“بيدرو بارامو”
فاطمة محمد
مصافحة أولى لـ”خوان رولفو”، الكاتب الذي حمل هذا اللقب، بروايتين فقط. وصافحته من خلال “بيدرو بارامو”. حسنًا لقد كانت مصافحة قوية، اضطررت معها أن أقرأ الرواية مرتين. وأعتقد أنني لو قرأتها ثالثة سوف أراها بشكل آخر. فالنص متسع مفتوح مُحلّق في جو السماء، لأن أبطال القصة كلهم أموات، و”أنت تعرف كيف يتحدثون بطريقة غريبة هناك في الأعلى”. اقرأ تعويذاتك، وافتح دفة الكتاب الممتلئ بالأرواح، وحلّق.
تبدأ الحكاية حين يقرر “خوان بيرثيادو” أن يذهب للبحث عن والده، لأنه وعد أمه قبل أن تموت أن يفعل. فذهب بدلاً عنها يحمل عينيها ويتأمل قرية طفولتها، مخبئًا صورتها في جيب قميصه، لتدفئ قلبه. “جئتُ إلى كومالا لأنهم قالوا لي أن والدي يعيش هنا، إنه يُدعى بيدرو بارامو، هكذا قالوا لي”.
هذه العبارة التي ظل يرددها “خوان بيرثيادو”، كلما التقى شخصًا ما، حتى وصل لصديقة قديمة لأمه، أوقدت شوقه إليها حين قالت له: “كانت أمّك شديدة الجمال .. شديدة .. لنقل شديدة الرقّة مما يثير الرغبة في حبّها، وكانت لها عينان قادرتان على الإقناع”. وعندما أمن لها وقرر أن يقضي ليلته في منزلها، قال لها: “لا يوجد شيء أنام عليه هنا؟ -لا تقلق، فلا بد أنك أتيت متعبًا والنعاس فراش جيد للتعب. غدًا سأعدّ سريرك. فلا يمكن كما تعلم ترتيب الأثاث بضربة عصا، إن ذلك يتطلب استعدادًا، وأمّك لم تخبرني إلا هذه الساعة. – أمي؟! أمي توفت. -هذا هو إذًا السبب في أن صوتها كان ضعيفًا جدًا”.
هكذا هي الحوارات في رواية “بيدرو بارامو”، أنت لا تكاد تنتبه إن كان الحوار بين جسوم أحياء أو أشباح أرواح، إن كان بين عالمين أو شخصين فقط. لذلك لن تتمكن من التوقف أو أخذ فاصل، فالأفكار وحديث النفس، أو فلنقل حديث الروح متداخل ومتصل. النص ممتلئ ومزدحم. عدا عن أن الأسماء اللاتينية متشابهة، وبالكاد تميز بعضها عن بعض.
أرواح القتلة، تجوب الأنحاء هاربة من الذين قتلتهم، لأنه هناك في العالم الآخر، يصبح من كان قويًا هنا، هشًا هناك، تجتمع حوله أرواح المقتولين، تطلبه وتطالبه حقَّهم الذي سُلب، حياتهم التي كانت ستطول لولا تطفله على أقدارهم، ودسّه السمّ في طعام أحدهم، والسكين في بطن آخر.
يستيقظ “خوان بيرثيادو” فزعًا من صراخ يسمعه، وكأنه داخل رأسه. كان الصراخ يقول: “اتركوا لي على الأقل حق تخبط الساقين الذي يتمتع به المحكومون بالشنق”، ليعرف بعد ذلك أن هذا الصوت ليس سوى روح كانوا قد علّقوا جسدها في هذه الحجرة. روح ما زالت تعاني.
نموذج آخر لأحد الحوارات بين الأرواح: “- كيف قتلوك؟ – لقد قتلوني وأنا أركض، مت وإحدى ساقيّ في الهواء، والأخرى على الأرض”.
تبدو القرية في الرواية، مليئة بالأصوات الهامسة، وكل حيّ فيها يسمع أصواتًا تختلف عن الأصوات التي يسمعها غيره، حتى يظن الجميع أن الجميع قد جُنّوا عداه. نموذج آخر: ” – أسمعت يومًا أنين شخص ميّت؟ ـ لا يا دونيا أدوفيخيس، ـ هذا خيرٌ لك”. إلى نماذج كثيرة، مختلطة بالحياة والموت والوجود والشبحيّة، في ثنايا رواية مطعّمة بالجمال.
حصلت على “بيدرو بارامو”، دون توصية ولا معرفة مُسبقة، خلال تسكعي في معرض الكتاب، قبل عامين، وكعادتي ألقيتها على رفّ الكتب، تنتظر دورها الذي قرر أن يأتي أخيرًا، بعد قراءتي لتقرير أعده المترجم العراقي “عبدالهادي سعدون”، في صحيفة الأخبار اللبنانية، يتحدث عن الرواية بمناسبة مرور ٦٠ عامًا على صدورها.
صدرت “بيدرو بارامو” عام ١٩٥٥م، وتم وضعها في قائمة أهم مئة كتاب في تاريخ الأدب العالمي، واللاتيني خاصةً، متقدمة على رواية ماركيز: “مئة عام من العزلة”. تُرجمت إلى كلّ لغات العالم تقريبًا، وكان نصيب اللغة العربية منها أربع ترجمات. قرأتُ ترجمة الأستاذ صالح علماني وهو غني عن التعريف فيما يتعلق بأدب الإسبان، وترجمها أيضًا: مروان إبراهيم، عبدالغني أبو العزم، وشيرين عصمت.
“خوان رولفو”، أحد المبدعين الذين مُنحوا موهبة كتابيّة مميزة، وعلى الرغم من ذلك، نجدهم يشكّون بمقدرتهم الكتابية، يتردّدون، يكتبون ثم سرعان ما يمحون، وبالطبع، لا ينشرون إلا النزر القليل. لقد كان رولفو حين يُسأل: لماذا لا يكتب؟ يجيب ساخرًا: “لقد مات العم ثيلرينو، الذي كان يقصّ لي الحكايات”. وعمه ثيلرينو لم يكن اختراعًا. لقد عاش حقيقة. كان سكّيرًا، يكسب قوته من تعميد الأطفال. كان رولفو يرافقه في مرات عديدة، ويستمع إلى حكاياته التي يقصها عن حياته، والتي كان أغلبها مخترعة. ومرّةً، حين سئل عن السبب الذي يمنعه من نشر المزيد من الكتب، قال رولفو: “اليوم، حتى مدخّنو الماريجوانا ينشرون كتبًا. لقد صدرت مؤخرًا كتب غريبة في هذه السنوات، أما أنا فأفضّل أن أبقى صامتًا”.
وسواءً عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ، أكنتما أحد مدخني الماريجوانا أو لا، فإنّكما ستجدان في “بيدرو بارامو”، كثيرًا من الحكايات التي تمنحكما الصمت آخرًا، صمت الانبهات، في حرم الجمال، كما يقال.
عدد المشاهدات : 914
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.