الميراث الآخر، الأكثر قتامة، لشمعون بيريز
مدير التحرير
حفّز رحيل شمعون بيريز عن عمر 93 عاماً، على كتابة الكثير من كلمات النعي والمديح المنمّقة حول العالم. وأشارت وكالات الأنباء إلى أنّ الحياة السياسية للرجل تمتد على تاريخ دولة إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948. الواقع أنّ بيريز كان آخر الأعضاء المؤسِّسين (أولئك الرجال والنساء الذين استوطنوا فلسطين لأسباب أيديولوجية أيام حكم الانتداب البريطاني في فلسطين وكرّسوا حياتهم لإنشاء دولة إسرائيل)، وبينما عُرف في آخر حياته على مستوى العالم بكونه رجل سياسة رؤيوي، وبسعيه لتحقيق السلام، كان إرثه أكثر تعقيداً وقتامةً بكثير.
كان بيريز أحد التلامذة الأوائل لديفيد بن غوريون، وهذا جعله يُعيّن في عمرٍ صغيرٍ جدّاً (29 عاماً) مديراً عاماً لوزارة الدفاع الإسرائيلية، وقد عمل أثناء تولّيه هذا المنصب على تفعيل تجارة السلاح بين إسرائيل وفرنسا وتطويرها، كما ساعد في إنشاء مفاعل ديمونة. تمنع الرقابة الإسرائيلية الصحافيين من تأكيد وجود هذا المفاعل النووي، لكنّ “مصادر أجنبية” (وتسريبات من إيميلات كولين باول) تقول إنّ السلاح النووي ظهر في الشرق الأوسط لأوّل مرّة في ديمونة.
بينما كان بيريز في وزارة الدفاع، أدّت إسرائيل دوراً قيادياً في الحملة على سيناء عام 1956، وقد استغل الرجل ارتباطاته مع الفرنسيين لوضع إسرائيل في موضع الدولة التابعة للدول الأوروبية الكبرى والدخول في حرب كانت أهدافها الأساسية فرض السيطرة الإسرائيلية على شبه جزيرة سيناء، وانتزاع السيطرة على قناة السويس من المصريين وإعادتها للفرنسيين والبريطانيين، وإضعاف القوى المناهضة للاستعمار في المنطقة. في ذلك الوقت أجبرت الولايات المتحدة وروسيا (القوّتان العظميان الصاعدتان) إسرائيل على الانسحاب نهائياً من سيناء لكنّ الرسالة للجيران كانت واضحة: نحن مع الآخرين، نحن مع الأوروبيين.
عمل بيريز وزيراً مساعداً في الحكومات التي أُلّفت بعد حرب عام 1967، وهي التي أطلقت مشاريع الاستيطان المستمرة إلى اليوم والتي تقوم على سرقة الأراضي والقمع. تعرف الحكومة الإسرائيلية منذ البداية أنها تخرق القانون الدولي منذ اليوم الأوّل، لكنّ المستوطنات في الضفة الغربية وغزّة وسيناء كانت تقدّم في البداية على أنّها امتداد لحركة الاستيطان التي أسست عشرات الكيبوتسات في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.
عام 1975 كان بيريز هو من أعطى الدعم الحكومي لأولى عمليات منظمة “شباب التلة” (وهي جماعة يهودية متطرفة تعتبر أن وجود غير اليهود على “أرض إسرائيل” مخالَفة دينية يجب تصحيحها، وهي تعتدي على الفلسطينيين وكان آخر اعتداءاتها حرق عائلة دوابشة في قرية دوما بنابلس العام الماضي). كما كان هو من دعم بحماسة إنشاء مستوطنة كدوميم وحركة غوش إمونيم (حركة دينية ترى أن الاستيطان الكثيف هو الوسيلة لتحقيق أهداف الصهيونية)، اللتين وصفهما رابين بحصان طروادة المستوطنين. وكوزير دفاع، سعى بيريز من موقعه ذاك للمحافظة على زخم حركة الاستيطان، كما عارض مبدأ إعادة الأراضي في الضفة الغربية، الذي كان جزءاً من اتفاق السلام مع الأردن. اليوم صار “شباب التلة” أكثر المستوطنين عنفاً في الضفة الغربية.
تلك كانت السنوات أيضاً التي راح بيريز – الذي حصل بعد ذلك على جائزة نوبل للسلام – يعمل فيها على ترويج بيع السلاح للعديد من الدول حول العالم. وقد أظهر تحقيق استقصائي قامت به صحيفة الغارديان (عام 2010) وثائق تشير إلى أنّه ساعد في بيع رؤوس نووية لجنوب أفريقيا إبان حكم نظام الأبرتهايد، ونفى مكتبه ذلك. وبعد عشرات السنوات ظلّ تجّار السلاح من بين أصحاب الرئيس شمعون بيريز ولطالما أنفقوا على حفلاته الباذخة (توجد تقارير بذلك).
وبُعيد انتخابه رئيساً لـ”حكومة الوحدة الوطنية” عام 1985، قدّم بيريز بصحبة إسحق موداعي من حزب الليكود أكبر خطة لخصخصة الأصول المملوكة للدولة في تاريخ إسرائيل، وترافقت الخطوات التي اتخذاها لتقليص ديون الدولة وإنفاقاتها بتخليهما جوهرياً عن فكرة دولة الرعاية الاجتماعية، واضعَين أسس السياسات الاقتصادية النيولبرالية التي أصبحت تُوجّه السياسة الإسرائيلية منذ ذلك الحين. هكذا استقى رئيس الحكومة خطته الاقتصادية، التي أراد بها معالجة الأزمة المتفاقمة التي خلقتها حكومة الليكود، من المدارس الاقتصادية الرأسمالية بدل استقائها من الفكر الاقتصادي الاشتراكي الذي يزعم حزب العمل انتهاجه.
عام 1984، أثناء رئاسته الأولى والقصيرة للحكومة، حاول أن يغطّي جريمة قتل الخاطفين الفلسطينيين في قضية الباص رقم 300، الذين ضُربوا حتى الموت أثناء التحقيق معهم بعد أن صوّروا وهم أحياء أثناء توقيفهم. كانت القضية إحدى أكبر الفضائح الإسرائيلية، وقد ساعد بيريز لاحقاً في إيجاد أعذار للمحققين الإسرائيليين الذين قتلوا الأسرى الفلسطينيين، لكنّه رفض إعطاء مثل هذه الأعذار لموردخاي فعنونو الذي أظهر للعالم عبر تسريباته، القليل مما كان يحصل في ديمونة. بيريز في الحقيقة هو الذي أعطى أوامره للموساد باختطاف فعنونو في أوروبا وإحضاره إلى إسرائيل التي حكم عليه فيها بالسجن 18 عاماً بعد محاكمة سرّية.
لم تظهر أيّ علامات “مضيئة” في مسيرة شمعون بيريز السياسية حتى عام 1992. كان إسحق رابين رئيساً للوزراء في ذلك الحين، حيث وصلت العلاقة بين الدولة والمواطنين العرب إلى أفضل درجاتها عندما اعتمدت حكومته، للمرة الأولى والأخيرة في تاريخ إسرائيل، على التعاون مع أعضاء الكنيست العرب لتشكيل تحالف حاكم. كذلك ساعد بيريز في حشد دعم شعبي لسلام قائم على مبدأ الدولتين…
رغم ذلك كانت اتفاقية أوسلو التي يتحمّل مسؤوليتها المطلقة، كارثة. تمكّن بيريز من جعل إسرائيل تتخلص من مسؤوليتها عن شؤون الفلسطينيين الاجتماعية وهموم حياتهم اليومية عبر إنشاء السلطة الفلسطينية من دون إنهاء الاحتلال. هكذا، أُوكلت للسلطة الفلسطينية جميع المسؤوليات دون إعطائها قدرة العمل بشكل مستقلّ عن إسرائيل التي ظلّت تتحكم بأغلب جوانب الحياة في الأراضي المحتلة. حافظت الاتفاقية على السيطرة المطلقة للإسرائيليين على الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن، ورافق هذه السيطرة تحكم عسكري بالموارد الطبيعية (الماء مثلاً). وفي الوقت نفسه، أدّت الاتفاقية إلى نشوء طبقة مكوّنة من أشخاص يسعون لمصالحهم الشخصية (من بيروقراطيي السلطة الفلسطينية إلى رجال الأعمال والمتعهدين، اعتمدوا كليّاً على عطايا إسرائيل، وهذا مجرد رأس جبل الجليد).
بعد اغتيال رابين، كان باستطاعة بيريز أن يستفيد من حالة الغضب والصدمة في دفع عملية السلام جدّياً، لكنّه اختار قبل الانتخابات بشهرٍ واحد أن يطلق حملة عسكريّة مدمّرة في لبنان “عناقيد الغضب” أدّت إلى قتل 113 مدنيّاً لبنانياً، ومعهم ثلاثة جنود إسرائيليين و21 من مقاتلي حزب الله والجيش السوري. معظم القتلى كانوا ضحية “مجزرة قانا” التي قصف الإسرائيليون فيها مركزاً للأمم المتحدة، التجأ إليه مئات المدنيين (نعم، تقع مسؤولية مجزرة قانا أيضاً على عاتق شمعون بيريز!). لم يتحقق أمن إسرائيل الذي كان بيريز يبحث عنه من وراء العملية، ولم يكن إلّا أن أضاع الرجل فرصة أن يكون أول قائد إسرائيلي يمضي قدماً نحو تحقيق أهداف عملية السلام التي بدأها رابين.
بعد أن تولّى بنيامين نتنياهو رئاسة الوزراء عام 1996، عاد بيريز إلى الحكومة بين عامي 1999 و2002. في هذا الوقت انطلقت انتفاضة فلسطينية ثانية قمعتها بعنفٍ ما سمّيت عملية “الدرع الواقية”. في نهاية 2002 غادر بيريز الحكومة، لكنّه عاد بعد بضع سنوات إلى التحالف الحكومي ليدعم أرييل شارون في مساعيه لـ”فك الارتباط مع غزّة”، الذي كان انسحاباً أحاديّ الجانب استفادت منه حركة حماس في مخالفة لاتفاق تفاوضي مع منظمة التحرير. كان ذلك خطأً اعترف بيريز بارتكابه لاحقاً.
بين عامي 2007 و2014، أظهر بيريز في مكتبه الرئاسي الفخم انفصاله عن الحاجات الاجتماعية للإسرائيليين العاديين، وقد تضاعفت مرتين ميزانية الإنفاق على إقامة الرئيس الإسرائيلي في عهده (خُفضت بعد ذلك في عهد ريفيلن)، وكان تمويل المؤتمر الرئاسي المترف الذي كان يقيمه كلّ عام يأتي من أصحاب مصانع بينهم من عليه دمغة وول ستريت، وتجار سلاح لبعضهم ارتباطات مع أنظمة استبدادية مجرمة، وليست مصادفة أن يكون بيريز قد منح جائزة “روح دافوس” التي يقدّمها المنتدى الاقتصادي العالمي المكرّس لتعزيز النيولبرالية الاقتصادية في العالم.
بعد نهاية ولايته الرئاسية، أصبح شمعون بيريز يدعم أكبر البنوك الإسرائيلية “هبوعليم” وشركة الأدوية العالمية العملاقة “تيفا”. كذلك بقي منخرطاً في نشاطات “مركز بيريز للسلام” الذي استحدثه وأعطاه اسمه بكلّ تواضع! هذا المركز يمكنه أن يلخّص بجدارة إرث صاحب نوبل ورئيس الوزراء والرئيس (سابقاً). وقد أصبح اليوم منتدى لأغنياء مترفين يقع مبناه في إحدى أفقر مناطق حي العجمي بيافا، وهو يطلّ على البحر واضعاً يافا وسكانها الفلسطينيين خلفه، ويكفي تجاوز شارع غير معبّد تقريباً وراء قصر السلام الباذخ هذا للوصول إلى تجمعات سكنية متداعية.
يظهر المركز من ثلاث جهات على شكل مبنى بشع ومحصّن. الجهة الرابعة فقط (تلك المواجهة للبحر مع نظرة معبرة نحو الغرب) تبيّن عن واجهة زجاجية سحرية جذابة. لعلّ هذا المبنى حقّاً هو الاستعارة المثلى التي يمكن استخدامها عند الحديث عن إرث شمعون بيريز.
________________________
- نشرت هذه المادة، في الملحق العربي، لجريدة السفير. ترجمة: ربيع مصطفى.
عدد المشاهدات : 157
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.