عن عبدالباسط الساروت

عن عبدالباسط الساروت

عبدالعزيز البرتاوي

مطلع:
العنوان، اسمك. هذا الذي انشكّ على صدورنا وسامًا، لا يُخلع، ليس من شيء آخر أكثر مجدًا منه، لمكتوب يتلصّص على بهاء علوّك.

منتهى:
عينا عبدالباسط الساروت تطاردني في كل مواقع التواصل والتفاصل الاجتماعي، تظهر لي بسمته بين أكواب المقهى، وخلف صف النخيل في طريق وسط المدينة. ساعة يده اليمنى، ملابسه التي لم تلبس على نسق واحد، نحوله الأبديّ، لمّة شعره الأجمل من كل دعايات شامبو شركة رأسمالية، وتتبدى لي في شحوب بسمات أطفال حمص وحماة.

أنا آسف كثيرًا لعينيك، أعترف بخزي لك: لم أكن أتابع أخبارك، حتى جاء صريخ الفاجعة، أن قد رحلتَ، ولا عودة. أنا آسف أن كريستيانو رونالدو كان يستحوذ على اهتمامي طيلة الفترة التي كانت تخضّبك فيها دماء المعارك، وتكسو لمّتك الجميلة بواقي أغبرة القصف وبارود الخراب.

كثيرون هم الذين أكلتهم الحرب. وأكثر منهم من لا زالوا في شتات الانتظار. فمنهم من قضى حربه، ومنهم من ينتظر، لكن رحيل عبدالباسط، لا يشبه ما قبله. هذا الفتى الذي اعتاد قول أنا، لم يتردد حين سأل الموت الأحمر آخِرًا: من فتى؟

جاء عبدالباسط يهتف: “حيّ على السلاح. جئت من التاريخ كلّه، وجاءَ من فراغه العدّو، شاهرا فراغه، وعقمه”. تدوس أنف العلويّ المشهِر فجوره على مرأى العالم القذر ومسمعه. جئت نقيًا يلطخ نقاء عينيك وميض كاميرات الصحافيين عابري شركات الاتجار الإعلامي، والتراشق بالكلمات المأجورة. عهر على عهر، واتجاه متقاطع يفضي إلى حمّام الحكومة.

وحيدًا، شريدًا، بعيدًا، طريدًا، كما ينبغي لملك صعلوك، في أطراف تركيا، هناك حيث ثوى قبلك جدك الطريد، الملك الضليل، وهو ينشد لحمامة وقبر امرأة غريبة تنام جوار عسيب: “وكل غريب للغريب نسيبُ”.

أيها الأسمر، في زماننا الأسود، الأسودِ من قهوتنا المرّة، والأمرّ من حزن أمك الحبيبة، تودعك الثرى رفقة إخوتك الآخرين، عائلةً من النبل والمجد والكرامة، تصبح اليوم خبرًا في النشرة، وحجرًا في المقبرة، ونشيدًا على ألسنة العابرين الذين لا ينسون.

أيها النبيل في عرش خلودك الآن، لا أهداف يمكن للعدوّ تسجيلها بعد اليوم معك، ولا فيك. كانت رصاصاته الأخيرة آخر أهدافه المتسللة الغبية المغشوشة، أمام كاميرات الفار العالمية، وهي تعلن استمرار المباراة، بين البراءة والحقد، الأطفال والبراميل، العجزة المشردين في منافي الأرض، وطبيب عيون أعمى القلب والبصر والبصيرة.

في الواحدة ليلًا، افتح برنامج انستقرام. أضع بخشوع علامتا إعجاب، على منشورين تحمل صورتك. ثلاثة. أربعة علامات. تبتسم في إحداها، تبدو ساهمًا في الثانية، وتنشد في الأُخريين. أشاهد صورة فتاة جميلة، تضحك لملتقط صورتها، ترفع يدها بدلال، ويوجعني قلبي. لن أضع إعجابًا هذه الليلة، تهزمني صورك الخالدة، وأمضي عميقًا في دم هزيمتي، عارفًا أن أقصى ما أملكه وضع إعجابٍ صغير في عالم ملكوتك الشاهق بالجلال والجمال.

الثانية ليلًا، أفكّر: لقد كان لك من الحضور إثر رحيلك، فيما يخصّ محيطي الصغير، أكثر مما كان آن حياتك، وكذلك القديسون والنبلاء والأنبياء. رب قدّيس مات مقموعًا مغمورًا، وهو اليوم حاضر بالتماثيل والمتاحف، كأن لم تقذفه المدينة نفسها بحجارة النكران، ولم ترمه الأقواس بنبال الجحود.

كم كاميرا كانت تملك إشهارك أبا جعفر، في عالم قائم على الإشهار والتنافس الصوري لكل توافه الكون. من ذا اليوم ليس نجمًا وسيمًا وعالما قويما وكاتبا عظيما -بالطبع لم يحظ بقراءة عينيك-، من ذا اليوم ليس كاملًا مكملا يناوش الناس حياتهم ليريهم آخر نماذج الأنبياء والمرسلين والحواريين والفاهمين كل شؤون الحياة، ورغم ذاك مضيت في عزلة المنافي، تنام على أول فراش، لفرط تعبك، وتغفو بأول خندق، وتأكل أبسط زادٍ، وتشرب كدرًا ويشرب غيرك صفو السحت.

مُرّة كانت أيامك، أيها الآتي من بلاد السكْر والسكّر والمتّة وبردى وعرق سوس شوارع حمص والشام. ملآنة بالعطش لياليك، أنت الذي كنت قادرًا على تبادل أنخاب الفودكا الروسية في مجامع القوم الذين أكلوا من القتل ما لم يأكلوا بالحياة، وشربوا بدماء الأطفال ما لا يغسله مطر، ولا تكنسه ريح.

تدق الثالثة صباحًا، ولوهلة أتذكر يوم كتب طريدٌ سابق لبشار، يطلب حلق لحية الرائد طلاس، خوف أن يبدو شبيهًا ببن لادن، ونشرت العربية مطلبه القذر على رأس أخبارها التي كلها أقدام، وفي اللحظة التي كانوا يناقشون لحيته -حدث هذا بالنصّ والصورة- كنتَ تمسح التراب عن ذقنك، وتغسل دم آخر الذين كفنتهم غروبًا عبدالباسط. يخافون أن تبدو كإرهابيّ، بينما كانت كل حياتهم تأجيجًا لهذا الإرهاب. من منفاه الأوروبي البارد، كان اللاجئ السافل يكتب عن ترطيب حرارة جحيمك العربي، محددًا لك لون المكياج، وطول الشارب، وكثافة اللحية، في عالم كل ما فيه تمثيل وتزويق واغتيال للحقيقة.

امض أبا جعفر خالدًا، فالمدينة التي أقامت نصبًا لأبي سليمان، خالد بن الوليد، لا زالت تنجب سيوفًا مصلتة، برغم الإذلال والتعتيم والقتل والدبابات التي لا توجه فوّهاتها إلا إلى صدور مواطنيها، ومآذن جوامعها، وسقوف بيوت أهاليها الواهنة، وبيادر زروعهم التي روّعها القصف فاصفّرت كما شفاه فتيات مخيّم لجوء، وما كارثة حماة الرهيبة عنّا ببعيد.

الرابعة فجرًا. يعلو الأذان سماء المدينة، أذان نديّ، يشبه ذاك الذي كنت تنادي به في ليالي الطراد الباردة، وعلى أعتاب الخنادق البعيدة، برقة صوتك المبحوح، تصغي لك صعاليك الحيّات وغرائب الأشجار وفرائد الطيور التي تنتظر الفجر معك، وتطير صباحًا كلما اعتليت صهوة يومك الأبديّ، ولكم تفقد اليوم هذا الشجو، وتنتظر شروقك، كما نفقده نحن وأكثر.

مبتدأ:
أيها الحارس الأبدي لمرمى كرامتنا، لم تخض مباراتك الأخيرة مع النظام ولا الفوضى، لا مع القتلة ولا القتلى. لقد خضتها مع حزننا، وبؤسنا، وأسانا، ولقد انتصرت. رحلت نقيًا، وبقينا في عالم ملوّث. تدقّ الخامسة صباحًا الآن، وعلى المدينة تشرق شمسٌ، لن تراك.

 

عدد المشاهدات : 3589

 
 

شارك مع أصدقائك

Comments are closed.