ساعات

ساعات

عبدالعزيز البرتاوي

اشتريت البارحة ساعةً سوداء، تعود لطفولتي. يوم كان أبي يهبني ساعةً، كل عام مرةً أو مرتين، ثم لا يزيد ثمنها عن ثمن وجبة في مطعم شعبيّ اليوم. ساعة رخيصة، ووقت كذلك.

تبدو الساعة صغيرة على رسغي. ساعة إلكترونية، بأرقام متنافرة، ولا تقترب للوقت الصحيح، ولو مصادفة. ساعة بزرّ جانبي للإضاءة. إضاءة خضراء ضعيفة، كشعلة شمعة على وشك الانطفاء. أتذكّر يومها، حين انتظرت الليل بفارغ الصبر، كما لو لن يأتي، من أجل تأمل إضاءة ساعتي الجديدة، بوضوح، فيما بدا منتهى الطموح التقني لتلك الأيام والليالي. 

نمت مبكّرًا على غير العادة. اختبأت بالكامل تحت لحاف مهتريء. تعجبت أمي، ما لهذا الصبيّ الليلة. كنت أنام تحت قصف تهديدها كل ليلة، وها أنذا أفعل الليلة طوعًا. ومبكّرًا. كنت أنتظر لحظة إضاءة ساعتي في عتمة الليل والفراش، لأعرف أيّ وقت نحن في هذا الليل البهيم من العالم. وأيضًا: لديّ ساعة، ينبغي أن يكون لديّ انضباط عال، يبدأ من الليلة.

لا أدري أين فقدت تلك الساعة، كما لست أدري أين فقدت تلك الأوقات. أتذكّر أني أمضيت إجازتي على سرور وهج إضاءتها. كنت صغيرًا، وما لديّ من سواد أحزان، يمكن تبديده بإضاءة ضعيفة، لساعة جديدة.

 كان ولعي بالساعات تحديدًا، ينبعث، بل يثورُ، كل زيارة لمتجر ساعات. كان أبي يرقب تلك اللهفة. ينزل أحيانًا من رفعة أبوّته، إلى حضيض لهفتي، ويهبني واحدةً، تكون مصحوبة بمواعظ تكفي لقبيلة، حول الرجولة والأوقات الجيدة والحفظ والمذاكرة وحسن الخلق مع الأم ومحبة الغرباء واحترام حقوق الحيوان. كانت الفرحة بالساعة تحيلني لمنصت جيد، يقبَل ويقبِّل كل خطب العالم وخطوبه.

أتذكّر ساعات طفولتي كلها. أتذكر المصحوبة بأزرار آلة حاسبة. أتذكّر صلاة العيد، أول عيد بالساعة هائلة التقنية، كان الناس يؤدون شعائر صلاتهم، وكنت أحسب: 5 + 5 = 10! يا للهول، أيّ معجزة أحمل بيدي. بعد الصلاة التفتَ إليّ مسنّ تركي، وقال بلغة لا أفهمها: احترام، صلاة، فندم، انضباط، تمام؟ قلت: تمام. لكني كنت مشغولا عنه، بالمباهاة بمعصمي، حامل التقنية، والأزرار المتناثرة كنجوم سماء فرحتي.

أتذكّر أخرى فضية. حصل عليها أبي، من رجل دولة نافذ. ألقاها بعيدًا حين جاءّ البيت. قال ابحثوا عمن يأخذها. لم يكن ليلبس ساعة جاءت من وقت ابن حرام. هكذا قال. حصل عليها خالي لاحقًا، الرجل الذي كان ليلبس ما شاء، دون السؤال عنْ من أين جاء. كانت لمعتها تدوّخني. بملامح أرستقراطية، تليق بيد مرتشِ أربعينيّ فما فوق. لقد أخبرتني ملامحها المرصعة الكثيرَ عن رجال الدولة، عن أوقاتهم وساعاتهم ومنحهم، وأخبرتني كذلك عن أبي.

كان ثمة أيضًا، ساعة مطبخنا. الساعة التي كبرنا على تكّاتها. تؤقتُ أمي عليها عودة أبي. أوبتنا ومواعيد ألعابنا، وساعات رحيلنا. كانت ميقات صلواتها، وحاسبة طبخاتها أيضًا، مؤقتةَ مواعيد مائدة الأرض، ومائدة السماء. ساعة بسيطة، بلا جمال يذكر، أو ملمح فارق، من متجر “ايكيا”. حين كنت أتناول عشائي، والجميع نائمون. كانت تكاتها تؤنس وحدتي، أما حين يستيقظ الجميع، فإنها تضيع في صخب أوقاتهم. ساعة شاهدت الجميع، يأتون ويرحلون. شاهدتنا أطفالًا، يشاجرون الأم بقسوة لتزيد حصةَ الجبنة في الخبز، ولمحتنا كبارًا، يتهامسون عن القروض والحكومة والفتيات.

كبرتُ. ضاعت ساعات كثيرة، من معصمي، وضاعت ساعات أكثر، من عمري. اشتريت ساعات بأثمان باهظة، وقضيت بها أوقات، لا يمكن تخيّل رخصها. تعددت ماركات ساعاتي، مدن اقتنائها، ألوانها، حداثتها، ارتباطها بهاتفي، أو ارتباطها بأشخاص عرفوا نقطة ضعفي تجاهها، فقدموها رباطًا للقرب. ساعات متعددة، ووقت واحد، يجيد الهرب كما لم يفعله أحد من قبل.

صارت الساعة اليوم، للزينة. هاتفي يغني فيما يختص بالوقت. وبالأصح: لم يعد للوقت من أهمية. قطعنا كالسيف، دون أن نقطعه كسكين بلاستيكية. ألبس لكل مناسبة، ما يصلح للمضاهاة فيها. منبّه الهاتف، ومواعيد بريد العمل، تسيّران يومي، بينما تبقى الساعات مستلقية في درج عريض، في غرفة نومي. افتحه أحيانًا، أتأمل هذه الأوقات الهائلة، تكّات عقاربها، وهي تلدغ عمري، راحلة نحو اللاعودة. بعضها قد توقف لمرّ السنين. بعضها لمعته المنطفأة تعيد لي لمعة اللحظة التي حصلت فيها عليها. بعضها يتأخر عن الوقت يسيرًا، وبعضها يتقدم كأنه يودّ اكتشاف المجهول.

كم الساعة الآن؟ أنتِ، قلتُ. ضحكاتكِ حينها، تكّات وقتنا. لمعة عينيك، تنسيني لمعة الساعة المرتداة لنيل إعجابك. معصمي تحط عليه كفّك العذبة، فلا يصبح لأي ساعة معنى أو جدوى أو قيمة. رفقتكِ، تغدو الزمان والوقت واللحظة. ساعات نهاري تسيّرها رنّة ضحكتك على تافه الحكاية، وتذكّركِ لأشياء لم تحدث، وأيمانك المغلظة على حدوثها. بينما ساعات ليلي، تؤرصفها لحظات الانسياب معك، في طرقات مدينةٍ، نؤثث آتيَ أيامها بالحنين.

مخرج 1:
“الساعة: جزء من أَجزاء الليل والنهار، والجمع ساعاتٌ وساعٌ؛ قال القطامي: وكُنّا كالحَرِيقِ لَدَى كِفاح، فَيَخْبُو ساعةً ويَهُبُّ ساعَا. وتصغيره سويعة. والليل والنهار معاً أَربع وعشرون ساعة، وإِذا اعتدلا فكل واحد منهما ثنتا عشرة ساعة، وجاءنا بعد سَوْعٍ من الليل وبعد سُواع أَي بعد هَدْءٍ منه أَو بَعْدَ ساعة. والساعةُ الوقت الحاضر. وقوله تعالى: ويوم تقوم الساعة يُقْسِمُ المجرمون؛ يعني بالساعة الوقت الذي تقوم فيه القيامة فلذلك تُرِكَ أَن يُعَرَّف أَيُّ ساعةٍ هي، فإِن سميت القيامة ساعة فعَلى هذا، والساعة: القيامة. وقال الزجاج: الساعة اسم للوقت الذي تَصْعَقُ فيه العِبادُ والوقتِ الذي يبعثون فيه وتقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأَنها تَفْجَأُ الناس في ساعة فيموت الخلق كلهم عند الصيحة الأُولى التي ذكرها الله عز وجل فقال: إِن كانت إِلا صيحة واحدة فإِذا هم خامدون. والساعة في الأَصل تطلق بمعنيين: أَحدهما أَن تكون عبارة عن جزء من أَربعة وعشرين جزءاً هي مجموع اليوم والليلة، والثاني أَن تكون عبارة عن جزء قليل من النهار أَو الليل. يقال: جلست عندك ساعة من النهار أَي وقتاً قليلاً منه ثم استعير لاسم يوم القيامة. قال الزجاج: معنى الساعة في كل القرآن الوقت الذي تقوم فيه القيامة، يريد أَنها ساعة خفيفة يحدث فيها أَمر عظيم فلقلة الوقت الذي تقوم فيه سماها ساعة. وساعةٌ سوْعاءُ، أَي شَدِيدةٌ كما يقال لَيْلةٌ لَيْلاءُ. وساوَعَه مُساوَعةً وسِواعاً: استأْجَره الساعةَ أَو عامله بها. وعامَلَه مُساوَعة أَي بالساعة او بالساعات كما يقال عامله مُياوَمةً من اليَوْمِ لا يستعمل منهما إِلا هذا. والسّاعُ والسّاعةُ: المَشَقَّةُ. والساعة البُعْدُ؛ وقال رجل لأَعرابية: أَين مَنْزِلُكِ؟ فقالت: أَمَّا على كَسْلانَ وانٍ فَساعةٌ، وأَمَّا على ذِي حاجةٍ فَيَسِيرُ”. | ابن منظور – لسان العرب

مخرج 2:
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زَبْرٍ: “إِنَّمَا سُمِّيَ بَابُ الْجَامِعِ الْقِبْلِيُّ، بدمشق، بَابَ السَّاعَاتِ، لِأَنَّهُ عُمِلَ هُنَاكَ بِرْكَارُ السَّاعَاتِ، يُعْلَمُ بِهَا كُلُّ سَاعَةٍ تَمْضِي مِنَ النَّهَارِ، عَلَيْهَا عَصَافِيرُ مِنْ نُحَاسٍ، وَحَيَّةٌ مِنْ نُحَاسٍ، وَغُرَابٌ، فَإِذَا تَمَّتِ السَّاعَةُ خَرَجَتِ الْحَيَّةُ فَصَفَّرَتِ الْعَصَافِيرُ، وَصَاحَ الْغُرَابُ، وَسَقَطَتْ حَصَاةٌ فِي الطَّسْتِ، فَيَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ مِنَ النَّهَارِ سَاعَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الساعات”.

مخرج 3:
“وليس يستعمل الساعات من الهند إلّا منجّموهم، في أرباب الساعات التي هي سبب أرباب الأيّام، ويكون ربّ اليوم ربّ الليل أيضًا، لا يفصلون النهار منه، ولا يذكرون الليل أصلا، واسم الساعة (هور)، فيفتح هذا الاسم استعمال الساعات المعوجّة وذلك أنّ أنصاف البروج التي نعرفها بـ (النيمبهر) يسمّونها أيضا (هور)”. | البيروني

مدخل:
أدندن، رفقة صباح: “ساعات، وساعات، أحب عمري، وأعشق الحاجات”، ورغم كونها “صباح”، لكنّي “أستيقظ في الليل، بينما ساعتي تملأ الليل كله”، كما يقول بيسوا. لحظة من فضلكم. أضغطُ الزر الجانبي لإضاءة ساعتي الجديدة، تومض طفولتي: الساعة الآن 2:41 دقيقة صباحًا. أمي ليست بجانبي لتقول: كفّ عن اللعب، وأكمل نومك يا فتى.


عدد المشاهدات : 2389

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.