حوار مع فيليب روث

حوار مع فيليب روث

مدير التحرير

كثيراً ما تجف منابع الإلهام أو يصاب الكاتب بالعجز في شيخوخته، لكن من النادر أن يعلن كاتب اعتزاله، وقد فعلها فيليب روث وأعلن توقفه عن الكتابة، وتبعه بول أوستر في حوار أجري معه مؤخراً قال فيه إنه سيتوقف يوماً ما عن الكتابة.

عندما أعلن الروائي الأميركي فيليب روث على عتبة الثمانين من عمره، عزمه على التوقف عن الكتابة نهائياً، من أجل الخلود إلى استراحة هي أشبه باستراحة «الجندي» الذي أمضى أكثر من خمسين عاماً يقاتل على «الجبهة»، ظنّ أصدقاؤه وقراؤه أنّ في الأمر مزحة تشبه المزحات التي طالما عرف بها. فهذا الروائي الكبير (مواليد 1933) عاش معظم سنيّ حياته مكبّاً على الكتابة والقراءة، جاعلاً منهما الرديف الوحيد للحياة. ويدل على هذا الانهماك الأدبي الطويل والعميق، النتاج الهائل الذي يناهز الخمسين كتاباً هي في معظمها من الروايات.

أعلن روث هذا القرار غداة إصداره روايته الأخيرة «نيميسيس» (NÉMÉSIS). ومعروف أن «نيميسيس» هي إلهة الانتقام في الحضارة الإغريقية وهي أيضاً كلمة شائعة في الولايات المتحدة الأميركية وتعني القدرية التي لا يمكن الإنسان أن يتخلص منها. ولعل الشخصية الرئيسية في الرواية، باكي كانتور، تواجه هذه القدرية متمثلة في مرض شلل الأطفال أو هذا ما يظنه قارئ الرواية للوهلة الأولى. أما أحداث الرواية فتقع في السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية وتحديداً في مدينة نيويورك (NEWARK) مسقط رأس فيليب روث.

البطل الذي يدعى باكي كانتور شاب في الثالثة والعشرين من عمره، أستاذ للرياضة وبطلٌ في السباحة والغطس، لكنه ليس كسائر الأبطال، فهو شخصٌ يؤمن بالواجب الذي علمه إياه جدّه، الذي تربّى على يده بعد وفاة أمه، والرجولة بنظره تكمن في تحمّل المسؤوليات التي تقع على عاتق الإنسان. وعندما ينتشر مرض شلل الأطفال القاتل في مدينته حاصداً الصغار والكبار، يحل نوع من الهستيريا الجماعية والخوف على سكان نيويورك بعد فشل التدابير الاحترازية للقضاء على هذه العدوى. وكان لا بدّ من أن يأخذ باكي على عاتقه مهمة السهر على سلامة تلاميذه والاهتمام بالأهالي الذين فقدوا أولادهم. يرفض باكي في البداية الالتحاق بحبيبته مارسيا ستاينبرغ التي تعمل في مخيّم للأطفال في منطقة بعيدة من العدوى، لكنه يستسلم أخيراً لرغبتها ويلتحق بها. ولكن سرعان ما يبدو فرار باكي من قدره فراراً وهمياً. فالعدوى تلحق بباكي إلى المخيّم، قبل أن يتبيّن له أنه هو مَن أتى بها. وبرغم إفلاته من الموت فهو يصاب بالشلل فيقطع علاقته بحبيبته ليحررها من عبء الاهتمام به ويستسلم لحياة ملؤها التعاسة والوحدة.

هنا ترجمة لمقاطع طويلة من حوار أجرته الكاتبة الفرنسية جوزيان سافينيو مع فيليب روث ونشرته صحيفة لوموند الفرنسية في عدد خاص أفردته لهذا الروائي الأميركي الكبير.

™ متى قررت إعادة قراءة كتبك؟

– خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لم أكتب عملاً روائياً أو قصصياً. لم أكتب إلا أموراً لكاتب سيرتي، بعض المعلومات الأرشيفية. إذا وقعت على وثيقة أو رزمة ملاحظات أو رسالة، وقد وجدت منها المئات، عليّ أن أشرح له ما تعنيه هذه الوثائق، وعما تتحدث، وفي أية ظروف رأت النور، ومن هم هؤلاء الأشخاص الذين تتحدث عنهم. لم أعد أكتب إلا أشياء من هذا النوع. إنها كتابة تفسيرية، مثل تقرير الطبيب الشرعي تقريباً، وهذا أسهل بكثير من الكتابة السردية. لا أكتب إلا بدفعة أولى، لم يعد هناك كل تلك الكتابات التي لا نهاية لها والتي ننغمس فيها من أجل كتابة رواية، ولا الشك الذي يصاحبها. هذا هو ما يشغل وقتي، تنظيم كل ما يمكن أن يفيد في توثيق حياتي من أجل توفير مادة أساسية لكاتب سيرتي. لم أعد أريد كتابة روايات، لقد اكتفيت بعد خمسين سنة من المعارك. لم أعد أريد أن أكون عبداً لمتطلبات الأدب ودقته. لقد تخلصت من «سيدي» وصرت أتنفس بحرية. قبل ثلاث سنوات، عندما توقفت عن الكتابة، قررت أن أكون حراً، الأمر الذي أتاح لي مذذاك إعادة قراءة الروائيين الذين أحببتهم في شبابي، مثل دوستويفسكي وتورغيننيف وكونراد وهمينغواي وتشيخوف.

™ وكافكا؟

– قرأت ما يكفي من كافكا في حياتي. لقد أكتفيت منه في السبعينيات من القرن الماضي، قرأته ودرسته وعلمته ثم أعدت قراءته كاملاً. وبعدما أعدت قراءة كتّابي المفضلين، قلت في نفسي إن الوقت حان لإعادة قراءة كتبي الخاصة.

™ تريد إذن ترك الحلبة منتصراً؟

– آه، لقد عرفت عدداً غير قليل من الهزائم. لكنني أيضاً بذلت قصارى جهدي مع ما كان لديّ.

™ لنتحدث عن كتاب استثنائي لديك هو «عملية شيلوك» وعن لعبة الهوية مع رديف يدعى أيضاً فيليب روث.

– كما تعرفين، لست الوحيد الذي فتن بقصص الرديف (أو القرين). هناك القصة الطويلة لدوستويفسكي «الرديف»، وهناك «الخطف» لكونراد، و«الدكتور جيكل والسيد هايد» لستيفسنون وروايات أخرى كثيرة. لكنني كنت أفكر أن أصنع ممن لديه رديف شيئاً آخر غير مجرد شخصية روائية بسيطة. أعطيته هويتي. الشخصية التي تلتقي رديفها في الحياة هي أنا. قلت لنفسي إنني بتصرفي بهذه الطريقة يثرى خيالي، وربما تصير الأشياء حية أكثر، وأعتقد أن هذا ما حصل. وفي هذا الكتاب، حيث أظهر في وقت واحد شخصاً آخر باسمي الحقيقي، وحيث نحن شخصان لا يفترقان، أعطيت «شخصيتي» خصائص ليست لي، ومن أجل حض هذا الشخص على التحرك، أعطيته دوافع ليست لي، وأيضاً لقاءات كثيرة غريبة لم تحصل أبداً، وتصرفت خلالها أحياناً بطريقة مخجلة، ولكن في الواقع، إنها ظروف لم أواجهها قط. لقد ضمّنت هذا الكتاب أيضاً شخصيات أخرى مبتكرة، وأحداثاً هدفها نشر الغموض وتطورات غير متوقعة إطلاقاً. الحدث المحوري كان تعرضي لهجوم من «رديف» مليء بالجرأة يحمل اسمي، وتورطي على نحو خطير مع هذه النسخة الجسدية الطبق الأصل مني والتي يبدو فسادها وجنونها وقوتها بلا حدود. بطلي، ليس فيليب روث الآخر فحسب، ولكن فيليب روث الحقيقي، هو أحد أبطال سيناريو غير محتمل، أو يجدر بي القول إنه يشارك في مباراة عملاقة للمصارعة. أحب كثيراً الجانب المجنون قليلاً في هذا الكتاب.

™ لماذا تقول إنك ألفت كتباً عدة، بما فيها «نيميسيس» و«المؤامرة ضد أميركا» حول فكرة الخوف؟

– لماذا لا تطرحين هذا السؤال على كافكا؟

™ لو رزقت بأولاد هل كنت لتنصحهم بألا يصيروا كتاباً، مع أنك رغبت أنت في أن تصير كاتباً؟

– عندما نقرر أن نصير كتاباً لا نكون نملك أدنى فكرة عن نوع العمل الذي الذي تمثله الكتابة. عندما نبدأ، نكتب عفوياً، انطلاقاً من خبرتنا المحدودة جداً عن العالم غير المكتوب والعالم المكتوب. نحن مفعمون بالحيوية الساذجة. «أنا كاتب»، إنها فرحة من نوع القول: «لديّ عشيقة». لكنّ العمل يوماً بعد يوم طوال خمسين سنة- سواء من أجل أن يصير المرء كاتباً أو عشيقة- هو مهمة شاقة، وأبعد من أن يكون من أكثر النشاطات متعة للإنسان.

™ هل أنت سعيد بهذا القرار؟

– طبعاً. أنتمي إلى جيل من الكتّاب الأميركيين المولودين في ثلاثينيات القرن الماضي. وصلنا بعد همينغواي، وغوستاف فلوبير والعمق الأخلاقي لجوزف كونراد، والتآليف الجليلة لهنري جيمس. وكنا مقتنعين بأننا نعانق مهنة مقدسة. كان الكتّاب الكبار بالنسبة إلينا أولياء المتخيل . وأنا أيضاً أردت أن أكون قديساً.

™ عموماً، عندما يقرر الكتّاب التوقف عن الكتابة لا يعلنون ذلك، بعكسك أنت.

– لا يريدون أن نعرف أنهم توقفوا عن الكتابة، وأن سحرهم لا يعمل. لم أذهب أنا أيضاً لإعلان قراري على السطح. لقد أتت سيدة شابة لإجراء مقابلة معي لمجلة فرنسية. وفي نهاية الحديث سألتني: «على ماذا تعمل حالياً»؟ فأجبتها: «على لا شيء إطلاقاً»، فقالت: «لماذا؟»، فقلت : «أعتقد أنني انهيت (عملي)». ولا شيء أكثر من ذلك. لم تكن لديّ النية في الإدلاء بتصريح هدفه إثارة حال من الهذيان. لقد أجبت بصراحة على سؤال مباشر طرحته عليّ صحافية جيدة. وبعد ذلك بأشهر، وقع عدد قديم من المجلة بين يدي صحافي متحمس في الولايات المتحدة، إذ كان عند الحلاق يقص شعره، فنشر الخبر الذي ترجم على نحو سيئ عبر غوغل بلغة إنكليزية مضحكة.

™ ألا تعتقد أن هذا الأمر أثار تعليقات كثيرة؟

– لا.

™ هل قلت فقط إنك ستتوقف عن كتابة الأعمال السردية؟

– في أي حال، لم أعد أكتب قصصاً أو روايات، هذا أكيد. وكما سبق لي أن قلت لك، أكتب صفحات وصفحات من التعليقات لكاتب سيرتي، ولكن هذا ليس سرداً. ولا يمكن أن يكون كذلك. ليس هنا أية كآبة.

™ قرأنا أنك تكتب رواية مع ابنة إحدى صديقاتك البالغة من العمر ثماني سنوات.. هل هذا صحيح؟

– نعم، اسمها أميليا. كتبنا قصصاً عدة طويلة معاً، ثنائياً، عبر البريد الالكتروني. تكتب هي فقرة، وأكتب أخرى، ونتبادلهما مع إرغام نفسينا على أن نكون أكثر تخيلاً خلال المبادلات. وفي هذه الفترة، نعمل على رواية شخصيتاها عالِمان، وهذان العالِمان هما كلبان. إنها فكرة أميليا. لديها مخيلة أوفيد. ولكنني في الواقع لست في صدد كتابة أعمال سردية. أتسلى مع فتاة صغيرة ذكية جداً واستثنائية جداً وأعشقها.

™ إذن، بعدما أعدت قراءة أعمالك، هل قدّرت بأنك قمت بعمل جيد، وأنه يمكنك التوقف؟

– لم أقل لنفسي: هذا جيد أو غير جيد. حصل الأمر تلقائياً، بلا سبب. لم أكن أرغب في المتابعة، وتوقفت. هذا كل شيء.

™ تعتقد أنه خلافاً لما يقوله البعض، ليست الرواية هي التي تختفي، ولكن القراء هم الذين يختفون.

– هذا صحيح. إن عدد القراء الحقيقيين، أولئك الذين يأخذون القراءة بجدية، يتقلص. إنه مثل جبل الجليد.

™ لا نزال نشتري كتباً، ولكن هل نقرأها حقا؟

– القارئ الحقيقي للروايات هو شاب يقرأ ساعتين أو ثلاث ساعات كل مساء، ثلاث أو أربع مرات أسبوعياً. وفي نهاية أسبوعين أو ثلاثة يكون قد أنهى قراءة كتاب. القارئ الحقيقي ليس هذا النوع من الناس الذي يقرأ من وقت إلى آخر، بمعدل نصف ساعة ثم يضع كتابه جانباً ليعود إليه بعد ثمانية أيام على شاطئ البحر. عندما يقرأ لا يسمح القارئ الحقيقي لشيء بتشتيته. يضع الأولاد في السرير وينكب على القراءة. لا يقع في فخ التليفزيون ولا يتوقف كل خمس دقائق ليقوم بمشترياته على الإنترنت أو للحديث على الهاتف. ولكن ما لا يقبل الجدل أن عدد الأشخاص الذين يأخذون القراءة على محمل الجد يتراجع بسرعة. في الولايات المتحدة، هذا الأمر أكيد حتماً. في الولايات المتحدة لا تنحصر أسباب هذا السخط في تعدد وسائل الترفيه في حياتنا المعارضة. نحن مضطرون إلى الإقرار بالنجاح الكبير للشاشات من كل الأنواع. المطالعة الجدية أو العابرة لا تتمتع بفرصة أمام الشاشات: أولاً شاشة السينما ثم شاشة التليفزيون، وحالياً شاشة الكومبيوتر التي تنتشر، واحدة في الجيب، وأخرى على المكتب وثالثة في اليد وقريباً ستوضع واحدة بين أعيننا. لماذا لا تتمتع المطالعة الحقيقية بأية فرصة؟ لأن المتعة التي يشعر بها المرء أمام الشاشة أسرع وأكثر حسية . للأسف، لا تكتفي الشاشة بأن تكون مفيدة جداً، إنها أيضاً مسلية. وماذا يمكننا أن نجد أفضل من التسلية؟ لم تعرف المطالعة الجدية عصراً ذهبياً في الولايات المتحدة، ولكنني شخصياً لا أتذكر أنني شهدت عصراً حزيناً كهذا بالنسبة إلى المطالعة. وغداً سيصير الأمر أسوأ، وبعد غد أكثر سوءاً. يمكنني أن أتوقع أنه خلال ثلاثين سنة، إذا لم يكن قبل، سيكون قراء الأدب الحقيقي في أميركا بعدد قراء الشعر اللاتيني.

إنه أمر حزين، ولكن عدد الأشخاص الذين يتخلون عن المطالعة للمتعة والتحفيز الفكري لا ينفك يتراجع.

™ تصر على صعوبة الكتابة، على الإحباط. أليست هناك متعة في انجاز كتاب؟

– دائماً. نعم دائماً. يمكننا القول إن أحد الأسباب التي دفعتني إلى التوقف هو أنني بعد خمسين سنة كنت لا أزال هاوياً، هاوياً أخرق يفتقر إلى الثقة، وكان يعيش في إرباك تام طوال أشهر وأشهر في كل مرة يبدأ فيها رواية جديدة.

™ ألم تكتسب ثقة بنفسك أكثر فأكثر؟

– لم يحصل ذلك قط عند بداية كتاب. من النادر أن يكون الكاتب مفعماً بالثقة منذ البداية. بل لعله العكس، تماماً، يسكننا الشك، ونسبح في المجهول. هنري جيمس، عملاق الأدب الأميركي يمثل صورة عن كل الكتّاب، ومارسيل بروست عبر عن هذا بوضوح في إحدى رواياته حيث يتحدث عن مهنة الكاتب: نعمل في السر، ونقوم بما نقدر عليه، ونعطي ما نملك. شكنا هو شغفنا، وشغفنا هو عملنا. والباقي ينبع من جنون الفن.

™ لماذا وكَّلت كاتب سيرة، بدل أن تكتب سيرتك بنفسك؟

– لم أوكل كاتب سيرة. بلايك بايلي هو حالياً أفضل كاتب سيرة في الولايات المتحدة. هذا الأمر لا لبس فيه. بعث إليّ برسالة قدم فيها نفسه. سبق له أن كتب ثلاث سير ذاتية ممتازة، وفي رأيي إنها الأفضل، بما فيها واحدة رائعة، لجون شيفر . مع بلايك بايلي، تبادلت بعض الرسائل ثم أتى من فيرجينيا حيث يسكن لرؤيتي هنا في منزلي، وأمضينا فترتين خلال بعد الظهر في الدردشة. طرحت عليه مجموعة من الأسئلة، ثم ادعى بأنني أخضعته لاستجواب، وهذا قد يكون صحيحاً. راقبته جيداً لأعرف مع أي نوع من الرجال أتعامل. وجدته مؤثراً جداً، وفي ختام لقائنا الثاني قلت له متأثراً: «ابدأ العمل».

™ إذاً، أنت تعمل لديه؟

– في الواقع أنا موظف لديه. أنا أقوم بالعمل العاقّ، مجاناً.

 

________________________________

نشر الحوار في اللوموند الفرنسية. ترجمه عبده وازن لمجلة الدوحة.

عدد المشاهدات : 971

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.