبراطورية قد وصلت الى ذروة ازدهارها وخصوصاً بعد اعتناق أباطرتها نوعاً منفتحاً من الإسلام عرف كيف يعبر عن نفسه في الفنون العمرانية والبصرية – التي سيكون أجمل نماذجها كتاب «بابر نامه» المعروف بمنمنماته البديعة وما يعبر عنه من رغد العيش في أزمنة كانت الظلمة فيها تغمر الكثير من المناطق حتى في أوروبا وآسيا… ولا شك في أن في إمكاننا القول أن «تاج محل» نفسه يمكنه أن يشي بحد ذاته بما كانت وصلت إليه تلك الحضارة من إبداع في الهندسة العمرانية، ناهيك بما يعبر عنه من تقدير لمكانة المرأة. ولا ينبغي أن يغرب عن بالنا هنا، أن المنطقة نفسها التي شيّد فيها الإمبراطور ذلك القبر المنيف، كانت في الأساس مليئة بالقصور والحدائق الغنّاء والمباني الرسمية ودارات كبار التجار وأعيان الدولة. وحتى الآن لا تزال غالبية تلك المباني قائمة تشهد على نهضة عمرانية، وربما إدارية أيضا، عزّ نظيرها.

و«تاج محل» مقام في عمق حديقة غناء مستطيلة الشكل يبلغ طولها نحو 580 متراً مقابل عرض يزيد عن 300 متر، وهي محاطة بأربعة أسوار أقيم في كل منها أربعة أبواب ضخمة منها ثلاثة مزيفة وواحد حقيقي. وتعبر الحديقة أربع أقنية يجري فيها الماء وتنتشر فيها النوافير تسقي النباتات مبقية لها على جمال ألوانها وبهائها المستديم. من دون أن ننسى هنا تلك الممرات التي بُلّطت بالمرمر الأبيض إسوة بجدران القصر نفسه.

صحيح أن قبر الملكة الحسناء يتوسط المبنى، وأضيف اليه لاحقاً قبر الإمبراطور نفسه، لكن ثمة ما يقلق الزائر في هذا كله، لأن قاعات المبنى وممراته وحدائقه ومناراته الأربع وجدرانه وزينته، من الصعب، ومهما جنح الخيال بالزائر، أن تُقنع هذا الزائر بأن هذا البهاء كله انما أقيم لتخليد الموت. ومع هذا على المرء أن ينصاع الى ما يرويه التاريخ، ويضع في ذهنه وهو داخل الى المكان، حكاية الحب والوفاء العجيبة تلك، ثم يمتع بصره بواحد من أروع مباني عالم الإسلام. وعلى الزائر ألا ينسى، في سياق تفكيره، أن المبنى صمم أصلاً من جانب مهندس تركي جيء به خصيصاً لذلك، حتى وإن كانت التواريخ الرسمية تقول لنا أن مهندس المشروع كان فناناً من مدينة لاهور يدعى أستاذ أحمد اللاهوري. ويبدو أن اللاهوري هذا كان تلميذ المهندس التركي وأكمل العمل من بعده مستعيناً، طوال اكثر من عقدين من الزمن استغرقهما إنجاز المبنى وحدائقه، ببنّائين ومزخرفين ومهندسين وعمال جيء بهم من شتى أنحاء العالم الإسلامي، وصولاً الى الصين وأقاصي تركيا وأواسط آسيا. ومن هنا ما يقوله المؤرخون عادة من أن هذا المبنى، في الوقت نفسه الذي يعتبر فيه رمزاً لقصة حب، انما هو وربما أكثر من ذلك، انعكاس لتلك الكوزموبوليتية التي طبعت دائماً عالم الإسلام. وهي كوزموبوليتية ميّزت، في ذلك الحين، وخلال الربع الأول من القرن الميلادي السابع عشر، امبراطورية المغول، إحدى أكثر حقبات التاريخ الإسلامي الآسيوي إشعاعاً. تلك الإمبراطورية التي كانت، في فنونها وآدابها وعمرانها بخاصة، وريثة التقاليد الإسلامية العريقة التي قامت، منذ العباسيين على الأقل، على الانفتاح والتلاقح الحضاري، وتكاد تشكل معادلاً للازدهار العمراني الذي كانت قد عرفته المدن الأندلسية قبل ذلك بقرون. ولئن كانت مدن الأندلس قد تلاقحت مع العمران الديني الأوروبي، من المؤكد أن العمران المغولي قد جمع بين التقاليد الآسيوية، ولا سيما الهندية والصينية، وتلك الآتية من بلدان المشرق العربي، ما خلق ذلك المشهد العمراني الفريد.

إذا كان مبنى تاج محل يقع كم أشرنا، وسط حدائق غناء فإنه يبدو من بعيد أشبه بقصر حكم وقلعة في الوقت نفسه. وهو يبدو، وفق وصف بيار لوتي الفرنسي له، كأكبر مجمّع بني من المرمر الأبيض في العالم. فإذا أضفنا الى هذا ان الأسوار التي تحيط به حمراء اللون وكذلك قببه، يصبح في إمكاننا أن نتخيل ذلك البعد اللوني الأخاذ يتوسط مساحات من الشجر الأخضر. ولعل من أهم ما يلفت النظر هنا ان كل شيء مبني ومقام في خطوط مستقيمة وزوايا قائمة، محيطة بالضريح نفسه، وهو أبيض اللون، بياض الثلج، ويبدو بياضه أكثر قوة وسط الأخضر المحيط به، وكل ذلك وسط أربع منارات تتسلق زوايا المبنى الأربع.

كل هذا يبدو واضحاً من بعيد، ولكن حين يقترب المرء أكثر لن يفوته مشهد الزينة والزخرفات التي تملأ الجدران، ومشهد الكرانيش التي تعلو الأبواب، وتتخللها قطع من المرمر الأسود. اما تحت القبة المتوسطة، الرئيسية التي يبلغ ارتفاعها 75 قدماً، فإن الضريح يرقد في هدوء مدهش، وفيه ترقد الملكة وسط بياض بهي رائع، بياض يضيء المكان، وكأن الإمبراطور اختار لوناً يمنع العتمة من التسلل الى المكان خوفاً على رقاد محبوبته.

يقينًا أنه منذ عصور الفراعنة، الذين يروي التاريخ انهم انما بنوا الأهرامات قبوراً لهم، – وهو أمر يناقضه، على أيّ حال، علماء كثر يرون ان الأهرامات انما بنيت لشؤون أخرى عدة لعل أهمها تلك الشؤون العلمية والفلكية التي لا يكفّ المستكشفون عن رفع الغبار عنها منذ ما لا يقل عن مئات السنين، منذ تلك العصور، لم يحدث ان أُقيم مبنى ضخم وباهظ الكلفة على تلك الشاكلة، تكريماً لإنسان فرد، حتى وإن كان ملكاً محبوباً، فكيف حدث لشاه جيهان، أن أقام مبنى على هذا النحو، وتكريماً لذكرى امرأة، ما يتنافى ليس فقط مع التقاليد والأعراف، بل كذلك مع «الحس السليم» بالنسبة الى تلك المرحلة الزمنية على الأقل، كما ربما مع التقاليد الدينية المعمول بها؟ وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام تأويلات لا تنتهي. تأويلات تبدأ بالموافقة على الحكاية المتداولة والرسمية، ولا تنتهي بالحديث عن شعور بالعظمة أدّى الى بناء ذلك المكان، الذي يصبح في ضوء هذا التفسير، واحداً من أكثر المباني عبثية في تاريخ البشرية.

ولكن مهما كان من شأن التفسير والتحليل العلمي أو مهما كان من شأن الارتكان الى «الحس السليم»، ثمة حقيقة واقعة وهي أن هذا المبنى موجود، غير بعيد من نيودلهي، في مدينة اغرا، الهندية الإسلامية، يشي بعظمة الإنسان، وبعظمة الفن في زمن كانت فيه اوروبا أنجزت عصر نهضتها، والعالم الإسلامي يعيش انزياحاً قوياً صوب آسيا، وإبداعاتها الخلاقة التي كانت عاودت الاتصال بحضاراتها القديمة، شكلاً ومعنى.

 

______________
* نُشرت هذا المادة للأستاذ الكبير: إبراهيم العريس، بجريدة الحياة، بتاريخ 6 مارس 2018م.

عدد المشاهدات : 402

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.