الرحلة إلى غزّة

الرحلة إلى غزّة

مدير التحرير

غزّة إحدى أعتق المدن في العالم، وقد تمت الإشارة إليها في سفر التكوين إبان المراحل المعتمة السابقة على أبراهام -سفر التكوين- الإصحاح العاشر، ص19. تم الاستيلاء على غزة مرارًا وتكرارًا، وجرى محوها، ثم إعادة بنائها من لدن كل الشعوب الموغلة في الماضي. احتلها المصريون عشرين مرة، ثم صارت إلى ملكية الفلسطينيين، ثم إلى عمالقة جنس آنكا -سفر يوشع. 9. ص، 21- ووقعت بعد ذلك في قبضة السريانيين ثم الإغريق فالرومان وأخيرًا العرب والصليبيين.

أرضها العامرة بالبقايا والفضلات والعظام والثروات والكنوز، جرى حرثها بعمق حتى الأعماق. الهضبة التي تدعمها اصطناعية، وتم حشوها بالإسمنت في عهود سحيقة وعصية على التحديد. أما ضواحيها فمحفوفة أو مغمورة بسراديب ودهاليز تنتمي إلى كل الأزمنة، وتقود إلى المجهول. أما قراها وبواديها فعامرة بالغيران التي تؤوي الثعابين والسحالي.

كانت في مرات عدة متألقة، خصوصًا في حقبة الإله مارماس الذي كان يحظى داخلها بهيكل شهير. وقد غمرت الرمال في الوقت الراهن ميناءها وطمست الرخام الذي كان يميزه، ولا يعدو كونه الآن سوقا متواضعا يقع في مفتتح الصحراء وتأتي إليه القوافل بغرض التزود.

ظل مظهرها سارازانيا، وفوق الركام الفظيع لدورها تعلو صوامع وحوانيت جنائزية ذات قباب بيضاء، وترتفع أو تعلو أشجار نخيل ناحلة وأشجار جميز ضخمة.

بلاد الأطلال والغبار.. أحياء من الطين والوحل الجاف وبين هذا وذاك ووسط المواد السمجة والحقيرة تنحشر قطعة من الرخام العتيق ذي المظهر السارازيني وشعار صليبي أو قطعة من عمود قديم يعود إلى قديس أو إله بعل. بقايا معابد منثورة على الأزقة وبقايا قصور إغريقية مطروحة فوق الأرض وعلى أعتاب البيوت.

لم نصادف إلا قليلا من المارة و لم يكن ثمة بطبيعة الحال أي أثر للسيارات وإنما فقط جمال ونوق وخيول وحمير.

رأينا بعض الشيوخ تعلو رؤوسهم عمامات باللونين الأبيض والأخضر، وهم يقتعدون في جمود عتبات الأماكن المقدسة. ويتجمع الصخب كله في البازار المعتم المغطى بالجريد الباهت، حيث يشتري الأعراب النازحون من مختلف القبائل الصحراوية بواسطة المال المحصل من النهب سروج الجمال وأغمدة السيوف أو الشعير والتمر.

ندلف إلى مسجد لا حدود لقداسته وهو ضريح هاشم جد النبي محمد والولي الراعي للمدينة.

دخلنا في غمرة الشمس الصباحية لعيد الفصح إلى المسجد. اكتشفنا في البدء ساحة كبيرة محاطة بأقواس بيضاء. كان ثمة بعض الرجال منهمكين في أداء الصلاة، لكنها كانت مأهولة في الآن نفسه بوفرة من الأطفال الصغار كانوا آخذين في اللعب تحت سماء مفرطة في الزرقة. وفي الشرق كما هي العادة، تعتبر صحون وساحات المساجد والجوامع مكان لقاء للرضع، ويبدو من المألوف والطبيعي القبول والرضا بأشكال لعبهم الصبياني إلى جوار العجائز والشيوخ الآخذين في السجود والصلاة.

يحمل في هذه المدينة من هم أصغر سنًّا، ومن يعرفون بالكاد الجري سوارًا من صدف البحر حول الكاحل، كي تحيط الأمهات علمًا ومن بعيد بمكان وجودهم، وهو ما يشبه بكثير الأجراس الصغيرة المثبتة حول أعناق الماعز في المراعي.

وعبر أبواب دائرية بيضاوية مغلقة بواسطة سياجات حديدية، تؤدي هذه الساحة إلى معازل هادئة مضللة بالنخيل؛ حيث ينمو عشب ربيعي غزير ومزهر، وهي الأمكنة التي يرقد تحتها الموتى بكل تأكيد. يوجد ضريح الولي في واحد من هاته الزوايا. وبابه السميك المغمور بالنقوش والزخارف محكم الإغلاق. وقد سارع أحد الأشخاص الذي كان منهمكًا في الصلاة داخله إلى البحث عن الشيخ العجوز الحارس للضريح. فيما اتخذنا مجالسنا في ظل الأقواس البيضاء وفي غمرة السكينة الدينية طفقنا ننتظر.

جاء بأناة هذا الفقيه ذو اللحية البيضاء والعمامة الخضراء. فتح الباب ودلفنا إلى المكان. وتحت قبة حزينة وكابية مضاءة من السقف ومغمورة بنقوش الأرابيسك التي بهتت ألوانها الصارخة بتأثير الرطوبة والأمطار، انتصب الضريح المغطى بكساء أخضر وفوق زواياه الأربع كرات من النحاس الأصفر يعلو كل واحد منها هلال، وفوق الرأس عمامة الميت التي يغمرها شاش باهت.

عبر الأزقة الصغيرة والبازارات، تروح السابلة وتغدو وهي منشغلة بشؤونها العادية. لا يتعلق الأمر لا بيوم أحد أو عيد فصح، وإنما بيوم عادي من التقويم الهجري، وليس ثمة أي شيء في هذه المدينة الأولى لوجودي ما يوقظ في دواخلنا ذكرى المسيح.

ثمة على أية حال مسجد آخر أكبر تبدو لنا بابه القوطية أشبه ما تكون بباب كاتدرائية، وحيث تشبه العتبة التي تركنا عليها نعالنا عتبة كنيسة. في الداخل صحن كبير بحجم صليب تحف به عواميد من الرخام الرمادي، وهنا وهناك فوق الجدران صلبان مطموسة وممسوحة، لكنها ما تفتأ موجودة بإلحاح تحت الطبقات الكثيفة للجير الأبيض. يتعلق الأمر في الحقيقة بكنيسة بناها هؤلاء الصليبيون ذوو الإيمان الشديد، الذين جاءوا في الزمن البعيد كي يموتوا على الأرض المقدسة.

ما أعجب وأشد هذه القوة التي يملكها هؤلاء الرجال، وكم هي جليلة الأعمال التي كان في مقدورهم إتيانها. كم كانت جميلة الكنيسة التي بنوها، خصوصا وقد عمدوا إلى ذلك في غمرة انشغالهم بالحرب وفي بلاد المنفى هاته. وكم هو مذهل ومدهش أن نراها وهي ما تفتأ قائمة. في بياضها الهادئ وهي مضاءة بانعكاس شمس الشرق العظيمة التي كانت تتوهج في الخارج، وعلى حين غرة نستشف من جديد شيئا من أثر المسيحية.

جلّل الفرنجيون الذين بنوها منذ سبعة قرون يسوع الإنجيل بالظلام بسبب أساطير صبيانية، والآن وأكثر من أي وقت مضى، تحتل الأعلام المحمدية ذات اللون الأخضر الغامق الصحن العاري، وتطمس الصور التي وضعها هناك الصليبيون السذج. لكننا نعثر على درجة سواء على أثر للمسيح وما يشبه شيئًا عصيًّا على الإمساك، ومفرطًا في النعومة والرقة، ويصاحبه في هذا اليوم انطباع غامض يعم أجواء الاحتفال بيوم الأحد وعيد الفصح.

خلّف الصليبيون رغم كل شيء آثارهم في هذه المدينة، وقد يحدث أن نحرك رميمهم إذا نحن نقبنا وبحثنا في هذا التراب العتيق المغمور بالبقايا والأموات. تمنح الكاتدرائية التركية التي شرع في بنائها في القرن الثالث عشر ثم أعيد إصلاحها وتغيير معالمها على امتداد كل عصور التاريخ، على هاته الجدران مزيجًا من تقطيعات سارازانية دقيقة، ودروع فرسانية ثقيلة، وحيث ينمو الآن الفطر وعشب الدمن والأطلال.

توقفنا في الأحياء العليا للمدينة عند نقطة تتجلى من خلالها كل غزة الرمادية ببيوتها الطينية ومناراتها القليلة وقبابها البيضاء المظللة بسعف النخيل، ثم ما تبقى من أسوارها المنتمية إلى مراحل زمنية عصية على التحديد، التي تبرز خطتها أو معالمها بالكاد والتي تتلاشى وسط المقابر. تشكل هاته المقابر التي تجتاح فضاء البادية عالما في حد ذاته. وفي واحدة منها، وتحت شجرة جميز تجمع رهط من النسوة وهن يبكين بحرقة وصخب فقيدا، ووفق التقاليد المتبعة، وكان صوت نشيجهن يصلنا.

وفرة من الحدائق الجميلة المغمورة بالظل وكثير من الشعاب المحفوفة بشجر الصبار، التي تمر منها الحمير التي تحمل جرار وقرب الماء إلى المدينة. ثم لاح لناظرنا في الأخير البحر البعيد، وكل ذلك بلون الدمقس والحرير ورمال الصحراء. بانوراما كبيرة مثيرة للأسى، يستحيل تحديد تاريخ لها في سيرورة الأزمنة والعصور، وهناك تلة معزولة ومأهولة بالقبور، قصد إليها شمشون بعد خروجه من منزل خليلته كي يضع فوقها أبواب غزة الفلسطينية.

عندما عدنا إلى المعسكر والساعة تشير إلى منتصف النهار، كانت تعمر أطرافه حركة بما يكفي. يهود وتجار أدوات أثرية كانوا في انتظارنا وهم جلوس على القبور. نصارى إغريق في هيئة الاحتفال بيوم الأحد، وكان بعضهم يرتدي لباسًا أوروبيًا، و يتوقف كي يتملى بمرأى عودتنا. ثم لم يلبث الفضوليون والباعة أن عادوا أدراجهم وقد حاق بهم السأم، ولبثنا وحدنا.

كان الأعراب الذين يعتزمون الرحيل هذا المساء إلى صحرائهم يغفون وهم مستلقون على العشب. تستريح غزة الغارقة في السكون والصمت من احتفالات الليل. كانت شمس حارقة تحط على قماش خيامنا البيضاء، وكانت الحجارة المنثورة هنا وهناك مغمورة بالسحالي والحرباوات..

أمضينا فترة ظهيرة عيد الفصح هادئة ومنقوعة في الوحدة ونحن جلوس بجوار خيامنا وسط هاته المقابر ونحن نتملى منظر السحالي وهي توالي الغدو والرواح والخروج بأعداد غفيرة دائمًا من الأرض. وفوق الصفائح الساخنة التي تغطي القبور، كانت هاته السحالي توالي العبور ولا تني عن اللعب. وعلى حواف كل شواهد القبور، انتصب اثنان أو ثلاثة على أرجلهم وهم آخذون في التمايل بطريقة غريبة.
أضحى الهواء ثقيلا إلى درجة لا توصف. وسرعان ما أصبح معتما ومن دون غيوم ظاهرة. والشمس الصفراء لم تعد تضيء بغتة أي شيء، وبدا أنها تموت. وكان قرصها يتشكل من دون أشعة، وبدا الأمر كما لو أنها كانت تُرى من خلال نافذة معتمة. خيل إلينا أن نهاية العالم وشيكة. كان الأمر متعلقًا بريح خماسين تتهيأ للعبور، وسوف تهبّ الصحارى المجاورة علينا.

علت ريح عظيمة في غمرة هبوب مباغت، جارّةً معها زوابع من الرمل والغبار. أرى قادمًا من الصحراء، ومن الأرض المرعبة ما يشبه زوابع تطردها ريح الظهيرة كي تعدم كل شيء ـ سفر إساي. 21.

هدأ الاضطراب الجاف عند المساء، وسرعان ما عاد المتجولون إلى الظهور. تلقينا زيارة والي المدينة الأمير الكردي اللطيف، وبعض الفقهاء المسلمين. ثم جاءت خيولنا المسرجة والبغال التي تحمل أمتعتنا والتي تم إيفادها من القدس وهي منهكة من الرحلة الإجبارية، واستلقت على جنوبها مثل دواب منهكة. وعبر الشعاب المحاطة بشجر الصبار كانت تصعد قطعان الغنم والماعز من البادية إلى المدينة، وكان الليل يرخي سدوله.

سوف يكون على مرافقينا الأعراب عند منتصف الليل وحينما يكون القمر في تمام صعوده، أن يبدأوا سيرهم في اتجاه البتراء، مصطحبين معهم الضابط والجنديين التركيين الذين قاموا بمرافقتنا. وعند غروب الشمس، سوف يجمعون جمالهم ويحملونهما بالأمتعة والأثقال ثم يشعلون نيرانًا عظيمة كي يطهوا عليها وليمة الوداع.

قمنا بتوديع بعضنا البعض بصداقة. وقد تعانقت مع الشيخ حسن، وآيت، وتبادلنا الهدايا التذكارية. أعطاني حسن خنجره، وأهديته مسدسي. كان الليل بسواد حالك، ووسط هاته القبور، كنا نوجد فيما يشبه العماء، حيث لا يمكنك أن تميز داخله شيئا. لكن هي ذي ساعة انبلاج القمر. وخلفنا كانت المدينة التي لم نكن نرى منها شيئا.

بدأ يتبين في الأفق شبح سواد في هيئة نار محتدمة ذات لون دموي، ثم لم تلبث النار أن تكثفت في شكل كتلة نارية حمراء ودائما في هيئة دائرية وفي صورة كرة ترتفع ثم ما تلبث أن تبيض بعد ذلك فيما يشبه الجمر القادم لتوه، الذي ينيرنا باطراد. إنها الآن قرص من اللهب له لون اللجين ويعلو مشعا وخفيفا ويدلق نورا ملء السماء. وفي الإطار المنير، كانت ترتفع المنارات وأشجار النخيل التي تلقي بألوانها وظلالها السوداء الدقيقة. وكل ما لم يكن موجودًا قبل ذلك إن جاز هذا التعبير ينبعث من جديد وهو أكثر ملاحة ألف مرة مما هو عليه في النهار. وقد تحوّل إلى ملحمة سحرية شرقية كبرى. وبينما كانت المقابر بصفوفها وطبقاتها التي تهيمن على رؤيتنا تتوهج بالتدريج من الأعلى صوب الأسفل، فإن وميضًا خافتًا مجللًا بعض الشيء باللون الوردي الذي انبعث في أعلى القبور، يستمر في النمو والامتداد والانتشار وهو ينحدر صوب الأسفل مثل بقعة مهيمنة تنتشر ببطء ثم تنتهي بأن تغرق في الأغوار السحيقة، حيث كنا نوجد.

رهط من الرحل والناس والدواب يحيطون بالنار التي تخبو. وهكذا، يكون في مقدورنا أن نتملى وننظر بشكل رائع ومثير في غمرة ضياء القمر الساطع والبهي. القمر في تمام تجليه. وهو التوقيت الذي يختاره الأعراب كي يشرعوا في الرحيل. وها هو الموكب المفرط في صمته، الذي يتشكل من الجمال والنوق والذي يبدأ مسيرته في غمرة أشعة اللجين الوردية. ومن أعلى دوابهم الكبيرة المتبخترة، أرسل إلينا الشيخ حسن وآيت آخر تلويحة ود وصداقة، ثم أخذوا في العودة إلى الأرض المرعبة التي ولدوا فيها والتي يفضلون العيش داخلها، وقد وضع رحيلهما حدًّا لحلمنا بالصحراء.

غدًا صباحًا، وعند بزوغ الشمس، سوف نحثّ السير في اتجاه القدس.

 

________________
* يُشكّل هذا النص الذي قام بترجمته الأستاذ عبدالمنعم الشنتوف، أحد فصول كتاب ’الصحراء’ الذي خصصه الكاتب والرحالة الفرنسي “بيير لوتي” لرحلته إلى فلسطين قبل مئة وعشرين عاما. وقد نشر هذا المقتطف في جريدة “القدس العربي“، بتاريخ 2-4-2013م.

 

عدد المشاهدات : 565

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.