الصيّاد | يشار كمال
مدير التحرير
المسافة الفاصلة بين جبل حميدة وجبال اناوارزا، سهل يمتاز بالاتساع، حيث ساقية ساورون الواقعة تحت جبال اناوارزا. ومن منطقة التقاء الساقية بنهر جيهان تمتد منطقة مزدحمة بقصب البردي. يهبط فوقه ضباب أغبر من جبل حميدة، وهو ضباب كثيف ما يلبث أن يزداد فوق منطقة اغجاساز، حيث يشبه الدخان المتصاعد.
جيهان يبدو كبحيرة ثانية في منطقة كسيك قلعة، حيث يمتد كجزيرة منبسطة، صقيلة ومستقيمة كالمرمر، يتحول في الشتاء إلى قطعة غرينية غامقة، يمتلئ أديم النهر في هذا الموسم بالبط البري. طوال الطريق الممتدة إلى هذه المنطقة، يتصاعد في الصيف غبار كثيف يبلغ مستوى الركبة، غبار أحمر مشتعل كالحديد. في ضفاف اغجاساز تمتد منطقة (كوك بردي) ذات الخضرة المشرقة، المزدحمة بسنابل البردي القهوائية التي تغوص في المياه، خيوط العناكب فيها بسمك خيط رفيع. وتبدو شباكها بسعة شرشف، تهتز أثناء الرياح لكنها لا تتمزق أبدًا.
في مثل هذا الموسم لا يمكن للمرء أن ينشئ بيتا في ضفة اغجاساز، بسبب أسراب البعوض السامة وغير السامة. فالحمى في هذه المنطقة يمكن أن تقضي على المرء في غضون أيام، هناك قرى قريبة من اغجاساز، لكنك لن ترى فيها أكثر من خمسين رجلاً.
ذراعا مياه جيهان مفتوحتان للصيادين في الصيف والشتاء. كان يحدث أن يتغيب موصلو في رحلة الصيد أسبوعًا، او أسبوعين. أطول غيبة له امتدت ثلاثة أسابيع، عاد بعدها إلى بيته وهو ملطخ بالطين من رأسه حتى أخمص قدميه، شاحب الوجه. وكانت زوجته في مثل هذه الحالات تدخله الدار، بعد أن تخلع عنه ملابسه، حيث يقف عاريا في زاوية الغرفة، في انتظار أن تهيء له الفراش، وبعده يمتدّ نائمًا بلا حراك لمدة يومين.
في مساء اليوم الثاني ينهض من نومه، وبعد أن يدعك عينيه طويلًا يتناول طعامه، ثم يبدأ بتنظيف بندقيته مستغرقًا في سبات صمت عميق، وكانت هناك خمس ساعات للنهوض الفعليّ من رقاده.
دارت المرأة حول الفراش، أمسكت بذراعي زوجها، وأقعدته صارخة: “مصطفى، موصلو استيقظ! الطفل يموت، هيا انهض”. تركت ذراعيه بسخط وغضب. سقط موصلو على أثرها، كميت على الفراش. عادت المرأة تنظر بعينين دامعتين إلى طفلها الذي يعاني من ارتعاشات شديدة ومستمرة. وما لبث أن تحول نحيبها إلى صرخة. تناولت الطفل من الأرض وخرجت.
كان القيظ يحرق كل شيء في الخارج. وكانت شمس كالرصاص، تخيّم على النهار. أخذت تهرع تحت الشمس اللاهبة بلا وعي، وحينما اتجهت صوب الحقل، أمسكت بها امرأتان. كانت المرأة تمسك بطفلها الذي كان لا يزال يرتعش، ثم عادت إلى الدار، متجهة بسخط نحو موصلو. جذبته بقوة وهي تصرخ بأعلى صوتها: “موصلوو! موصلو! الطفل يموت، استيقظ موصلو!”. هكذا صرخت فترة من الوقت بلا جدوى.
أخذ الطفل يرتعش كالمصاب بالصرع. أما المرأة فكانت تتحدث بصوت مبحوح:- “حينما تزوجتني، قلت لي سأربيك بحليب الطيور، لم يكن أبي موافقاً على زواجي. لكنني هجرت أبي وإخوتي وبيتي، وجئت إليك. مضى خمسة عشر عامًا، لم أر فيه وجه أمي وأبي. قلتُ: لا يهمّ .. أنت أمي وأبي، طوال خمسة عشر عامًا، لم يهمّ، كلَّ الصبر يا موصلو، حرثت لك الأرض، وحصدت المحصول، وبعته في السوق. أما أنت فلم يهمك شيء إلا الصيد. لم يتبادر قط إلى ذهني، أن أترككَ واذهب. كان الأرق يصيبني في ليالي الشتاء، خشية أن تغرق في المستنقع، وأنت تطارد البط البري، كنت أبكيك حتى الصباح، أجل يا موصلو، مات وحيدي سليمان، ولم تكن موجودًا، لحظة موته. ومات بعده طفلنا درويش، ولم تحضر حتى إلى قبره، بل أخذت بندقيتك وذهبت إلى الصيد. ومع ذلك صبرت كي لا تشعر بالضيق. موصلو .. الطفل يموت، استيقظ يا موصلو! وقل لي ماذا افعل؟”.
عادت المرأة واحتضنت طفلها من جديد. كانت فقاعات من اللعاب تغطي فمه. اضطرب جسمه للحظات، وبعد قليل ارتخى تمامًا. هكذا مات سليمان أيضًا. ألقت بنفسها على الطفل الذي لم تعد تصدر منه نأمة. في المساء استيقظ موصلو، ودعك عينيه طويلاً. قالت المرأة: “موصلو، الطفل مات موصلو”، لكنها قالت ذلك بخوف. نهض موصلو، وكأنّ شيئًا لم يكن. تناول بندقيته، مسحها، وبدون أن ينظر خلفه، سار صوب اغجاساز.
لم تقل شيئًا. كأنها كانت تنتظر كل ذلك. ذهبت إلى جارها الأونباشي علي، الذي كان قد عاد من الحقل لتوه. “أخي علي، مات طفلي، ماذا أفعل؟”. كان عليّ متعبًا، ورغم ذلك، فأنه أبلغ بقية القرويين بالنبأ. غسلت النسوة الجثة. وفي ظلمة الليل وضعوها في حفرة صغيرة مظلمة. قال لها القرويون “اتركيه واذهبي إلى بيت أبيك. لا خير يرجى منه .. اتركيه”.
لم تكن تهتم من قبل بأقوالهم التي يكررونها كل يوم. أما الآن فقد أولت آذانا صاغية لما يقولون. لم تنم حتى الصباح. ومع خيوطه الأولى، جمعت حاجاتها في صرّة، واتبعت الطريق المؤدية إلى بيت والدها، والتي لم تتبعها منذ خمس عشرة سنة.
في مياه جيحون، ومستنقع اغجاساز، تجول موصلو طويلاً. حينما عاد إلى داره وجدها خاوية. لم يكن ينتظر ذلك أبدًا. بدا كمن أصيب فجأة بطلق ناري. تهاوي فجأة أمام عتبة الدار. وما لبث الجيران أن أخذوه إلى الداخل. لا يقام على ضفاف اغجاساز بيت البتة، فالإنسان ينتقل إلى العالم الثاني بعد شهر من الحمى.
بين جبل حميده وجبال اناوارزا سهل فسيح تنتشر فيه خمس عشرة أو عشرين قرية. منذ سنوات في هذه المنطقة، رجل يغطي الطين شعره ولحيته دائمًا، يبيع الطيور وحيوانات الصيد إلى القرويين، هذا الرجل هو موصلو.
عدد المشاهدات : 527
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.