سِفر الحنين، مقطع الوحدة

سِفر الحنين، مقطع الوحدة

عبدالعزيز البرتاوي

لا أعرف ما الذي تضمرينه إزائي. أعرف أنه يروقني ما يبدو منّي إزاءك. كنت أتعمد أن لا أمرّ بالمرايا، طالما بقيت هذه الأحزان تلطخ ملامحي كل صباح، لكني أدفع عمري ثمنًا، لأرى وجهي في مرآتك.
تدلف فاتنة للتوّ المقهى. كاشفة عن وجه حلو، تغنّج ملامحه الصباحات، تدخل واثقة، بجسد بديع، وزينة بادية، في مقهى مدينة لا تجلّ ذلك ولا تُحلّه. يلتفت المقهى إليها. الندلة تعلو محياهم بسمات هائلة، منْ كانوا مكشرين قبل قليل إذ دخلتُ. الذين كانوا يقرؤون كتبهم السخيفة، يقرأون الآن ملامحها. تتفحص قائمة قهوة اليوم، حالما يكمل النادل المجتهد سكب قهوتها. تضع الآن سكّرَ قهوتها، وأكتب أنا: أنتِ أكثر عذوبة من سكّر قهوتها إذ تذوقه.
أتأمل الجريدة أمامي، في المقهى يشعلون أغاني تافهة. يشعلون؟ يشغّلون. أغان آلية، تبدو شغلا، أكثر منها شعلة. صور كثيرة تبتسم -كالعادة- في الصفحة الأولى. عناوين عريضة، عرض خيباتنا وبسماتهم. مآسينا، ما زالت مآسينا، ولا أحد يواسينا.
يصرّ البرد القارس القارص أسنانه على أطراف الطفولة التي قالت: يسقط الطاغية، فسقط سقف منزلهم. سقطت دموع أمهم. سقطت أحلامهم، وسقطت حكايات كثيرة، وشرفات، وأصص ريحان تيبّسَ، وأعشاش طيور رائعة ماتت روعًا، ولم يسقط الطاغية بعد. على كل: الطاغية، ساقط أبدًا.
تقلّبين الكتب يا عزيزتي، ما تقرئين، وما تتركين، أنتِ حيرى، وهي كذلك. أيها يفوز بالجلوس في حجرك، متدفئًا في مخمل عطر كفّيكِ؛ حين تقرئين جالسة، وأيها ينال حظوة البقاء على وثير صدرك، حين تفضّلين القراءة مستلقية على فراشك الفردوسي. يقول الكتاب: قلّبي صفحاتي على مهل سيدتي، فمهما بدت حكاياتي ممتعةً، إنّ حكايا عينيك أمتع.
تمضين هادئة في مدينتك البعيدة. طَرْق كعبي حذائك، على رصيف مجهول، أعذب من كل أغاني الدنيا. تغضبكِ الشمس، تستشرس على محيّاك البهيّ. التمسي لها عذرًا، الغيرة تفعل أكثر.
في هذه المدينة، المدينة التي تقول بطاقة هويتي أنها مدينتي، وأني لست الغريب فيها، تصوّب إليّ مئتا دبابة، فُوَّهات بنادقها الآلية، بحجة حماية ثكنات الغريب الحقيقي عنها. أخرج صباحًا صوب المقهى، تحييني فوّهة المدرعة التي تحمي أطفال المهندس الأمريكي، جارنا سابقا. يرمقني العسكري الكئيب عبر منظار التصويب. من يدري، لعله يجعل من شعيرة التصويب، في منتصف جبهتي، لعبته كل صباح.
نحن غرباء حتى في مدننا الأصلية. راتب الغريب البعيد، بأضعاف هائلة، أعلى من مرتبي. لون بشرته، ولمعة حقد عينيه، وبسطار دولته يحددون بدلا في المرتب لا يمكن أن يحوزه أسمر مثلي، رأس مال دولته، استرضاء قادته السفلة. أما الغريب القريب، شبيهي في الدم والسمرة والدِّين والدَّين والانكسار، فمآله لجان التصحيح وغرف الترحيل ومطاردة الجوازات، وشتائم الحمقى الذين يضعون على عاتق كسبه القليل، أرتال سرقات بلد كامل.
مضى الذين كنت أرى في وجوههم مسحة خيرٍ تشعّ في سماء البلد. غيبتهم زنازن الحكومة. في الجبّ والسجن، تبيضّ أذقانهم من الحزن والأسى، أهذا جزاء شيبات قلوبنا. قبّلنا كفّ الجلاد، فلمَ يصفعنا؟ لكنه طبع الليالي والزمان: تمرد اللئيم، وعضّ القريب.
كل مساءٍ، وأنت تستطعم قهوتك في مقهى قصيّ عن المدينة، فكّر بالذي في السجن الآن، لا قهوة ولا حبيبة ولا كتاب ولا أنيس، سوى الحزن والحنين. من ذَا يكاتب حبيبته الآن، من ذَا يواسي ليلها، ويكفكف دمعها، وتستعرض له لون روجها الأخير، فيقول لها إنه يشبه دمه، ويعيد لها نكتة سخيفة، فتضحك لها حتى الصباح؟
من ذَا يطمئن قلب أم، ويوقف وجيب قلب ابنة؟ من يمسح عن وجوه الأطفال كآبة إلقاء كاسبهم في قعر مظلمة، ولا من عُمَر ولا عدله، ولا حتى من يستحق هجاء الحطيئة؛ إنهم أحطّ.
ماذا يمكن أن تقول لطفلة فقدت أبويها في الحرب، بسبب قصف تقوده بلادك -ههه بلادك، ياء الملكية اللعينة-، تُربّت على حزن عينيها في الملجأ، تنفض بعض غبار جديلتها، وتهبها حقيبة رخيصة، وثمن خبز ليلتين، وتغمض عينيك أسى وهي تقول: هل صحيح أن طائرة من بلادك، دكّت بلادي، وأبي وأمي وكل ملاذي. وتستذكر: أنت آت من بلاد كانت توزع خيراتها على كل بلاد، فلماذا توزع الموت الآن على أقرب البلاد؟
أنا غريب، وأنتم غرباء. وقديما قال جدّنا اليماني الأول، ذَو القروح وذو الجروح، الملك الضليل: امرؤ القيس: “وكلٍّ غريبٍ، للغريب نسيب”. يا أنسبائي في الغربة والحزن والصدى والعطش؛ ليلنا طويل، وحزننا كذلك؛ لكننا سنقطعه بالحكايات وشتم الحكومة. وأن تولّع في البلد، خير من أن تدعو للظلام بالهداية.

عدد المشاهدات : 2953

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.