الصيف فرصة للقراءة

الصيف فرصة للقراءة

مدير التحرير

ابن سينا لم ينتظر الصيف للقراءة. قرأ على مرّ الفصول. في النهار قرأ. وفي الليل قرأ. كان اذا تعب من القراءة ليلاً ، أو أحس نعاساً ، عمد الى القهوة والمشي لتنشيط جسمه والرجوع الى الكتب. تلميذه وصف قعوده الطويل بين المخطوطات. يقلب الورق الأصفر ويطارد بنظرته حروفاً تكرّ كقطعان نمل أسود على الورق… من المغرب الى صلاة الفجر. يقرأ ويقرأ ويقرأ. الطبيب القديم لم يخف القراءة. ليس دون كيشوت. ليس العجوز الاسباني الذي خبلته الروايات فخرج الى سهول خضر يطلب مصارعة عمالقة وأوغاد. عاش ابن سينا قبل دون كيشوت. عاش في زمن سبق الطباعة. ضاعفت الطباعة عدد الكتب غير الضرورية في العالم. بكتبٍ أقل قد تكون أحوالنا أحسن. في مدينة المستقبل الفاضلة قد تُمنع المطابع. نرجع الى عهودٍ سحيقة. مثل ابن سينا لا نعرف كتاباً مطبوعاً. نقرأ مخطوطات وحسب. صفحات تتفتت بين الأصابع.

هل يصلح الصيف للقراءة؟ وما هذه المفارقة التي يشير اليها بورخيس: رجل مولع بالمجلدات، أدمن القراءة واعادة القراءة، لكنه مع هذا يطلب احراق المطابع وازالتها من الوجود. رجل متيم بالكتب ومع هذا يريدها أقل. لا يريد أن تتكاثر الكتب، بل العكس: يريدها أن تندر!

قبل الطباعة كان موسوعي من طراز ايسيدور الاشبيلي يبيع كرم عنب أو حقل زيتون لشراء مخطوط عمره عشر سنوات ليس أكثر. يبيع بيته مقابل صفحات من”دليل أعشاب”خُط في غرناطة. كوميديا دانتي نجت من الضياع بسلسلة صدف غريبة. الطباعة ، لا ريب ، تنقذ كتباً. لم نفقد”مروج الذهب ومعادن الجوهر”لكننا فقدنا معظم مؤلفات المسعودي الأخرى. ابن النديم ملأ”الفهرست”عناوين مجلدات لا نعرف من محتواها شيئاً. مكتبات كاملة ضاعت في أسواق بغداد وفي مياه دجلة. النهر حال لونه الى أسود من الحبر الكثير. ليس هولاكو وحده من يسرق الكتب من التاريخ ويطردها خارج الوقت. الحشرات تفعل مثل هذا. كذلك الحر والبرد. الجفاف والرطوبة أيضاً. الكتب بيسرٍ تضيع. خصوصاً كتب الأزمنة السحيقة. الصيف يصلح للقراءة. عطلٌ ووقت كالرمل بين الأصابع. هل نقرأ؟ الكتب لا تُعد. ماذا نقرأ؟ ابن العصور الحديثة يرى كتباً أينما نظر.

هذا لم يحدث قبل اختراع الطباعة.

كانت الكتب عملة نادرة. المخطوط يباع بثقله ذهباً. تاريخ الطبري كان يضيع لولا تلامذة أحبوا النسخ وأحبوا استاذهم. رجل عجوز يقعد في قبو فسيح ويملي على سبعة ناسخين ما حفظته ذاكرة عجيبة. من هذا؟ أسامة بن المنقذ أم صامويل جونسون؟ الثاني أُعطي حياة سهلة. يكفي أن ينهي تأليف قاموسه كي يصل القاموس مطبوعاً – بنسخ لا تُعد ، الى بيوت لندن. الأول حياته أصعب. السنون طوت جسمه. رِجل هنا ورجل في القبر. وحين ينتهي”تاريخه”من يضمن له أن يبقى؟ المخطوط قد يضيع. يحترق كما في رواية”المعلم ومرغريتا”. أو تبعثره الأيام. ربّة بيت تمسح به زجاجاً رطباً. جزّار يلف به اللحمة. تاجر يكتب عليه ، فوق الكلمات المخطوطة الثمينة -أرقاماً وحسابات.

لماذا يطلب رجل يحبّ القراءة ازالة المطابع من الوجود؟ لماذا يطلب عدداً أقل من الكتب؟ يخاف ضياع الابرة الذهب في كومة التبن؟ أم هو يريد أن يقرأ كتاباً واحداً فحسب مرة تلو مرة تلو مرة؟

اعتبر ستيفنسون القراءة الأولى تمهيدية. القراءة الأولى لا تُحسب، يقول دي كوينسي. القراءة الثانية تحسب. لكنها غير كافية. من المرة الثالثة وصاعداً نتعرف الى الكتاب. دي كوينسي رجل غريب. يكفي ان نقرأ”اعترافات آكل أفيون انكليزي”لندرك هذا. كم مرة يريدنا أن نقرأه كي نعرفه؟ ستيفنسون مثله. لا تشبعه القراءة الأولى.”دكتور جاكل ومستر هايد”لا تكشف كنوزها الا بعد القراءة الثالثة.

بعد العشاء

أبناء القرن التاسع عشر امتلكوا وقتاً أطول من وقتنا. مع ان ستيفنسون مات عن 44 عاماً. كم مرة قرأ”اعترافات ماركوس أوريليوس”؟ كان هذا كتابه المفضل. يقرأه شتاء وهو يدخن الغليون أمام المدفأة. ويقرأه صيفاً وهو يجوب التلال وينظر من نقطة عالية الى البحر الشاسع والى صف منارات رفعها أسلافه.

شخصيات ستيفنسون تميل الى القراءة. في غرفة دافئة موصدة، يجلس المحامي بعد العشاء ويقرأ كتاباً يأخذه الى عالم بعيد. القراءة تجعلك مؤمناً. بينما تقرأ روايات تنتبه أنك شخصية في رواية. حقيقي وخيالي أنت. قصتك ، من البدء ، مكتوبة. البيروتي جرجي زيدان المقيم في غرفة رطبة في لوكندة أبيه على ساحة البرج كان يسهر الليل في نور الشموع يقرأ كتباً. هل كان قاعداً في بيروت القرن التاسع عشر عندئذ؟ أبوه يفتح عليه الباب في نصف الليل. يريد أن يسأله لماذا الشموع مشتعلة. فيرى الفتى أصفر الوجه ويرى عينيه تبرقان. ما هذا البرق في العينين؟ يرى الكتاب مفتوحاً على الشرشف.

مذكرات جرجي زيدان أعمق أثراً في النفس من رواياته. بعد سفره الى القاهرة يجيء الى بيروت روسي شاب. يقيم على مسافة غير بعيدة من الساحة حيث أقام حبيب زيدان لوكندة ومطعماً. عاش كريمسكي حفنة سنوات في الرميل ، شرق ساحة البرج ، لكن هذه السنوات كفت ليترك لنا رسائل تشهد على حياة المدينة في تلك الحقبة. مآكل الناس آنذاك. عاداتهم وتقاليدهم كما يراها واحد من الفرنجة. ماذا يُباع في الأسواق صيفاً؟ ومع حلول الخريف أي فاكهة يرتفع ثمنها؟ قبل كريسمكي بعقود أرّخ رستم باز رحلة الأمير بشير شهاب الى المنفى. أسعار البضائع في اسلامبول. علاقات أبناء الأمير النسائية. علاقات تبدأ في”جبل بتدين”ولا تنتهي على ضفاف البوسفور. بعض المخطوطات لا يغدو كتاباً حتى بعد طبعه. يبقى مجهولاً خفياً. كأنه طُبع سرّاً. ووُزع سرّاً. ومن قرأه، سرّاً قرأه. خفية وبعيداً من العيون وخارج التاريخ وبلا أثر.

جاء الصيف. ماذا نقرأ؟ نرجع الى الكلاسيكيات. الى هوميروس أولاً. الألياذة سهلة القراءة كأنها رواية حديثة. الأوذيسة أيضاً. فيرجيل ليس صعباً. ودانتي عالم آخر. كل كتاب كلاسيكي، كل كتاب جيد، يفتح أمام القارئ عوالم كاملة.

لكن أبناء هذه الأزمنة يخشون القديم. نقرأ من القرن العشرين اذاً. كل ما كتبه بورخيس. القصص أولاً. المقالات والقصائد بعد ذلك. سيرته القصيرة أيضاً كما وضعها بالانكليزية مع توماس دي جيوفاني. هذه السيرة كفيلة بإرشادنا الى كتب أعاد المعلم الأعمى قراءتها وهو كفيف البصر. كيف يقرأ رجل مظلم العينين؟ رجل لا يرى الحروف على الورق. لا يرى شروق الشمس وغروبها. لا يرى في المرآة وجهه وكيف تبدله الأعوام… كيف يقرأ عجوز أعمى؟ بول تيرو قطع أميركا من الشمال الى الجنوب بالقطارات الحديد وزار بورخيس في بيته الصغير في بوينس ايرس. جلس على كنبة عتيقة وقرأ له”بوابة المئة التنهيدة”لرديارد كبلنغ. غادر الزائر عند المساء. بقي الرجل وحده. أعدّ قرعة المتّة وجلس في الظلام. أنشد سونيتات شكسبير التي يحفظها. أنشد أبيات دانتي وهو يرى ، مرة أخرى ، نجوم السماء. بلا بصر قرأ في أعماقه مقطعاً من بلينوس عن الذاكرة. وقرأ الصفحات الأخيرة من الكتاب الأول من”دون كيشوت”كما قرأه طفلاً للمرة الأولى، ليس بالاسبانية بل بالانكليزية. لم يقرأ كتاباً أحبه، الا وكرر قراءته مرات لا تحصى. صار الكتاب الحبيب منقوراً في أعماقه. لو أحرقوا نسخه كلها وأحرقوا مكتبات العالم مكتبات بوينس أيرس ولندن وبابل والاسكندرية لا يضيع هذا الكتاب. يستطيع في أيام أن يكتبه من جديد. يكتبه سطراً سطراً. حتى بلا بصر. أو يمليه على أحد.

الصيف ، مثل الفصول كلها ، يصلح للقراءة. الكتب كثيرة. والكتب الجيدة قليلة. قليلة لكنها تكفي عمراً كاملاً، حتى ولو كان توراتياً. الكتاب الذي قرأته ينفعك أن تذكر أنك لم تقرأه الا مرة واحدة. أم أنك قرأته مرتين؟ هذا حسن. عليك بقراءة جديدة. أنت لا تعلم كم يتغير الكتاب بين ليلة وضحاها، بين سنة وأخرى. الكتاب تبدل. وأنت تبدلت. والعالم تبدل. لم يعد الكتاب الأول ذاته. ماذا نقرأ هذا الصيف؟ مسرحيات شكسبير تقرأ كأنها روايات. قراءتها لا تشبه قراءة المسرحيات. الملك لير رواية. كذلك هاملت ومكبث. مكبث بين أعداء وأصدقاء في قلعة عالية. تراهم يتحركون أمامك. أكثر حياة من ساسة يزحمون الشاشات ، كالأشباح ، ليلاً نهاراً. لا تريد شكسبير ولا هوميروس ولا العهد القديم؟ تطلب أدباً من القرن العشرين؟ ادخلْ موقع نوبل الآداب على الشبكة. أسماء كثيرة. كلها تستحق ان تسرق من وقتك الثمين ساعة. تستحق ساعات. سنوات أيضاً.”جوع”لكنات هامسون. قصائد ييتس واليوت.”بينما أرقد محتضرة”لفوكنر.”جسر على درينا”لأندريتش. الجزء الأول من”الدون الهادئ”لشولوخوف.”ضجيج الجبل”وپ”بلد الثلوج”لكاواباتا.”مئة عام من العزلة”لغارسيا ماركيز.”الحرافيش”لمحفوظ.”الصرخة الصامتة”لأوي.”جبل الروح”لكسينغيان.

هذه حفنة كتب. كم كتاباً قرأ أندريتش قبل أن يكتمل في رأسه عالم البوسنة عبر ثلاثة قرون؟ كم عجوزاً صادق وسمع ذكرياته؟ كم قرية صينية حقيقية وخيالية قطع كسينغيان قبل بلوغ”جبل الروح”؟ كم مناماً وكابوساً اخترق ليالي كافكا ليكتب قصصه ورواياته ويومياته؟

نار تهدد المكتبة. ماذا تُنقذ؟”البريتانيكا”الطبعة الحادية عشرة: 29 مجلداً.”نهاية العالم وبلاد العجائب”و”المطاردة البرية للخروف”لهاروكي موراكامي.”لعبة الحجلة”لخوليو كورتاتار. ثلاثية أغوتا كريستوف عن الأخوين لوكاس وكلاوس. روايات كالفينو. رحلات ماركو بولو.”حياة مايكل ك. وأزمنته”لكويتزي.”الكتاب الأسود”لأورهان باموك. يوميات فرناندو بسوا. رحلة ابن بطوطة. التعريف بابن خلدون.”معجم البلدان”لياقوت الحموي الرومي.”الحرب والسلم”وپ”آنا كارنينا”لتولستوي.”الحياة: دليل للاستخدام”لبيريك. مذكرات فاندايك وترجماته.”ألف”و”كتاب الرمل مذاكرة شكسبير”لبورخيس.”ناراياما”لفوكازاوا.”المثنوي”لجلال الدين الرومي.”عطر”و”حمامة”لباتريك ساسكند. رسائل فلوبير. أعداد”لسان الحال”الباقية.”صربيا”1862 للكاهن دانتون.”بيدرو بارامو”لرولفو.

تقارير التنمية

تقارير التنمية البشرية لا تملأ الأضلاع أملاً. عالمنا العربي لا يقرأ الا قليلاً. لا يقرأ خريفاً. لا يقرأ شتاء. لا يقرأ ربيعاً. والصيف أصلاً حار المناخ. في الطقس الحار يصعب على الانسان أن يُركز. أملنا في المراوح والمكيفات. في تسلق قمم الجبال. في السفر الى بلاد باردة. لكن حتى في الحرّ لا بد أن يوجد بعض القراء. هل نملك على فرضية كهذه دليلاً؟ الدليل موجود. قارئ هذه الكلمات وقع عليه للتو.

سقف الطموح قد يُرفع قليلاً: هذه السطور تحوي عناوين كثيرة. عناوين تدل الى كتب حقيقية، موجودة. كتب نجت من الضياع. لم تختف كمؤلفات المسعودي المندثرة. كتب تستحق القراءة. فيها مروج ومدن وبشر وعلاقات وحيوات وأحلام وخسائر. كتب مملوءة عوالم. الصيف يصلح للقراءة. حرام ابن سينا. عاش في عالم قليل الكتب. محظوظ ابن سينا. قرأ ما يحب حتى شبع.

 

________________
نُشر هذا المقال، في ملحق آفاق، التابع لصحيفة الحياة، للكاتب والروائي اللبناني، حائز بوكر العربية: ربيع جابر، بتاريخ 5/7/2005م.

عدد المشاهدات : 665

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.