صوتها لا ينحني لأحد
مدير التحرير
تغنّي فيروز منذ العام 1950. وهي منذ ذلك التاريخ لم تتوقف يوماً عن الغناء للحرية والحبّ والحلم والأمل والإنسان. في السياسة، انحازت أغنيتها للأوطان والمدن والشعوب والثورات، وفي المقدمة قضية الشعب الفلسطيني. لم تغنّ لزعيم، ولم تبتسم لزعيم. كانت دائماً في صلب الجوهر. ولا تزال مقيمة في هذا الجوهر. كم يستحيل أن يؤخذ عليها الانغماس في مستنقع. فكيف في مستنقع الحروب الصغيرة والسياسات الصغيرة والحسابات الصغيرة.
في خريف 1966، سافرت فيروز إلى مصر برفقة الأخوين عاصي ومنصور رحباني، ملبيةً دعوة رسمية من وزير الثقافة والإرشاد القومي أمين هويدي. قبل وصول الثلاثي الفني اللبناني إلى القاهرة، رحّبت مجلّة “الكواكب” بهذه الزيارة، وزيّنت غلافها بصورة كبيرة لوجه فيروز مرفقة بعبارة: “أهلا بفيروز”. كتب رجاء النقاش يومذاك: “فيروز والأخوان رحباني يمثلون زهرة بديعة أصيلة من زهور الفن العربي المعاصر. زهرة خالدة، ثمرها دائم، وعطرها أصيل، وأوراقها ربيعية لا تعرف الإصفرار، ولا تعرف الذبول. وكم سعدت قلوب العرب في كل مكان بصوت فيروز وألحان الرحباني، فأهلا بفيروز في القاهرة، وأهلا بها في قلوبنا: عرش فيروز الدائم”.
تشهد هذه الكلمات بصورة معبّرة للمكانة التي بلغتها فيروز في فضاء الغناء العربي في منتصف الستينات، بعد مسيرة حافلة بدأت في مطلع الخمسينات. هي نهاد وديع حداد، وُلدت في منتصف الثلاثينات، نشأت وترعرعت في منزل متواضع في حيّ زقاق البلاط القريب من وسط بيروت، وبدأت مشوارها الفني من هناك، يوم كانت تلميذة في مدرسة “حوض الولاية” للبنات. بحسب الرواية الشائعة، كان الأخوان محمد وأحمد فليفل، يحضّران لتقديم عمل عنوانه “نشيد الشجرة” عبر الإذاعة اللبنانية، وكانا في حاجة لأصوات جميلة، فبدأا رحلة التفتيش عبر المدارس، وتوقّفا في “مدرسة حوض الولاية”، حيث قدمت إليهما مديرة المدرسة سلمى قربان فرقة المنشدات التي راحت تنشد أمامهما. لفت سمع محمد فليفل صوت التلميذة الصبية نهاد حداد، فتبناها فنيا، وأدخلها الكونسرفاتوار لتدرس أصول الموسيقى في إشرافه. بعدها، دخلت نهاد حداد الإذاعة اللبنانية، واختير لها هناك اسم فيروز. في المحطة اللبنانية، التقت المغنية الفتية بالأخوين عاصي ومنصور رحباني، ودخلت معهما سريعا في مغامرة فنية جديدة.
بدأ الرحبانيان مشوارهما في الإذاعة اللبنانية في العام 1948، وشكّل دخول فيروز هذه الحلقة تحولا جذريا في هذه التجربة. سرعان ما انتقل التعاون إلى شراكة كاملة منذ العام 1952، وصارت فيروز صوت الأخوين رحباني منذ تلك الفترة. كانت أول أغنية رحبانية لفيروز قصيدة “غروب” لقبلان مكرزل، تبعتها سلسلة طويلة من الأغاني واللوحات الغنائية توزعت على ثلاث إذاعات، هي إذاعة لبنان، وإذاعة الشرق الأدنى، والإذاعة السورية. في مطلع العام 1952، كتبت مجلة “الفن” المصرية: “أصبح إنتاج الأستاذين عاصي ومنصور رحباني يملأ برامج محطات الإذاعة في لبنان ودمشق والشرق الأدنى، وقد فاوضتهما أخيراً محطة بغداد لتسجيل اسكتشات عدة وأغنيات بأجر ممتاز، وقد تلقّت المطربة الشابة فيروز، وهي كوكب البرامج الرحبانية رسالة من الموسيقي العالمي ادواردو بيانكو يعرض فيها عليها إقامة حفلات عدة في مسارح نيويورك وباريس، وذلك بعدما سجلت اثناء وجوده في لبنان بعض أغانيه العالمية بصوتها الساحر ووُفّقت في غنائها كل التوفيق”.
في أيار 1953، تحدثت مجلة “الاثنين” المصرية عن “كوكب الإذاعات العربية الجديد”، وقالت إن محطات لبنان والشرق الأدنى باتت تذيع يوميا “ثلاث أغنيات على الأقل لفيروز”، وإن هذا العدد يبلغ بعض الأحيان العشر في برنامج “ما يطلبه المستمعون”. كانت المغنية يومذاك صبية “لا تزال طالبة في المدرسة، يحمر وجهها خجلا اذا قال لها أحد: صباح الخير. وقد بدأت تغني في فرقة الكورس بمحطة إذاعة بيروت، إلى أن اكتشفها الأخوان رحباني، وتعاقدت معها محطة إذاعة دمشق على تسجيل عشرات الأغاني، فارتفع اسمها مرة واحدة حتى طغى على الجميع، وارتفع بذلك كسبها من خمسين ليرة لبنانية، إلى خمسمئة على أقل تقدير”.
سطع نجم “كوكب الإذاعات العربية الجديد” بسرعة قصوى، وباتت المغنية الخجولة نجمة من نجمات الفن. في أيلول 1955، خصّت مجلة “الصياد” اللبنانية عاصي رحباني ببطاقة تعريف ضمن زاوية ثابتة عنوانها “أرشيف الفن”، وممّا جاء فيه: “زوج فيروز. بدأ حياته مزارعا ثم شرطيا ثم مونولوجيست على مسارح الضيعة. أستاذه الموسيقي الأول الأب بولس الأشقر. وأستاذه الثاني البروفسور روبيار. وأستاذه الثالث فنه الفطري الجميل. انتقل عام 1947 من مسارح الدورة ليغنّي في محطة بيروت، راديو الشرق آنذاك، مع شقيقه منصور وشقيقته نجوى المقطوعات ذات الثلاثة أصوات (بوليفوني). صاحب مدرسة حديثة في الشعر اللبناني والأغنية الخفيفة. فنان مقتبس، وصادق في فنه واقتباسه. لمع قبل اكتشاف فيروز بسنتين، ولما ظهرت فيروز اتسع مجال النشاط والإنتاج والشهرة إلى أضعاف ما كانت عليه”.
حزب الفيروزيين
قدّم الأخوان رحباني بصوت فيروز أغنيات وطنية تميّزت بطابعها الجديد. خرجت هذه الأغنيات عن الخطابية السائدة، وتجرّدت من امتداح الرؤساء والحكام. في العام 1954، زار ملك العراق فيصل الثاني لبنان، وسجّلت الإذاعة في تلك المناسبة ثلاث قصائد ترحّب بالضيف. غنّى حليم الرومي من شعر الأخطل الصغير: “أيها الفيصل المؤمل يا من/ باسمه هودج العروبة يحدى”. وغنّى صابر الصفح من نظم سعيد العندي: “يا عريق المجد ان عدّ الفخار/ أنت للأجيال هدي ومنار”. وغنّت فيروز قصيدة للأخوين رحباني غاب عنها أي ذكر للملك، ومطلعها: “دار السلام على الأنسام ألحان/ يزفّه من ربوع الأرز لبنان”. تختصر هذه الواقعة، السياسة التي اعتمدها الأخوان رحباني خلال مسيرتهما الطويلة مع فيروز، وتمثل في هذا المعنى التزاما فريدا لا نجد ما يماثله في تاريخ الغناء الوطني العربي.
بين 1951 و1955، سجّلت فيروز في دمشق مجموعة هائلة من الأعمال الغنائية تضمّنت العديد من الأعمال الوطنية الخاصة بسوريا، منها سلسلة من الأناشيد كتبها ولحنها الأخوان رحباني، مثل “موطن المجد”، “بلادنا لنا”، “يا شباب البلاد”، و”فتاة سوريا” و”الصحارى”. كما تضمنت قصيدة “ذكرى بردى” من ديوان الأخطل الصغير، ولوحة غنائية عنوانها “دمّر”، وأخرى عنوانها “السوار”، إلى جانب قصيدة رحبانية بديعة، عنوانها “إلى دمشق”، مطلعها: “بلادي وحبّك يا موجعي/ معي يعيش يا بلادي”. في كل هذه الأعمال، تغنّت فيروز بالشام ولم تسمّ على الإطلاق، قائداً من قادة سوريا. إلى جانب هذه الأعمال، غنّت فيروز من كلمات الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي الشهير بأبي سلمى: “هل تسألين النجم عن داري/ وأين أحبابي وسماري”، و”أين الشذى والحلم المزهر/ أهكذا حبـّك يا أسمر”، وخرجت هاتان القصيدتان عن مجمل الأغاني الوطنية الفلسطينية التي ظهرت في تلك الفترة.
في العام 1955، دعت إذاعة “صوت العرب” فيروز والأخوين رحباني الى تسجيل مجموعة من الأعمال الغنائية في القاهرة، ولبّى الثلاثي الدعوة بعد زواج عاصي من تلميذته الخجول. لمصر، في زمن عبد الناصر، غنّت فيروز “أرضنا أنشودة الزمان/ سخية الغلال عميقة الإيمان”، “لضجة المصانع لحني وللقباب/ فيض دخان طالع يعانق السحاب”، ولم تذكر قط زعيم البلاد وقائدها. بحسب الرواية المتداولة، طلب مدير الإذاعة أحمد سعيد من الرحبانيين إنجاز عمل خاص بالقضية الفلسطينية، فكانت مغناة “راجعون”. سُجّل العمل في القاهرة بمشاركة كارم محمود الذي أدّى فيه وصلتين جميلتين، وأذيع للمرة الأولى في الرابع من تموز 1955، وأُعيد تسجيله في بيروت بعد عام أو عامين، مع بعض التعديلات في النص. أعجب ميشال أبو جودة بهذا العمل الفذ، وقال للأخوين رحباني: “أنتما مؤسسا العمل الفدائي”، كما روى منصور رحباني في كتاب الذكريات الذي حمل عنوان “طريق النحل”. هكذا جمعت فيروز منذ منتصف الخمسينات بين لبنان وسوريا وفلسطين، وأضحت صوت المشرق العربي الأول.
صوت الأمّة
في العام 1956، كرّمت مجلة “الشعلة” نجمة لبنان، وكتب فارس عقاد في تلك المناسبة: “وهكذا كما كان منتظرا، فاز صوت فيروز. الصوت الوحيد الذي لا يقلِّد ولا يقلَّد. الصوت الأسطورة. فيه البراءة التي تبرئ، والنضج الذي يخمر، فيه طراوة الندى وحياء البنفسجة. فيه الأجمل من الجمال، الأحسن من عاطفة الأم، الأنعم من العذار. فيه نقاوة البلور وطهر الطفولة وحلاوة السذاجة. فيه القمة تحت المتناول والرجفة التي تتلوى برفق. الصوت الذي أُنزل ليتغزّل به الشعراء ولتموج به الأرواح. وليلم التغريدة الشدو وليملأ الأفق تغريداً. صوت فيروز هو التعبير الصادق عن حقيقة هذه الأمة، عن وداعتها وكمالها وروعتها ورسالتها وسموّها وعمق محبّتها. فيه كل هذا صوت فيروز. انه صوت لبنان”.
بعدها، في صيف 1957، كتب سعيد عقل: “الصوت الذي يعتزّ به شعب بأسره، ويعتبره مجداً له وعطية. فيروز، إنها سفيرة لبنان إلى النجوم. جدّدت فكأنها خَلقت الغناء. وجمعت على الإعجاب بها: الموسيقي والطفل والحاصدة وراء السنبل. رفضت البكاء ولكنها جعلت الحنين زهرة في البال. غنّت الأرض، والوجوه الإنسانية، والثورة على الظلم. وأعطت أملاً للمشرّد، وطهارة للحسناء، وغداً أجمل للبائسين. لا تبعد فيروز عن الشعب: من أغانيه البسيطة، من سهراته وساعات حبه، من رقصاته الحارة الحلوة تأخذ مادة. ولكنها تتلاعب بكل ذلك حتى لتدفعه إلى القلوب التي استيقظت على البهاء، بطولة، ونشوة فرح، ولذة بإبداع الجديد. على صوت فيروز تُبنى اليوم أمّة”.
في صيف 1957 كذلك، صعدت فيروز إلى قلعة بعلبك ولُقِّبت بعد عامين بعمودها السابع. استعدت دمشق بعد طول انتظار لاستقبال نجمتها على مسرح معرضها في العام 1958، وذلك على وقع الأزمة السياسية الأمنية الحادة التي عصفت بلبنان. بيعت البطاقات كلها عند طرحها، وكتبت مجلة “الصياد”: “أثبت هذا أن الشوق لسماع فيروز شخصيا هو أمر عجيب. وأثبت أن شعبية فيروز لا تضاهيها شعبية مطربة أخرى. كما أثبت أن السياسة لن تقتل حب الفيروزيين في دمشق لفيروز لبنان والشرق العربي”. تخلفت فيروز عن هذا الموعد بسبب مرض ابنها هلي، وعادت ولبّت الدعوة في العام التالي. تكرّر اللقاء منذ ذلك العام حتى العام 1977، ولم ينقطع الا في 1965 بسبب حمل فيروز. غنّت فيروز في المعرض دمشقياتها الذهبية الخالدة.
في 1960، افتتحت سفيرتنا حفلها بـقصيدة سعيد عقل: “سائليني حين عطرت السلام كيف غار الورد واعتل الخزام/ وأنا لو رحت استرضي الشذا لانثنى لبنان عطراً يا شآم”. في العام التالي أنشدت من شعر الأخطل: “يا ربى لا تتركي وردا ولا تبقي اقاحا/ مشت الشام إلى لبنان شوقا والتياحا”. بعدها من شعر سعيد عقل في العام 1962: “قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب/ شآم ما المجد أنت المجد لم يَغِبِ”. تلتها في 1963: “شام يا ذا السيف لم يغب يا كلام المجد في الكتب/ قبلك التاريخ في ظلمة بعدك استولى على الشهب”. في 1964: “نسمت من صوب سوريا الجنوب/ قلت هلّ المشتهى وافى الحبيب”. في 1966، أنشدت فيروز من شعر منصور رحباني: “شآم أهلوك أحبابي وموعدنا/ أواخر الصيف آن الكرم يُعتصر”. وتبعتها في السنة التالية قصيدة جديدة من شعر سعيد عقل لحّنها محمد عبد الوهاب: “مرّ بي يا واعدا وعدا مثلما النسمة من بردى”.
في تلك السنوات الحافلة بالعطاء الدفّاق، غنّت فيروز في لبنان وسوريا وتجاوزت الخلافات والحروب التي فرضتها السياسة بلباقة قلّ مثيلها. عاصرت فيروز رؤساء المشرق وحكّامه، ولم تنشد لأيٍّ منهم. حافظ الأخوان رحباني على هذا التقليد بثبات، وجعلا منه ناموساً لا يتزحزح. في اواخر أيلول 1963، طارت فيروز إلى عمان حيث أحيت حفلاً حمل عنوان “حصاد ورماح: حكاية الأردن”، وذلك “تحت رعاية حضرة صاحب الجلالة الملك حسين المعظّم”. افتتحت فيروز العرض بقصيدة سعيد عقل “أردن أرض العزم”، وغنّت “على ذرى القدس أنا أصلي”، وخلا البرنامج من تحية خاصة بالملك. في نهاية شباط 1966، سافرت النجمة اللبنانية المتألّقة إلى الكويت وأحيت في مناسبة “العيد الوطني” ثلاث سهرات غنائية على مسرح سينما الأندلس. افتتحت فيروز هذه الحفلات بقصيدة رحبانية مطلعها: “العيد يروي ويروي سناها يلثم منها المحيا/ غنّ الكويت وغنّ علاها ويومها الوطنيا”، ولم تحمل هذه القصيدة أيّ كلمة مديح بشيخ البلاد. استقبلت مصر فيروز في خريف العام 1966، واحتفلت بدورها بهذه الزهرة التي تفتّحت وصارت “زهرة بديعة أصيلة من زهور الفن العربي المعاصر”، كما كتب رجاء النقاش.
في العام التالي، غنّت فيروز “زهرة المدائن” في الأرز، وغزت هذه القصيدة بسرعة البرق العالم العربي، من المحيط إلى الخليج. رد أهل فلسطين التحية في منتصف 1968. حمل نائبا القدس إميل غوري ومحيي الدين الحسيني مفتاح القدس إلى بيروت وسلّماه إلى فيروز مع صينية مصنوعة من الصدف تمثل المسجد الأقصى، وذلك في احتفال مهيب تكلمّ خلاله منصور رحباني وقال: “لن نكفّ عن الغناء لفلسطين. والعودة ستجرح سماء العالم بصراخنا. وفرحنا العظيم يوم تتدافع الأيدي السمر عائدة حاملة مفاتيح بيوتها”. قالت فيروز في تلك المناسبة: “سنعلّق المفتاح بركة في بيتنا ووعداً في قلوبنا”. بدورها، كرّمت سوريا فيروز في ختام صيف ذلك العام، ومنحتها الدولة وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى على خشبة معرض دمشق الدولي. ختمت نجمة المشرق العربي نشاطها لعام 1968 برحلة إلى المغرب العربي، وأحيت سبع حفلات في الجزائر وحفلتين في تونس، استُقبلت فيها استقبال الفاتحين.
في سنوات السبعينات الأولى، بلغت فيروز قمة مجدها، وتألّقت كما لم تتألّق من قبل. في دمشق، حمل كتيّب حفل “ناس من ورق” تحية من نزار قباني تقول: “من لبنان. من جذوع أرزه الذاهبة في التاريخ. من زرقة خلجانه، وهفيف أشرعته. من ترابه الذي له طموح سماء. من قممه المتصوّفة، وثلجه الناصع كثوب عروس. من أحراج زعتره، وأكواز صنوبره المبلّلة. من غيومه السابحة كسرب حمام أبيض. من حجارة بعلبك الحاضرة كقصيدة من الحجر. من عناقيد الضوء المتهدّلة من سقوف جعيتا. من صوت فيروز المسكون بالفرح. تحيةّ”. مرض عاصي، ثم جاءت الحرب اللبنانية وقضت على كل ما هو جميل في هذا الوطن، غير أن “صوت فيروز المسكون بالفرح” بقي وحده صامدا في وجه الريح. تحولت فيروز إلى أيقونة حية، وتخطّت بصوتها كل القيود والجدران التي صنعتها الحروب الصغيرة المدمّرة. كبرت اسطورة “سفيرة لبنان إلى النجوم”، وبلغت العالم الغربي في العقود الثلاثة الأخيرة.
باتت فيروز قمة من قمم الغناء العربي تمثل طرازاً مغايراً للون الذي جسدته كوكب الشرق أم كلثوم. قلدها وزير الثقافة الفرنسي جاك لانغ وسام الفنون والآداب في عهد فرنسوا ميتران في العام 1988، وقال يومذاك: “إنك تملكين سيدتي صوتا أكبر في ذاكرتنا وحنيننا إلى هذا اللبنان الذي كان فردوسا أرضيا وبرهانا حيا عبر عشرات السنين على التكامل الضروري والثري للثقافات والأديان”. بعدها، منحتها فلسطين “جائزة القدس”، وقلّدتها تونس “الوسام الوطني للإستحقاق الثقافي” في العام 1997، ووهبها الملك حسين أرفع أوسمة الأردن بعد عام. ثم كرّمها الرئيس الفرنسي جاك شيراك في العام 1998، ووهبها وسام جوقة الشرف. في العام التالي، اختارها الصليب الأحمر الدولي عام 1999 سفيرة تمثل العرب في العيد الخمسين لاتفاق جنيف حيث غنّت من كلمات جبران “الأرض لكم” عوضاً من إلقاء كلمة.
يوم بلغت “الصبية السريانية” السبعين، حوّل الفيروزيون هذا العيد الميلادي إلى عيد وطني، وكتب سمير عطاالله في هذا العيد: “العرش باق. ولا مطالبون. وليس هناك حتى انستازيا مزيفة، تدّعي انه تسري في دمائها دماء ملكية من سلالة فيروز، بل ليس هناك من يحمل الحق الطبيعي للتشابه: يخلق من الشبه أربعين، لا شبه الى اليوم. يكون الشبه ممكناً عندما يكون النموذج عادياً. ويصبح مستحيلاً عندما يكون هذه البنت السريانية الناحلة التي جاء اهلها من ماردين وأوكلوا اليها، مع الرحابنة، ان توسّع رقعة لبنان”.
هذا غيضٌ من فيضٍ غنائيّ يتعالى على كلّ انتماء، إلاّ الانتماء إلى الجمال والفنّ والحبّ والحرية. فإن دلّ هذا على شيء، فعلى أن صوت فيروز يمثّل روح الأمة. وهو في هذا المعنى، لا بدّ أن يكون أكبر من السياسة، ومن عهود الملوك والحكّام والقادة والرؤساء. هؤلاء جميعهم إلى زوال، أما الروح فإلى بقاء!
________________________________
* نشرت هذه المقالة، في ملحق جريدة النهار، للكاتب والباحث الجميل: محمود الزيباوي.
عدد المشاهدات : 1772
شارك مع أصدقائك
Comments are closed.