صوتك يستطيع تغيير الأشياء

صوتك يستطيع تغيير الأشياء

عبدالعزيز البرتاوي

في الخامس والعشرين من مارس الماضي، كانت ثمة أحداث جمة تغتال صفاء هذا العالم. من بينها، وخصوصًا ما يتعلق بالشأن الثقافي، وما يهمّ الأمة القرائية، رحيل الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي، المتحدث الرسمي باسم مهزومي العالم، عن عمر يشارف التاسعة والستين. متأثرًا بمرض السرطان -الذي طالما كتب عنه-، وبعالم أوجاعه البرلسكونية، لا تترك للروح وقتًا لشمّ نسيم أصفى.

المدينة التي عشق هذا الإيطالي، كانت لشبونة البرتغالية. فيها نشأ شاعره المفضل “بيسوا”، وفيها مات هو نفسه، قبل أيام.

دخل تابوكي الحياة البرتغالية من أجل قصيدة. وتعلم اللغة البرتغالية من أجل شاعر. وتتبع المفردات البرتغالية، ليصبح المترجم الأشهر، لـبيسوا خصوصًا. حائزًا أستاذية هذه اللغة في جامعات إيطاليا. وليكون “أكثر الإيطاليين برتغاليّة”، كما يقول أمين عام المجلس الأعلى للثقافة في لشبونة.

أمتع العالم بترجماته وكتبه ونقده وببيسوا الذي أنفق عمره عليه قراءة وكتابة وترجمة عنه وعليه –ترجم أعماله الكاملة للإيطالية-، ثم رحل سريعًا، لم يكمل السبعين، معنونًا مجموعته القصصية الأخيرة بـ: “الزمن يشيخ بسرعة”.

مردّ هذا الإعجاب والتماهي في لغة أخرى، إلى الصدفة التي منحت الشاب المتجول في باريس، نصًا شعريًّا في محطة سفر، تحت عنوان: “دكان التبغ”. كان النص المطبوع شعبيًا، يحمل اسم الشاعر: “أَلْفَارو كَامْبو”، والذي لم يكن سوى “فرناندو بيسوا” في هويّة أخرى. شاعر “اللاطمأنينة”، أربك حسابات الفتى الإيطاليّ. قرأ نصا مفعما بالحرارة والحياة، هو المعتاد على الشعر الإيطالي الملحمي البارد. قال معلقًا على هذه القصة فيما بعد: “في تلك الحقبة، لم يكن هناك أي شاعر إيطالي جدير برواية أي شيء، بهذا الشكل القويّ، إذ كان الجميع يتلوون ويبكون من ألم الحب”.

دخل الإيطالي تابوكي إلى العالم عن طريق البرتغال. بيسوا والبرتغال حاضران في أغلب أعماله. أدبية ونقدية. جاء كتابه، “جنّاز”، أو صلاة من أجل راحة الموتى، والذي يحكي لقاءً تخيليًّا مع بيسوا في مقبرة الأخير باللغة البرتغالية. وكتاب “هذيان: الأيام الثلاثة الأخيرة من حياة بيسوا” –ترجمه إسكندر حبش عن المركز العربي الثقافي 1997-، وكتابه الأوفر عملًا وجهدًا عن بيسوا أيضًا: “حقيبة مليئة بالناس”.

أما في مجال الرواية، فقد كان “بيسوا” بطل روايته “ليالي هندية”، -ترجمها رفعت طه عن دار ورد السوريّة، وحولت إلى فلم فرنسي-. وليكون البرتغال حاضرًا في روايته الأخرى والأشهر “بيريرا يدّعي”، مصوّرًا أجواء القمع والحريات المنعدمة، قبل ثورة القرنفل، المصادفة للخامس والعشرين من أبريل، يوم استسلم على إثرها رئيس الحكومة مارسيلو كايتانو عام 1974، سليل الحقبة السالازاية الآتية بانقلاب عسكري، منح كل السلطات لسالازار، والذي كان بالمناسبة كاثوليكيًّا ورعًا ومحافظًا متزمتًا.

الرئيس مارسيلو المحاصر في هيئة أركان الدرك، أعلن استسلامه للثورة الشعبية، نقل سلطاته إلى الجنرال سبينولا، وفي الليل قامت الحشود بالإفراج عن مئات السجناء السياسيين، وانهار النظام الديكتاتوري في البرتغال، ليكون الصحفي العجوز “بيريرا” بطل رواية تابوكي، محطّ تساؤلات جوهرية وإشكالية، حول ما يهدد المصلحة العامة قبل الثورة، وأكاذيب النظام حول أمن البلاد وتزعزع القومية البرتغالية. وليفقد الصحفيّ الأديب منصبه آخر الأمر، إثر نشره نصًا أدبيًا –قصة قصيرة للكاتب الفرنسي موباسان-، رأت الحكومة فيها تهديدًا لأمن البلاد والمصلحة العامة.

بعد ذلك كتب تابوكي روايته: “رأس داماسينو مونتييرو الضائع” عن البرتغال أيضًا. تُرجمت للغة العربية عن دار ورد السوريّة.

لكنّ تابوكي لم ينسَ إيطاليا وهو يتريّض في حدائق لشبونة، إذ أن الكثير من الإيطاليين الذين قرؤوا روايته “بيريرا يدّعي” بأحداثها البرتغالية وأبطالها اللشبونيين، رأوا فيها تورية عما يجري من خنق وقمع وفساد في الساحة الإيطالية. ولهذا أصبح الكاتب الأشهر في إيطاليا، بعد روايته الأولى: “ساحة ايطاليا”، والتي صدرت عام 1975. ورفعتها المظاهرات الإيطالية المناهضة لحقبة ما بعد موسوليني. الترجمة العربية لوفاء شوكت عن منشورات ورد السورية.

هذا الولع بكلّ ما يمتّ للبرتغال: شعرًا وحياة، لم يكن غريبًا على إثره أن يقطع التلفزيون البرتغالي بثه لينشر خبر رحيل كاتب إيطاليّ مرشّح دائم لنوبل. –حصل على الجنسية البرتغالية تشريفًا عام 2004م-. وهذه مرات لا تتكرر في عشق هوية ولغة أخرى لأجل قصيدة وشاعر.

إيطاليا أيضًا، نصفه الآخر كما يقول –كتب مقالة مطولة في اللوموند يؤكد فيه إيطاليته إثر استضافته في معرض باريس الدولي للكتاب عام 2000 كأحد أهم الكتاب البرتغاليين المعاصرين-. لم تتوان عن إعلان العزاء في رحيل كاتبها الذي كان غاضبًا من أجوائها السياسة الفاسدة، كما صوّر في مقال أخير توافقَ مع سقوط رئيس الوزراء السابق بيرلسكوني، وعنونه بـ «فكّ إيطاليا من بيرلسكوني»، وبدأه بقوله: “الأسواق الأوروبية تودع سيلفيو بيرلسكوني. كم هو مريح أن نعرف أن حيوانًا هكذا سيرحل عن الحياة العامة”.

هو الذي كان يكتب منصرفًا إلى الأدب والترجمة، رفع صوته عاليًا ضد السياسية الأوربية تجاه الغجر وترحيلهم. كان موقفه مضادًا للنخبة اللزجة المدجّنة من حرب الألبان في البلقان. كتب كتابه “ألم في معدة أفلاطون” ليقول لا لسجن المثقفين والفلاسفة، وما حدث في عهد “سنوات الرصاص”. أسّس “البرلمان الدولي للكتّاب”. أدهش الجمهور الإيطاليّ بمقارعته لبرليسكوني، وحقبة تجار المافيا الساسة. تعمدت السياسة تجاهله، لكنه صار أكبر منها.

ودّع تابوكي الحياة في المدينة التي أحبّ: لشبونة. محاطًا بزوجته البرتغالية، وأصدقائه البرتغاليين، والإيطاليين، والفرنسيين، حيث اللغات التي عشق وأجاد وترجم منها وإليها. نعاه أصدقاء أدباء كثيرون من أماكن متعددة، كان أبرزهم الروائي السويسري برنارد كومينت –مترجمه الدائم للفرنسية ومعلن نعيه للعالم-، مخاطبًا إياه إثر رحيله: “كلّ أصدقائك يا انطونيو، هنا أو في أماكن بعيدة، على وعي اليوم بأن حياتنا ارتقت بفضلك، لأنّنا عرفناك وشاهدناك واستمعنا إليك. كانت لديك تلك المهارة النّادرة في تنوير الحقائق وربط الصّلات وتحديد مواقع الجمال، وقبل ذلك تحديد الأخطار وطبيعتها. وإذ كنا نغادر المطعم بعد عشاء بصحبتك كنّا نشعر بأننا اكتسبنا شيئًا، وأنّنا لم نضيّع وقتنا، وأنّ صوتك يستطيع أن يغير الأشياء. هنا، أريد أن أحيّي شجاعتك يا أنطونيو، تلك الشجاعة الحقيقية. وليست شجاعة الشخصيات السّفسطائيّة الوقحة المحبة للظهور، والتي تعرف الحدود التي لا يمكن تجاوزها. مخبري القصور الذين يظلون مع ذلك داخل القصر، والذين يعرفون كيف يحتفظون بموقعهم في القصر مريحين ضمائرهم. أولئك بهلوانات القصور، كما كان يسمّيهم بازوليني”.

في مدافن برازيرس بشمال لشبونة، عام 1935م دُفن الشاعر البرتغالي الأشهر فرناندو بيسوا. في ذات المقبرة، ثمة قبر آخر يجاوره الآن، نقشت عليه برقة العبارة الآتية: “هنا يرقد أنطونيو تابوكي”.

عدد المشاهدات : 1004

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.