الكتب لا توضع في الصناديق
مدير التحرير
أنا ومكتبتي ولدنا في ساعة واحدة تقريباً. فقد أخبر أطباء مستشفى العلوية أبي أنني قد أتأخر في الخروج إلى الدنيا، فخطر له أن يتجول في الجوار. في طريق عودته عثر على مكتبة صغيرة اشترى منها كتاب “كليلة ودمنة”. عندما أخبروه أنني جئت. أخرج قلم الشيفرز من جيبه وكتب على الصفحة الأولى من الكتاب الإهداء الآتي: إلى ولدي نزار. أرجو أن تعلّمك هذه الحكايات الحكمة.
في السادسة من عمري عثرتُ على هذه النسخة في قعر صندوق يضمّ تذكارات لأحلام منسية. لم تكن تلك هي المرة الأولى، فقد سبق لي مراراً استخراج أشياء مبهرة من الصندوق الذي دفنته أمي في حجرة علوية تضمّ كل ما لسنا بحاجة إليه. الكتاب الأول الذي أثارني هو طبعة قديمة من “النبي” لجبران خليل جبران تضمّ رسوماً فيها عذابات وإشارات قدرية غامضة. عندما سألتُ أبي عن سر هذا الصندوق قال لي إنه مكتبته، وأخذ يساعد أمي في تقشير البطاطا.
احتجتُ إلى ثلاث سنوات حتى تمكنتُ من معرفة بعض ما كانت تقوله تلك الكتب. لم يكن الأمر بالهيّن فأنا أتتبع انبهاري حتى وإن شكّل ذلك خطورة كبيرة. عرفتُ الكثير عن المكتبات وأماكنها ووجدتُ وسائل عدة لشراء كتب فيها رسوم مبهجة.
في يوم امتحانات غائم فاجأني أبي بأمر أن أخرج ما تحت سريري. كانت وشاية من تلك الوشايات التي تعذّبني بها أمي. أخرجتُ له صندوقاً صغيراً محكم الغلق.
سألني: ما هذا؟
قلت له وأنا أرتجف: إنها مكتبتي.
تفحص أبي كتبي وسألني إن كنت فعلاً قد قرأتُ “الفرسان الثلاثة”، و”الزنبقة السوداء”، و”بائعة الخبز”، و”جزيرة الكنز”، و”الكونت دي مونت كريستو”. تلّون وجهه حين أخرج من قعر الصندوق كتاب “كليلة ودمنة”.
في اليوم التالي أوصى أبي نجّاراً من معارفنا بأن يصنع لي مكتبة صغيرة لكن أطول مني بكثير. عندما جاء بها إلى البيت قال لي بغبطة انفعالية، كأنه يقف في ساحة مدرسة يؤدي مراسيم تحية العلم:
الكتب لا توضع في الصناديق.
تعلمتُ الشيء الكثير عن الكتب وطبيعتها. في سنواتي البكر كان الأمر يرتبط بقداسة غامضة، وبالسحر. كنت أسأل أبي بطرق ملتوية عن عناوين أدّعي أنني سمعتها من الراديو، أو التلفزيون، أو التقطتها أذني من دروس اللغة العربية المملة وكان أبي يقيّمها لي فأضعها في رأسي، وأبدأ برسم خطط شيطانية. كنت أبتزّ أمي، وخالاتي، وأخوالي. أركض إلى فرن الخبز، وإلى بائعي البقدونس والفجل.
أطير بدرّاجتي الهوائية جالباً مستلزمات ضرورية لطبخة عاجلة، ورأسي يرنّ بأسماء كبيرة لكتب ثقيلة وسمينة. أضع الدرهم على الدرهم في سبيل الحصول على المزيد من الكتب. تورطتُ بمجلدات كبيرة لم أفهم منها شيئاً، وكان عليَّ أن أخفيها كي لا تثير رعب أبي. عانيتُ كثيراً من فارق العمر. وقتها كنت لا أعرف بالضبط لماذا لم يكن مسموحاً بقراءة كل شيء. ولماذا هناك كتب للكبار وكتب للصغار.
صاحب المكتبة الذي اشتري منه الكتب كان يعاملني بطريقة كنت أجدها عدائية، فكان لا يقبل أن يبيعني كتاب “أصل الأنواع” ويعطيني كتاب “البخلاء” بدلا منه. يغضب إذا امتدّت يدي إلى سارتر، ويدعوني إلى قراءة رواية اوليفر تويست رغم انني اشتريتها منه قبل سنة. يوم سألته عن كتاب “رأس المال”، نزع نظارته وقرر بشكل حازم وشجاع أن يبيعني “ألف ليلة وليلة”.
قبل أن أتسلم دفتر خدمتي العسكرية كنت املك اكثر من 2500 كتاب. كنت معروفاً جدا لدى أصحاب المكتبات وتجّار كتب الأرصفة إلا أنني لم أكن أعرف قيمة أن يكون لي مكتبة ضخمة.
عادة ما تكون محطات البلوغ مكلفة ومحبطة، تغدر بالأحلام التي عاشت طويلاً في كنف البراءة. المكتبات الشخصية هي إحدى ضحايا البلوغ. وفي بلد كالعراق هي أيضاً من ضحايا الأزمات والحروب. أعرف الآن أن المكتبات ضد الترحال، وضد التشتت، وضد الاهمال، وضد الاكتفاء. وأعرف أيضا أن الكتب تضيع في الحالات الآتية:
1 ـ عند زيادة الإنفاق على مظاهر الأناقة بدل أن يكمل المرء دراسته الجامعية.
2 ـ الرومنطيقية المفرطة كأن يشتري صاحب المكتبة الشخصية هدية غالية جدا لفتاة يحبها.
3 ـ عند الزواج.
4 ـ البطالة.
5 ـ الحروب البربرية.
كان عليَّ، في عمر مبكر، ترك بيت طفولتي والذهاب إلى مدن أخرى. الكتب لا تحب التجوال. إنها ضد الانسلاخ وتتمتع بكبرياء متزمت. حين تتوقف كتبي عن التكاثر فإن ذلك يعني أنني تغيرت كثيراً. كنت أتفقد بين الحين والآخر كتبي الاولى التي كنت أخفيها عن أبي وأمي والتي كلّفتني العيش مثل غاندي كي أدخر أثمانها.
المكتبات الشخصية لا تنمو دائماً بطريقة نموذجية وسليمة. الأمر يتعلق بظروف قاهرة وبالغرور. طاقة التعطش قد تهبط وقد ترتفع وعادةً ما تمر لحظات من عدم اليقين وعدم الشعور بالجدوى.
نعم، لقد ارتكبتُ الكثير من الجرائم في حق مكتبتي لكنني كنت أعود ملهوفاً وتائباً وعاشقاً. ربما يصعب في حالة كحالتي القول إنني لم أصارع الآفة ولم أنتصر عليها فقد حاولتُ إنشاء عشرات المكتبات بعد ذلك ونجحت. حاولتُ استعادة العناوين نفسها ونجحت. حاولتُ دائماً مقاومة الزمن والمحافظة على البذور ولكن يبدو أن قدر الكتب أن توضع في صناديق، وأن ننصرف عنها إلى تقشير البطاطا.
الكتب الأولى تلك موجودة الآن في عهدة أمي ببيت طفولتي حيث قمت بوضعها في صندوق أعطيتها إياه لتركنه، إلى حين عودتي، في حجرة علوية تضم كل ما لسنا بحاجة إليه.
في قعر الصندوق كتاب “كليلة ودمنة” الذي لم أقرأه البتة.
_________________________
للكاتب العراقي: نزار عبدالستار. نشر بملحق جريدة النهار.
عدد المشاهدات : 795
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.