بغداد
مدير التحرير
عاطفيًا وحسّيًا، أنا الآن ببغداد! صحيح أنّ شرّ البشرية قد حرمنا من أن يتمّ لقاؤنا ببغداد. وكم سرحت مع ذهني، وملأ وجداني وأنا أسافر إلى العراق، حتى قبل أن أسافر الى العراق. وحين كتبت ما كتبت للقائنا بالعراق، لم أكن حيث كنتُ، بل كنتٌ بالعراق. والآن يحلو لي –لا بدّ لي- من أن أكلّمكم، كما لو أنّني أتكلّم وأنا ببغداد. نحن في تونس؟ فليكن!
مرحبا بكنّ جميعا، وبكم إخوتنا في الإنسانية، أيها الرجال. ولتحتضن تونس ضيوف العراق، ولتجتمع بغداد هنا، غير أنّني أحسّني وسأظلّ أحسّني ببغداد. أنا إثنان في واحد، أنا ببغداد، وبغداد بتونس. فلا تعجبوا ولا تتفاجؤوا وأنتم تسمعونني، أؤكد أنّني أضرب الرحال ببغداد، وأناجي دجلة والفرات: بغداد! مدينة السّلام، عليك السّلام، وحالفك السّلم، وغمرتك الطّمأنينة، من تونس جئتُ، جئتك، أنتِ شهوتنا، وفي القلب حبّك دائمًا ينبض. أنت فينا، وكم نحلم أن نكون فيك.
قيل لي وأنا أقبل على سفرتي: “ألست ترمين بنفسك إلى التّهلكة، الوضع هنالك غير مستقرّ، والموت في كلّ لحظة يفجأ؟!”. أجبت: “بغداد حبٌّ، وكتبٌ، والخالدان دجلة والفرات، وطول النّفس، وصبر أيّوب، والحياة دائما تينع، وتعيد تينع، من شقوق الصّخر، وفي حفر القنابل، وحيث يختبئ الفاسقون تينع”. ألحّوا: “لا أحد في بغداد يسلم، الموت يراود النّاس جميعا، ينقضّ من كلّ مأتى، لا تردّه حماية، ولا أسوار تعطّله، وأنت مهدّدة وصحّتك هشّة”. صمتُّ، والعزم ثابت لم يلن، وفي عزمه أن لا يلين. وجاء المدد يزيد عزم العزم عزمًا. جاء المدد من عيني أمّي ترمقانني بحنوّ وتهمسان: “بغداد نادتك، فلا بدّ من بغداد، وإن اشتدّ الخطر”.
بغداد! ها أنّني اليوم أنزلك حضنًا ناعمًا، أنت الّتي كثيرًا ما سكنتني وملأت وجداني شعرًا وأدبًا وفلسفةً وتحدّيًا وتحرّرًا مطلقًا، عبّأَ أطراف أسوارك الخارجيّة، وتسرّب عبر دوائرك حتّى القصور والمكتبات والبساتين.
بغداد، وأنا أجيئ العراق، عزمت ألاّ أبكي. ولكنّي أصارحك أنّي انتحبت، وإن في صمت. أيا بغداد، أيّها العراق: صفحكما وعفوكما أن لحقكما ضرٌّ من بعض مغرّر بهم من مواليد بلدي. بغداد، رغبةً منّي، وأنا آتيك، تتقاذفني مشاعري، وتهزّني أشواق تضرب بجذورها في التّاريخ العتيق، أن أقرأ في هذا المحفل نصًّا إبداعيًا، فاضطربت حتّى ارتجفت، وغلبني شيء كالذّعر، وملأني السّؤال: “أنا أقرأ نصًّا ببغداد، وأبين عن إبداع وخلق لغويّ وانبعاث مشاعر ورسم صور تعبّر؟!”، وفاضت في نفسي الحواسّ، وتلاحقت بل تدافعت في ذهني قصائد وأسماء أعلام وحوارات ومجالس: أبو نواس، وبدر، والجاحظ، والتّوحيدي، وأبو العتاهيّة، وجلجامش، والبيّاتي، ورابعة العدويّة، والخليل، والرّبيعي، وابن الرّومي، والزّهاوي، والرّصافي، وسعدي يوسف، ومظفّر النوّاب، والعزّاوي … أذكر من ذكرت، وفي غير نظام ولا ترتيب، لا زمنيّ ولا حسب التّخصّص، وأكتفي بهم وبهنّ، فبغداد الإبداع والفكر رمّانة دائما حبلى، أو محيط. وأنا أردت بذكرهم، ذكرهنّ، أن أشير إلى من لا يدري ذلك، أُعلمه أنّنا في تونس نتربّى منذ الابتدائيّة على كلّ هؤلاء وغيرهم، فتستقرّ بغداد في مهجتنا ويسكننا العراق إلى الأبد. ونحسّنا منه/ ونحسّه منّا، وإن ببعض فوارق وكثير من تنوّع الألوان.
أبغداد، فاجأت الوالد على حين غرّة، سألته: “أتذكر لي في حينٍ قصيرٍ، أثرًا في نفسك قديمًا، على صلة بالعراق؟”. فاجأني بأن ردّ فورًا وبطلاقة وغنّى، وهو الّذي نادرًا جدًّا ما يحاول الغناء: “طالعه من بيت أبوها .. رايحه البيت الجيران. لابسه الابيض والأحمر .. وعيونها عيون الغزلان”. وفسّر: “وأنا العشرينيّ، قُذف بي في زنزانة عزل صمّاء، انتبهت ذات ليلة ليلاء، لصوت يصدح بهذه الأغنية، علمت به أن لست وحدي، وأحسست الغناء تحيّةً، وشدّ أزر رفيق، وغمرَ حلكة زنزانتي، نور بهيج”.
أبغداد، أنت لنا ومنّا، ونحن منك ولك. وأنا جئتك عشقًا زلالا، وشوقًا عارمًا. ألجأ إلى أحضانك طفلةً تحتاج عزاءً وسكينة. أحضنك بناظريّ، بنتًا تهرع إلى عناق أمّها، وأمًّا تحنو وتواسي.
أيا العراق، أنا “لينة”، تربتي تربة الأمازيغ، ونسغي من المتوسّط، وما وراء المتوسّط، ومن الصّحراء الإفريقيّة وما وراءها، لكنّ في سعفي وجريدي كما في جذعي وعروقي ما يشي، بل يعلم، أنّ بيني وبين نخيل الرّافدين قرابة وودّ وحنان.
أيّها العراق، و أنا أتنفّس عندك، أحسّ المسافة بين ما اختزنته عنك ذاكرتي وبينك تقصر، بل تنزاح في الواقع الحيّ، وأراني أغدو شيئًا منك، أشرّش في دواخلك، لا بعيدًا عنك يزورك على عجل، ثمّ يمضي. أنا منك أصبحت، وأنت غدوت تصحبني، تسكنني، تحنو عليّ، وأحنو عليك. ترفق بي، وأرافقك في كلّ حين ولحظة، وأينما كنت. أيا العراق، في بلدي شعب يحبّك، وينظرك، ولك يصلّي، ويثق في غدك/غدنا.
أيا بغداد، ما أبهى أن أقف هنا صبيّةً ولهانةً، تقاسم أخوات وإخوة، صديقات وأصدقاء، بني عمومة وبنات عشيرة، وشركاء وشريكات في الإنسانية، حلمًا بالألوان، فيه الاعتزاز بمواطنة كاملة، وفيه سكينة المنصف، وفيه الفخر بالاستواء بشرًا ككلّ البشر، وفيه الشرّ يندحر، وفيه الرّخاء يعمّ، وفيه البنت، مثلي، لا تُحتقر، ولا يُضيّق عليها، ولا تُحرم.
أيا بغداد، أيا العراق، ما أروع أن يجيء الأمل من حيث شحّ الأمل. أيا العراق، أيا بغداد، حتّى البارحة كنت أحسبني بنت البلد الّذي لا نهر فيه، فاكتشفتني أيضًا بنت دجلة والفرات، يعمّ سخاؤهما بهاءً، وقوتًا، وهندسة، وشعرًا، وتحدّيًا، ورقصًا، وانسيابًا، وتاريخًا، فيه الكتابة، وفيه الجنان المعلّقة، وفيه اندحار هولاكو، وفيه المقاومة، وشبابًا متمرّدًا حتّى على القدر، ونساءً يطمحن إلى الأرقى ويبذلن حتّى الدّم، ليكنّ.
أيها العراق، أيا بغداد: “النّخل وإن مات لا يموت، يستردّ الحياة ويستمرّ. والثّرى يعشب، وإن تهاون المطر. والماء في الأنهر يظلّ يجري، حتّى والأنانية البغيظة تبتغي دحره. والإنسان لا بدّ يكافح، يبني قدره وإن عاكسته الأقدار. والمرأة أمًّا وأختًا وبنتًا ورفيقة درب، وشريكةً في الوطن والبذل، وإنسانية الإنسان، ستظلّ خيمة المقاومة، ورافعة البناء الجديد وإن عسر البقاء”. هكذا همست لي أمّ الشّهيد في الرّقاب بتونس، ذات ليلة دامية، وهكذا قال لي النّهر مذ لاقيته.
أيا بغداد، أيا العراق، أيّها الجمع الكريم: أحبّ بغداد … أحبّ العراق، وأمس العراق، وغَد العراق، غدنا كلّنا. أحبّكم، أحبّنا جميعا: نصبر، ونقاوم، وندنو كلّ يوم أكثر من قدرنا البهيّ. أحبّ العراق، وأنا تونس.
- —————–
في 19 يناير 2020م، قدّمت الناشطة التونسية لينا بن مهني، هذه الورقة بالتالي: “أقاسمكم نصي الذي قرأته في إطار فقرة القراءات، في مهرجان أدب المرأة العربية، الذي كان من المفروض أن يقام في العراق، فاحتضنته تونس للظروف الأمنية التي تعرفون”. وفي السابع والعشرين، من الشهر عينه، رحلت لينا بن مهني، عن 36 عامًا، من النشاط والثورة والصراع المديد مع الطغيان والسلطات والمرض، والذي يبدو أنه انتصر آخرًا. في هذا الرحيل المفاجيء، نعيد نشر هذه الورقة.
عدد المشاهدات : 608
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.