ضحكة من 3000 عام

ضحكة من 3000 عام

عبدالعزيز البرتاوي

استتحاف: “في المساء، يُقفلُ متحف “لاكاديميا” في البندقية. تُطفأُ الأضواءُ على لوحة جيورجيوني. اللوحةُ في الظلام. يرفُّ جفنُ العذراءِ التي تدركُ أنّ وليدَها سيموت. تُخرجُ له ثديَها”.

للمتاحف، مهما علا جلالها، كآبتها. كل متحف، كآبة مجسدة. مللّ، مجمّد في حيّز مرئيّ، ومحسوس. المتحف شاهد فناء الإنسان، مذكّر نسيانه: أن لا بقاء، ولا خلود. المتحف، صفعة في وجه الأماني، وقَفا الرغبات، أن ليس من شيء يخلد، وأنّ هذه شواهد الذين كانوا بالأمس، آملين. “الفنّ هو كل ما يهزنا، وليس بالضرورة كل ما نفهمه”.

عرف الإنسان نقطة ضعفه أمام الزمن: فناؤه، وبقاء الدهر الشامت، فاستخلف أشياءه وراءه، تحدّيًا حينًا، ودلالة اعتبار وعبور، أحايين أخر.

أي حزن، تخفيه أعين المنحوتات المحدّقة منذ الأبد. أي بلادة وكآبة. لا تهشّ ولا تنشّ، حطّت يدٌ، أم أقلعت ذبابة. يقول لك رجل الأمن المكلّف حماية منحوتة أكبر منك بثلاث مرّات، وأقدم من تاريخ قبيلتك: لا تلمسها. هل تتألم يا سيدي. تكلّم منحوتة فاتحة الفم، ولا يردّ عليك إلا الصدى.

منذ خمسة آلاف عام، تتمدّد هذه المنحوتة. فقدت قدمًا، في حرب، تلتها سرقة متحفها الأصليّ. باعها تجّار البشرية المنحوتة والحيّة على السواء. المنحوتة، قد تكون الناجي الوحيد، من حرب لم تبق على أحد في المدينة.

في المتحف، تتعلّم الصمت أيضًا. صمت الكآبة الجليل. رسومات، باد راسموها، ورسمهم. ثمة لوحة، حاولت شمّها، لأرى كيف تكون رائحة التاريخ، رسمة تعود لستمئة عام مضت. هاهي أطرافها متآكلة، وحين تصيخ السمع، تسمع أنينًا، لا تدري من أي يجيء.

ثمّة ثلاث رسائل، كتبها فان جوخ، لحبيبته ميلينيا. معروضة في المتحف أيضًا، إزاء رسومه. تبريرات وأكاذيب صغيرة، بين حبيبين، أفناهما الموت البارد، وبقيت حميميّتهما ساخنة، على مرأى العابرين، اللاهثين خلف خصوصيات المختبئين تحت التراب. لست تدري، ربما رسالة تكتبها لحبيبة سمينة الآن، يقرؤها أحمق، بعد ألف عام، ويقهقه على مرأى من حبيبته المتأثرة برومانسية القرون المنقرضة، ويشمتان بك أيها الفحل الثاوي في غبار السنين التالدة.

تنتصب المتاحف، شواهد للحضارة. كلما اغتنت أمّة حضاريًا، خلّدت ماضيها، في متاحف للعابرين، وإن لم يكن لها من الماضي سوى الغبار. وكلما افتقرت أمّة حضاريًا، كلما أبادت تراثها التالد، ولو كان في وقته، سيّد العالم، وأمير الزمان الحاكم. تلك سنّة التاريخ، يقطع السفلة الجذور التي جاءت بهم، غير آبهين، أنها هي من تمدّ الأغصان التي تحملهم، بنسغ البقاء، واخضرار الخلود.

في المتحف، قد تكون الزائرة المتأملة، لوحة بيكاسو، أجمل مما تتأمل. ثمة في تقاسيم الوجه الحلو، ما لا تطيق تأطيره، كلّ هذي اللوحات الخالدة. وإن بسمت، شاهقة، لافتتان بلوحة، ربما يشهق هنري ماتيس، في قبره. في المتحف، رجل يثرثر في هاتفه، حول ثمن اللوحة الباهظ، وينسى ثمن تأمّله الرخيص.

الطفل الزائر متحف أمّته، يشبه ورقة، تلقي التحيّة إلى الجذر الذي يثبّت شجرتها. الطفل الذي يحيا في وطن، لا يأبه للمتاحف، سوى ما استحوجته بيادق السلطان، ورهانات البروباغندا العابرة، يحيا مشتتًا، بلا جذر ولا مرفأ. قد تحمله أول سفينة هجرة، إلى وطن يأبه للمتاحف، وينشئ عليها حرسًا وجنودًا وحمايات، كما لو كانت بنوكًا ووزارات.

المتحف، ليس تمجيد الصورة، بل ترسيخها. كل بلد ينشئ متحفًا، يعني أنّ أحياؤه بخير، وإلى خير. إنه يقول لبنيه: هذا ما أصنع بموتاي فلا تخافوا. كل شيء مقدّر في بلد المتاحف، حتى ترِكات الذين رحلوا. والبلد الذي ينثر ماضيه المجيد، في مهبّ الغبار، وصفقات الاقتصاد الناهب، يقول لبنيه: كل شيء هنا، عرضة للتسليع والنهب ورضى رغبة الأمير، من ساحة حديقة الأحياء، وإلى حيّز ترِكة الراحلين. لا شيء يصمد أمام صرّة دراهم الخليفة. إننا لم نأبه للذين يحيون، أوَنلقي في حسباننا، بالًا للذين صاروا رميما.

كل متحفٍ، يهب المدينة القاطن فيها، مسحة من بهاء وجلال. كل مدينة، بلا متحف، مسعورة، عرضة للغبار والنهب والشركة العابرة، موضوعة تحت وطأة ضمير المسؤول الذي لا يملك ضميرا.

المتحف، انتصار الجغرافيا على التاريخ. وتصالح التاريخ، ربما، مع الجغرافيا. حيّز المكان، محاصرًا حيّز الزمان، يقول له: أيها المترحل من الأبد إلى الأبد، هاهم قد وضعوا حرسًا، لئلا تذهب. حان أن أنتقم الآن، بعد كلّ هذه السنين، من عوامل التعرية والنحت والرحيل والنسيان.  المتحف، تجميد الزمان، وتمجيده.

في المتحف، قشعريرة، تصيب البدن، وهو يهمّ بلمس قطعة تعود لستة آلاف عام. أيّ يد تعبت، عين كلّت، وهي تنحت حصانًا من حديد وفولاذ. أي ليل كان يسهر فيه فنّان، ما عاد منه الآن، سوى هذه القشعريرة، يمنحها للعابرين، أمام حصانٍ، لا يمتطيه أحد.

في المتحف، أي متحف، يخفق القلب، لكلّ منجز، تخطّه أرتال البشر التي رحلت، يبسم لهذي الحضارات، كيف تهاوت، وبقي منها، ما يذكّر بامتداد الرحلة، وطابور الانتظار، وفيه تدمع، متخيلًا الزمان، يقهقه أمام إعجاب تسفحه على قدمي منحوتة، كتب تحتها: عثر عليها، في إفريقيا الوسطى، وتعود لثلاثة آلاف عام، قبل الميلاد. “لا شئ يسمع الحماقات الأكثر في العالم، مثل لوحة في متحف”.

عدد المشاهدات : 1264

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.